شهدت الفترة الأخيرة زخماً في تحركات التيار الصدري في العراق، في ظل اقتراب موعد الانتخابات النيابية العراقية في 2025، فيما يؤشر على احتمالية عودة التيار مرة أخرى إلى المشهد السياسي في العراق، بعد قرار مقاطعة العملية السياسية في يوليو 2022.
مُؤشرات مُتعددة:
بدت في الآونة الأخيرة عدد من المؤشرات على عودة التيار الصدري للانخراط في الحياة السياسية العراقية، يمكن إبراز أهمها كما يلي:
1. تغيير اسم التيار: أعلن مقتدى الصدر في منتصف إبريل 2024، تغيير اسم التيار الصدري إلى "التيار الوطني الشيعي" إذ تم لاحقاً تكريس استعمال هذا المسمى من خلال استخدام الصدر توقيعه مع الاسم الجديد للتيار في عدد من الوثائق الصادرة عن التيار.
على الرغم من أن تغيير اسم التيار لا يحمل بالضرورة إعلاناً صريحاً من قبل الصدر عن الرجوع للحياة السياسية، فإن اختيار اسم "التيار الوطني الشيعي" يحمل أبعاداً انتخابية في المقام الأول، فمن خلال هذا المسمى الجديد يستهدف الصدر "الإطار التنسيقي للقوى الشيعية في العراق" وذلك لتحقيق هدفيْن: الأول، هو كسر احتكار الإطار التنسيقي لتمثيل الشيعة في العراق، وذلك من خلال طرح بديل سياسي آخر؛ إذ يسعى التيار إلى التواصل مع شرائح جديدة في الطائفة الشيعية في العراق، وهي التي ليست بالضرورة من مؤيدي قوى الإطار التنسيقي ممن يمكن وصفهم بـ"الأغلبية الصامتة"، والهدف الثاني، هو تأكيد انفتاح التيار على كافة القوى السياسية في المجتمع العراقي من جميع الطوائف، ولذا جاء لفظ "الوطني"، ويتسق ذلك بشكلٍ عام مع توجه التيار الصدري الداعي إلى تشكيل حكومة وطنية دون النظر إلى المحاصصات الطائفية؛ إذ أعلن الصدر في عدة مرات –ولاسيما عقب فوز تياره بالأغلبية في انتخابات 2021– عن تطلعه لتشكيل حكومة تكنوقراط وطنية.
من المُرجح أن الاسم الجديد سيستخدم لأغراض الحشد والتعبئة الانتخابية، ولكن دون استخدامه للمشاركة الفعلية في الانتخابات؛ إذ تحظر المادة (5) من قانون الأحزاب العراقي استخدام أسماء طائفية للأحزاب أو التيارات السياسية.
2. تغييرات على مستوى القيادات: أعلن مُقتدى الصدر في وثيقة حملت توقيعه عن استبعاد أحد القيادات في التيار لعدم التزامه بأخلاقيات العمل، ويمكن فهم هذا الإعلان في ظل السياق الأوسع لاستعداد التيار الصدري للعودة للانتخابات؛ إذ يحاول الصدر في هذا التوقيت إعادة ترتيب التيار الصدري من الداخل استعداداً للانتخابات المقبلة، وبشكلٍ عام فإنه من المرجح أن يكون الصدر قد قام بعدد من الترتيبات الداخلية في التيار من حيث إقالة رموز بارزة فيه أو استبدالها أو تغيير مناصبها داخله، يصبح ذلك ذا أهمية مُتصاعدة في هذه الفترة بالنسبة للصدر خصوصاً في ظل الانقسامات المتكررة بين أعضاء التيار الصدري؛ إذ ظهرت هذه الانشقاقات خصوصاً في أعقاب قرار الصدر بالانسحاب من الحياة السياسية والانسحاب من البرلمان؛ إذ يتخوف الصدر من احتمالية فقدان التيار تأثيره وقاعدته الجماهيرية بما يؤثر فيه ككتلة سياسية وتصويتية واحدة.
