أخبار المركز
  • أسماء الخولي تكتب: (حمائية ترامب: لماذا تتحول الصين نحو سياسة نقدية "متساهلة" في 2025؟)
  • بهاء محمود يكتب: (ضغوط ترامب: كيف يُعمق عدم استقرار حكومتي ألمانيا وفرنسا المأزق الأوروبي؟)
  • د. أحمد أمل يكتب: (تهدئة مؤقتة أم ممتدة؟ فرص وتحديات نجاح اتفاق إنهاء الخلاف الصومالي الإثيوبي برعاية تركيا)
  • سعيد عكاشة يكتب: (كوابح التصعيد: هل يصمد اتفاق وقف النار بين إسرائيل ولبنان بعد رحيل الأسد؟)
  • نشوى عبد النبي تكتب: (السفن التجارية "النووية": الجهود الصينية والكورية الجنوبية لتطوير سفن حاويات صديقة للبيئة)

المصري اليوم:

أ. د. أحمد يوسف أحمد يكتب: الصراعات الداخلية العربية والجمود المستمر فى 2024

06 يناير، 2024


ينطوي التحليل التالي على محاولة لاستشراف مستقبل الصراعات الداخلية العربية في 2024، وسوف تبدأ هذه المحاولة بتقييم تجربة الكاتب في المهمة المشابهة التي أُسندت إليه في العام الماضي للانطلاق منها إلى محاولة تحديد الثابت والمتغير في عام 2023، لتسهيل طرح بعض الأفكار الخاصة بالحال الذي يمكن أن تؤول إليه تلك الصراعات في 2024. وهكذا فإن التحليل سوف يتفرع إلى قسمين، يتناول أولهما أبعاد تطور الصراعات الداخلية العربية في 2023، تمهيداً لمحاولة استشراف تداعيات هذا التطور على حال هذه الصراعات في 2024.

خبرة عام مضى:

كنت قد شرفت بتكليف مركز "المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة" لي بالمهمة نفسها في العام الماضي، ومن المفيد أن أعرض باختصار للخطوط العامة التي طرحتها في محاولة استشراف مستقبل الصراعات الداخلية في اليمن وليبيا وسوريا في 2023، وهي عملية مفيدة لأغراض التعلم الذاتي، خاصةً أنه من المعروف أن استشراف المستقبل ينطوي على صعوبات شديدة. 

وقد قمت في تحليل العام الماضي بما أسميته مغامرة تحليلية افترضت "الجمود" في المتغيرات المحلية، وهو لا يعني "السكون"، وإنما عدم الخروج عن النموذج العام للصراع. وافترضت كذلك أن المصدر الوحيد المُحتمل للتغيير بالنظر إلى هذا الجمود، وإلى انشغال القوى العظمى والكبرى بأولويات أهم آنذاك هي الحرب في أوكرانيا؛ هو حركة المتغيرات الإقليمية التي كانت آنذاك تشهد نزوعاً واضحاً إلى التهدئة بين قوى رئيسية في النظام العربي ومحيطها الإقليمي، كما تمثل بصفة خاصة في التقارب بين هذه القوى وبين كل من تركيا وإيران، وهو تطور مهم بالنظر إلى الدور الذي تؤديه هاتان الدولتان في أهم الصراعات العربية (تركيا في سوريا وليبيا، وإيران في سوريا واليمن). ومع ذلك، فقد ذهب التحليل إلى أن أي تطور سيحدث في تلك الصراعات لن يكتمل في عام 2023؛ بالنظر لتعقدها.

وبالفعل شهد عام 2023 استمراراً للاتجاه نحو التهدئة بين القوى العربية ودول محيطها الإقليمي، وتمثلت ذروة هذا الاتجاه في توقيع الاتفاق السعودي الإيراني في مارس الماضي الذي وضع نهاية لمرحلة قطع العلاقات بين البلدين في 2016 بعد إحراق محتجين إيرانيين لمقار دبلوماسية سعودية في إيران عقب صدور أحكام قضائية سعودية بإعدام رجل الدين الشيعي نمر النمر و46 آخرين. غير أن عوامل عديدة بدأت تؤثر في اتجاه التهدئة، منها إعادة الرياض وطهران لحسابات المكسب والخسارة من استمرار القطيعة بينهما، وكذلك دور عوامل خارجية في تعزيز هذا الاتجاه تمثلت في مساعٍ عراقية لتجاوز الأزمة رغبةً في إيجاد توازن بين علاقات العراق العربية وعلاقته مع إيران، وكذلك مساعٍ من الصين التي ترتبط بعلاقات قوية مع كل من السعودية وإيران، ومن ثم فقد كان من مصلحتها عودة العلاقات بينهما. 