3. لقاء الصدر بـالسيستاني: أجرى مقتدى الصدر زيارة مهمة، في مارس 2024، للمرجع الشيعي الأعلى في العراق علي السيستاني، وهو الذي يرفض استقبال السياسيين العراقيين منذ نحو عقد من الزمان. ورغم أنه لم يصدر عن مكتب السيستاني أي تعليق على طبيعة اللقاء وسبب الزيارة، فإن الزيارة قُرئت بأنها استئذان من جانب الصدر للمرجع الأعلى للعودة للحياة السياسية. وما تلا ذلك من لقاءات أجراها مسؤولون في التيار مع أطراف مدنية ونواب، مضمونها الاستعداد للعودة مرة أخرى.
دوافع مُتنامية:
جاءت تحركات التيار الصدري الأخيرة، التي تشي بعودة مُحتملة للحياة السياسية العراقية مدفوعة بعدد من العوامل يمكن إبراز أهمها كما يلي:
1. استثمار الخلافات: يسعى مُقتدى الصدر إلى استثمار الخلافات وحالة التوتر بين بعض قوى الإطار التنسيقي من أجل طرح نفسه كبديل "شيعي" و"وطني" قادر على قيادة دفة البلاد في المرحلة المقبلة؛ إذ كانت الانتخابات المحلية الأخيرة التي أُجريت في العراق كاشفة لحجم الخلافات بين أعضاء الإطار التنسيقي؛ إذ لم تستطع قوى الإطار الاتفاق حول الترشح للانتخابات على قائمة واحدة؛ الأمر الذي أدى إلى دخول قوى الإطار التنسيقي الانتخابات بشكلٍ مُنفرد، وهو الذي أدى إلى خسارة دوائر انتخابية مُهمة مثل: البصرة وكربلاء وواسط، ويرى الصدر أنه في حالة استمرار مثل هذه الخلافات بين أعضاء الإطار التنسيقي بل وتفاقمها فإن حظوظه في الفوز بأغلبية مثل التي حظى بها في انتخابات 2021 تتزايد بشكلٍ جدي.
وربما تكون بوابة الصدر لتعميق الخلاف داخل الإطار التنسيقي، هي التحرك الحالي في البرلمان من أجل تعديل قانون الانتخابات النيابية؛ إذ يسعى عدد من القوى السياسية العراقية من ضمنها أعضاء في الإطار التنسيقي في مجلس النواب العراقي إلى تعديل قانون الانتخابات؛ بحيث يتضمن اعتماد الدوائر الانتخابية المتعددة أو الإبقاء على الدائرة الواحدة حسب نظام "سانت ليغو" وتغيير معادلة القاسم الانتخابي من 1.7 إلى 1.9.
ويُعد هذا الأمر إشكالياً للإطار التنسيقي ومنفعياً للتيار الصدري لعدّة أسباب، أولها، هو أن القانون قد تم تعديله بالفعل في عام 2023 ليتضمن نظام الدائرة الواحدة بنظام "سانت ليغو" بدلاً من نظام الدوائر المتعددة التي كان معمولاً بها في انتخابات عام 2021، وتعديل القانون في هذه الفترة الوجيزة سيتضمن إيحاءً بأن القانون يتم تعديله بناء على المصالح الحزبية للقوى المهيمنة في البرلمان (الإطار التنسيقي) وهو ما يصب في صالح الرواية الصدرية التي تتهم قوى الإطار بالعمل من أجل مصلحتها الشخصية.
الأمر الثاني، هو أن نظام الدوائر المتعددة مُفيد للتيارات السياسية ذات الثقل السياسي المتركز داخل مناطق جغرافية معينة، وهو أمر بحد ذاته يكشف عن الخلافات داخل الإطار التنسيقي، فنظام الدائرة الواحدة الذي يعامل المحافظة كلها كدائرة انتخابية واحدة كان مُحبذاً لدى قوى الإطار التنسيقي في السابق؛ نظراً لأن الإطار يترشح بقائمة واحدة في كل محافظة، إلا أنه اليوم وبعد الخلافات بين قوى الإطار، ترى بعض التيارات السياسية ومنها تحالف دولة القانون برئاسة نور المالكي، أن العودة لنظام الدوائر المتعددة أفضل في الوقت الحالي ذلك نظراً لهشاشة تحالف الإطار وعدم اليقين الذي يحيط بمستقبل الترشح بشكل مشترك، ولاسيما في ضوء التجربة السلبية للإطار في الانتخابات المحلية.