وقد نجم عن هذه العوامل نجاح الرياض وطهران في تجاوز القطيعة بينهما بتوقيع اتفاق مارس 2023، وقد بُنيت آمال كثيرة على أن يفضي إلى نتائج إيجابية تتصل بتسوية عديد من الصراعات وعدم الاستقرار داخل عدد من البلدان العربية؛ بالنظر لدور طرفي الاتفاق في حل تلك الصراعات. ومما عزز هذه التوقعات أن مسار التهدئة العربية مع قوى المحيط الإقليمي قد امتد ليشمل مصر وتركيا بإعلان رفع مستوى العلاقات المصرية التركية إلى مستوى السفراء في يوليو 2023. بيد أن اللافت أن هذه التطورات الإيجابية لم تُفض إلى خطوات عملية على طريق تسوية أي من تلك الصراعات، وهو ما يتضح في التالي:

1- الصراع في اليمن: شهد عام 2023 تحركين رئيسيين بهدف تسوية هذا الصراع، وقع أولهما في صنعاء في إبريل الماضي بين وفدين أحدهما سعودي والثاني عُماني من جانب والحوثيين من جانب آخر. أما التحرك الثاني فقد تمثل في زيارة وفد حوثي للرياض في سبتمبر الماضي. غير أنه لوحظ عدم التوصل إلى نتائج محددة، كما أن الخطاب السياسي للحوثيين في وسائل إعلام رسمية لم يتخل عن مفرداته ومصطلحاته العدائية لدى الحديث عن التحالف العربي ودوره في دعم الشرعية اليمنية التي ربما لُوحظ أنها لم تكن ممثلة في الاتصالات السابقة، وهو ما يعني استمرار الموقف الحوثي الرافض للاعتراف بها، ما يؤكد استمرار احتقان الوضع الداخلي وتشدد الطرف الحوثي، ومن ثم صعوبة التحرك باتجاه التسوية اليمنية.

2- الصراع الليبي: تكررت الظاهرة نفسها في الصراع الليبي، إذ شهد استمرار الاشتباكات المتقطعة بين المليشيات المدعومة بقوى محلية أو خارجية، وعدم حسم التوافق على قوانين الانتخابات التشريعية والرئاسية بالرغم من موافقة مجلس النواب الليبي عليها في أكتوبر الماضي. 

والحقيقة أن الصراع في ليبيا يتميز عن مثيليه في سوريا واليمن بما يمكن تسميته بصراع "الفرص الضائعة"؛ بمعنى أنه تم التوصل غير مرة - عكس الحالتين الأخريين- إلى مسار ينتهي بإجراء الانتخابات، لكن مصالح المليشيات وداعميها من قوى داخلية وخارجية تحبط وصول المسار إلى غايته. ويُضاف إلى ما سبق، الخلاف المستجَد بين لجنة (6+6) المكلفة بإعداد القوانين الانتخابية مع المبعوث الأممي، عبدالله باتيلي، حول مبادرته الهادفة لجمع القيادات السياسية بهدف التوصل لتوافق يفضي إلى إجراء الانتخابات، ووصفت اللجنة المبادرة بأنها غير قانونية وغير شرعية لأن دور البعثة الأممية هو دعم المؤسسات الوطنية وليس الحلول محلها، وأكدت اللجنة ضرورة دعوة مجلسي النواب والدولة إلى الحوار المباشر للتوافق على باقي خطوات إنجاز الاستحقاق الانتخابي. وعلى صعيد الأدوار الإقليمية، جدد البرلمان التركي، في 30 نوفمبر الماضي، مدة بقاء القوات التركية في ليبيا 24 شهراً.

3- الصراع في سوريا: استمر تجمد هذا الصراع - بمعنى عدم قدرة أي من أطرافه على حسمه عسكرياً- عند مستوى منخفض من العنف ربما باستثناء حادثة استهداف حفل تخرج طلاب الكلية الحربية في حمص، والغارات التركية في الربع الأخير من العام الماضي والتي طالت حقولاً نفطية ومنشآت أخرى تتعلق بإنتاج الطاقة تديرها الإدارة الذاتية التابعة لقوات سوريا الديمقراطية "قسد"، على أساس أن أنقرة تعتبرها قاعدة لحزب العمال الكردستاني.

متغيرات جديدة في 2023:

ما سبق لا يعني أن عام 2023 لم يشهد أي جديد نوعياً، ويمكن حصر أهم المستجدات في خريطة الصراعات الداخلية العربية ومعادلاتها في أمرين، أولهما اتساع نطاقها بدخول السودان في قائمة دول الصراعات، والثاني دخول متغير إقليمي جديد يتمثل في تداعيات المواجهة الفلسطينية الإسرائيلية في قطاع غزة على الصراع في كل من اليمن وسوريا. ويتضح ذلك في الآتي:

1- الصراع السوداني: في منتصف إبريل 2023، انضم السودان إلى قائمة دول الصراعات الداخلية المسلحة في النظام العربي، بالصدام العنيف داخل المؤسسة العسكرية السودانية بين الجيش وقوات الدعم السريع. وكان السودان بتقنين قوات الدعم السريع قد دخل شريحة الدول التي تعرف ظاهرة "ازدواجية المؤسسة العسكرية"؛ بمعنى شمولها لكيان عسكري موازٍ، صحيح أنه يصبح جزءاً من المؤسسة العسكرية الرسمية، لكنه لظروف نشأته والهدف منها يبقى محافظاً على استقلالية فعلية. 

وتنشأ مثل هذه الكيانات عادةً استناداً لقاعدة اجتماعية قبلية أو مذهبية، بحيث يتحول أي خلل في العلاقة بين هذه الكيانات وسلطة الدولة إلى صدام داخلي له قاعدته الاجتماعية، وقد يصل إلى حد الحرب الأهلية. وارتبطت نشأة هذه الكيانات عادةً بمشكلة حادة استعصت على السلطات الرسمية مواجهتها كصراع داخلي بين فئات اجتماعية متناحرة على أسس قبلية أو طائفية، أو هجمة إرهابية ضارية تتعرض لها الدولة، أو احتلال خارجي. وبالتالي تنشأ تلك الكيانات لمواجهة هذه التحديات، لكنها بعد أن تنجح في مهمتها الأصلية تبدأ في التحول إلى كيان له رؤيته السياسية الخاصة، والتي قد تتعارض في ظروف معينة مع رؤية السلطة الحاكمة في الدولة، فيحدث الصدام.

وهذا ما وقع في السودان منذ 15 إبريل الماضي، وقد تبادل الجانبان التهم بارتكاب "جرائم حرب" وتلقي دعم خارجي، كما اتهمت قوات الدعم السريع الجيش السوداني بأنه امتداد لنظام عمر البشير، بدليل أن عناصر جماعة الإخوان المسلمين الذين كانوا عماداً للنظام السابق تؤيده، ولم تتمكن محاولات الوساطة التي رعتها السعودية مع الإدارة الأمريكية من وقف القتال، بل لقد اتسع نطاقه في آخر شهور العام. وفي شهر ديسمبر الماضي، وافق مجلس الأمن على طلب السلطة السودانية إنهاء البعثة الأممية، في دليل جديد على عجز أدوار الوساطة الخارجية في هذا الصراع. 

والمشكلة أن قاعدة القوة الاجتماعية التي يتمتع بها طرفا الصراع السوداني تجعل حسمه عسكرياً شبه مستحيل، حتى مع التقارير الأخيرة التي أشارت إلى مكاسب لقوات الدعم السريع، وقدرت نسبة ما تسيطر عليه من الأرض بحوالي الثلثين. وبالتالي يبدو السودان مرشحاً للبقاء ضمن قائمة دول الصراعات الداخلية الممتدة.

2- الحرب الإسرائيلية في غزة: المتغير الثاني المهم الذي شهده عام 2023 هو المتعلق باندلاع المواجهة بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل منذ 7 أكتوبر الماضي وامتدادها حتى الآن دون أُفق واضح للكيفية التي ستنتهي بها، وطبيعة هذه النهاية. والمهم من منظور التحليل الحالي هو الربط الذي حدث بين هذه المواجهة والصراعات الداخلية العربية وتحديداً في اليمن وسوريا، والذي نبع من مشاركة الحوثيين المسيطرين على معظم شمال اليمن في الحرب الجارية، وكذلك مشاركة فصائل من داخل سوريا فيها وإن اختلفت طبيعة المشاركة ودرجتها. 

فقد شارك الحوثيون بمنع السفن التجارية المتجهة لإسرائيل عبر باب المندب من استكمال رحلتها، وشن هجمات مباشرة بالصواريخ والطائرات المُسيَّرة على الأهداف الإسرائيلية في مدى هذه الصواريخ والطائرات، وهو أساساً إيلات. ومن المُعتقد أن تأثير الهجمات المباشرة محدود، غير أن أحداً لا يمكنه تحديده بدقة؛ بسبب سياسة التعتيم التي تتبعها إسرائيل بخصوص خسائرها، لكن التهديد بمنع التجارة الإسرائيلية المنقولة بحراً يمكن أن تكون له تأثيرات حقيقية، وإن كان تقديرها بدقة ليس سهلاً، وقد يكون تكوين الولايات المتحدة للتحالف الدولي البحري "حارس الازدهار" مؤشراً على القلق من نتائجه، ناهيك عن دلالته الرمزية. 