وعليه؛ فإن تحالفات مثل: دولة القانون وتيار الحكمة الذي يرأسه عمّار الحكيم –على سبيل المثال لا الحصر– قد يكون من المفيد لها الترشح مُنفردة في دوائر انتخابية متعددة في مناطق تمتلك ثقلاً سياسياً فيها؛ ومن ثم سيكون من المضمون تمثيلها، أما بعض قوى الإطار التنسيقي الأقل شعبية وتمثيلاً جغرافياً فلا تحبذ مثل هذه المقاربة وتسعى إلى الترشح بشكلٍ مشترك نظراً لأن الترشح بشكلٍ مشترك على قائمة واحدة مع باقي قوى الإطار التنسيقي سيضمن وجود تمثيل لها في البرلمان، وهو ما لا قد يتحقق في ظل الترشح على نظام الدوائر المتعددة.
وفي هذا الإطار؛ فإن بعض التقديرات تُشير إلى أن المالكي قد تواصل مع مُقتدى الصدر (عبر وسطاء) في مارس 2024؛ وذلك لإقناعه بالعودة للحياة السياسية، كما قدم مقترحات التعديلات على قانون الانتخابات للصدر، والتي تتوافق بشكلٍ كبير مع تطلعات الأخير، كما تُشير بعض المصادر إلى وجود نية لدى المالكي بالوصول لتفاهمات مع الصدر حول الانتخابات المقبلة قد تتضمن شكلاً من أشكال التعاون السياسي بين التياريْن، وفي هذا السياق قد يستغل الصدر المبادرة الخاصة بالمالكي، للدفع برؤية خاصة به عن التعديلات الخاصة بقانون الانتخابات قد تعمق الخلاف بين قوى الإطار التنسيقي ذاته.
2. توظيف التباعد بين السوداني والإطار التنسيقي: منذ تشكيل محمد شياع السوداني للحكومة في العراق، في أكتوبر 2022، بدت بوادر أزمة بينه وبين قوى الإطار التنسيقي خاصةً فيما تعلق بقضية المناصب الحكومية وبرزت هذه القضية بشكلٍ أوضح في قضية تعيين رئيس جهاز المخابرات الوطنية الذي أرادت الفصائل السيطرة عليه إلا أن السوداني قرر الإبقاء على رئاسة الجهاز لصالحه، وتتابعت الاختلافات بين السوداني وقوى الإطار التنسيقي، ولعل أهمها هو اختلاف رؤية الجانبين بشأن العلاقات مع الولايات المتحدة، وبالتحديد قضية الوجود الأمريكي العسكري في العراق.
إلّا أن التباعد الحالي بين السوداني وبعض قوى الإطار هو ذو طبيعة انتخابية في المقام الأول؛ إذ إن بعض قادة الإطار وعلى رأسهم نور المالكي يخشون من تزايد شعبية رئيس الوزراء الحالي؛ إذ تشير التقديرات الخاصة بقوى الإطار إلى أن السوداني قد يفوز بنحو 60 مقعداً بناءً على أرقامه في الانتخابات المحلية، ويدعم ذلك استطلاع للرأي أجرته شركة "غالوب" أشارت فيه إلى حصول رئيس الوزراء محمد شياع السوداني على نسبة تأييد قوية بلغت 69% بين العراقيين في عام 2023، وهي أعلى نسبة سجلتها "غالوب" لأي زعيم عراقي منذ أن بدأت قياس مؤشر آراء العراقيين تجاه القيادة السياسية في عام 2012؛ إذ أشار الاستطلاع إلى أن العراقيين الذين تقل أعمارهم عن 30 عاماً -والذين كانوا القوة الدافعة وراء الحركات الاحتجاجية الجماهيرية التي بدأت في عام 2019- لديهم تأييد ملحوظ تجاه السوداني بنسبة 68% ومن الجدير بالذكر أن غالبية سكان كردستان العراق 55% يوافقون أيضاً على أداء السوداني (مُقارنة بـ 71% في بقية أنحاء العراق).