والمهم من منظور هذا التحليل هو تأثير هذه التطورات في الصراع في اليمن، والذي يمكن أن ينجم بطريقتين، أولاهما توظيف الحوثيين انخراطهم في حرب غزة لتحقيق مكاسب لهم تتمثل في احتمالية زيادة شعبيتهم داخل اليمن عموماً وفي الجزء الذي يسيطرون عليه من شمال اليمن خصوصاً، وقد أمكن استخلاص أنهم يطمحون إلى هذا فعلاً من التصريحات الإعلامية لبعض قادتهم. والطريقة الثانية أن تتطور الأمور إلى ضربة يوجهها التحالف الدولي لمقدرات الحوثيين العسكرية، بحيث يمكن أن تؤثر في ميزان القوى بينهم وبين معسكر الشرعية، وإن كان هذا الاحتمال لا يبدو مرجحاً حتى كتابة هذه السطور بسبب الطريقة الدفاعية التي يتصرف بها التحالف تجاه هجمات الحوثيين، والتي تتسق مع رغبة الإدارة الأمريكية في عدم توسيع نطاق حرب غزة.

أما الجبهة السورية، فقد اقتصر انخراطها في حرب غزة على أعمال محدودة، تمثلت في إطلاق صواريخ على أهداف إسرائيلية قريبة، على نحو يجعل هذه الجبهة أقل جبهات المواجهة أهمية. كما أن إسرائيل دأبت على ضرب أهداف داخل سوريا قبل الحرب الراهنة. وبالتالي لا يُعتقد أن هذه التطورات سيكون لها تأثير مهم في مجريات الصراع في سوريا إلا إذا اتسع نطاق المواجهة لتصبح حرباً إقليمية ستكون لها بالتأكيد أبعادها العالمية.

الجمود في 2024:

من الواضح من مسار التحليل السابق أن مسار الصراعات داخل بعض البلدان العربية في عام 2024 سوف يكون أقرب إلى الجمود منه إلى التغير؛ ليس بمعنى سكون التفاعلات العنيفة فيه، فأغلب الظن أنها ستستمر وإن بدرجات مختلفة من صراع لآخر، وداخل الصراع الواحد عبر الزمن، ولكن بمعنى عدم حدوث تحول في النموذج العام للصراع، وذلك من حيث استمرار الاحتقان بين أطرافه المحليين، لدرجة أن التطورات الخاصة بالتهدئة بين الأطراف العربية ونظيرتها الإقليمية المنخرطة في تلك الصراعات لم تؤد حتى الآن لأي مردود إيجابي باتجاه تسويتها، حتى في الحالة التي يبدو فيها أطراف الصراع المحليين أكثر استعداداً للتفاهم كما في الصراع في ليبيا.

ولا يُعتقد في الظروف الراهنة أن القوى الإقليمية والعربية الفاعلة أو المنخرطة في تلك الصراعات ستعطي أولوية للضغط من أجل تسويتها، خاصةً أن التكلفة التي باتت هذه القوى تتحملها قد قلت كثيراً عن ذي قبل بسبب انخفاض مستوى العنف فيها. كما أن المواجهة الراهنة مع إسرائيل لا تجعل ممارسة إيران ضغوطاً على الحوثيين واردة. كذلك فإن القوى العالمية ما زالت لديها انشغالات أخرى، كما في الحرب في أوكرانيا على سبيل المثال.

ويبدو الأمل الوحيد في حدوث تطورات إيجابية في 2024 أن يُصاب بعض أطراف الصراعات المحليين بحالة من الرشادة تدفعهم إلى رؤية جدوى وجود دولة موحدة لمصلحة الجميع. بيد أنه حتى هذا الاحتمال للأسف تم إجهاضه في خبرة 2023 كما في الحالة الليبية التي راود الأمل البعض بخصوصها في أن يكون الإعصار المدمر الذي تعرضت له مدينة درنة سبباً في التقدم بخطى التوافق الوطني، غير أنه سرعان ما أحبطت المصالح المتضاربة للأطراف هذا الأمل وحولته سراباً.

* أستاذ العلوم السياسية فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية - جامعة القاهرة

*لينك المقال في المصري اليوم*