نسبة التأييد الشعبي المرتفعة بالإضافة إلى النزعة الاستقلالية للسوداني عن الخط العام للإطار ومحاولة ترسيخ صورة عن نفسه على أنه "رجل دولة" بالإضافة إلى علاقاته الجيدة التي بناها مع دول الإقليم جعلت من السوداني مرشحاً وافر الحظ في أية انتخابات مُقبلة؛ لذا فإن قادة الإطار وعلى رأسهم المالكي قد يسعون إلى تحييد السوداني في الفترة المقبلة من خلال إضافة مادة في قانون الانتخابات تحظر على رئيس الوزراء أو الوزراء الترشح للانتخابات.
يصب ذلك بشكلٍ كبير في مصلحة التيار الصدري، فمن ناحية فإن الخلاف بين السوداني وقوى الإطار يُعزز حالة السيولة السياسية التي تشهدها الساحة السياسية العراقية من خلال تفكيك التحالفات القديمة والمتماسكة منذ 2021؛ ومن ثم فإن التيار الصدري سيحاول تقديم نفسه بوصفه تياراً راسخاً ومُتماسكاً وقادراً على المنافسة على عكس القوى السياسية الأخرى، ومن ناحية أخرى فإن تباعد السوداني عن الإطار يوفر فرصة أكبر للتيار الصدري للمناورة؛ إذ قد يسعى الصدر إلى الاقتراب من السوداني ومحاولة الوصول إلى تفاهمات قد تفضي إلى تشكيل تحالف برلماني بعد الانتخابات؛ لأن السوداني يشترك مع الصدر في عدد من المنطلقات السياسية العامة كأهمية حياد الدولة وتعلية المصلحة الوطنية للدولة على أية اعتبارات أخرى.
3. استغلال الانشغال الإيراني بالداخل: بشكلٍ عام، عملت إيران كضابط لإيقاع الفصائل المسلحة والامتدادات السياسية لها في العراق، وتدخلت في كثيرٍ من الأحيان لرسم الخطوط العريضة للقوى السياسية الشيعية في الانتخابات ومرحلة تشكيل التحالفات بعدها، ففي عام 2018 على سبيل المثال، وبعد خلافات حادة بين القوى الشيعية على تسمية رئيس الوزراء، تدخل قائد فيلق القدس السابق قاسم سليماني شخصياً من أجل إنهاء حالة الخلاف بين القوى الشيعية ورسم خريطة عمل مُستقبلية. وفي هذا الإطار فإن الصدر يسعى لاستغلال الانشغال الإيراني الحالي عقب وفاة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، على إثر تحطم الطائرة التي كان يستقلها وهو عائد من قمّة مع الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف أثناء افتتاح سد في منطقة حدودية بين البلدين، في 19 مايو 2024، واستعداد إيران لإجراء الانتخابات الرئاسية؛ من أجل ترتيب تحالفاته في الفترة المقبلة من دون تدخلات إيرانية في المشهد السياسي العراقي.
وفي التقدير، يمكن القول إن جميع المؤشرات توحي بعودة قريبة للتيار الصدري للساحة السياسية العراقية على خلفية الانتخابات البرلمانية في 2025، إلا أن فرص التيار الصدري في الفوز بالانتخابات النيابية في العراق ترتبط بشكلٍ أساسي بقدرته على تشكيل تحالفات قوية مع مختلف القوى السياسية العراقية وتقديم بديل حقيقي وفعال لتحالف إدارة الدولة، الذي يضم قوى الإطار التنسيقي، والحزبيْن الكردييْن الرئيسييْن، وتحالف العزم وتحالف السيادة السنييْن، وغيرهم، والذي أصبح غير مُتماسك في الفترة الأخيرة، كما يرتبط ذلك بقدرة التيار الصدري على اجتذاب شريحة الشباب في المجتمع العراقي ليس فقط في الطائفة الشيعية، ولكن الشباب من مُختلف الطوائف والعرقيات؛ وهو ما يمكن تحقيقه من خلال الوصول إلى تفاهمات مع رئيس الوزراء العراقي والتيارات والقوى المدنية والمرشحين المستقلين في البرلمان.