شنت إيران، ليل السبت/ الأحد 13 و14 إبريل 2024، هجوماً مباشراً على إسرائيل، أطلقت عليه اسم عملية "الوعد الصادق"، وذلك في إطار الرد على استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق، في الأول من الشهر ذاته، وهو الهجوم الذي أسفر عن مقتل عدد من كبار قادة الحرس الثوري الإيراني في سوريا ولبنان.
وتُعد الهجمات الإيرانية تلك، أكبر عملية عسكرية خارجية تقوم بها طهران، منذ انتهاء حرب الثماني سنوات مع العراق (1980-1988)، كما وصفها محللون عسكريون بأنها أكبر هجوم بالطائرات المُسيّرة في التاريخ، كما تمثل المرة الأولى، في تاريخ الصراع بين البلدين، التي تشن فيها إيران هجوماً مباشراً من أراضيها على إسرائيل، ذلك الصراع الذي يمتد منذ الثورة الإيرانية في 1979.
ويُثير هذا الهجوم الكثير من الأسئلة والتكهنات بشأن دلالاته ومدى نجاعته وتحقيق أهدافه، وهو ما يمكن استيضاحه من منظور حسابات طهران الداخلية والخارجية.
حسابات طهران:
يمكن الإشارة إلى اعتبارات الداخل الإيراني بشأن الهجمات التي تم شنها ضد إسرائيل، على النحو التالي:
1- حفظ "ماء وجه" النظام الإيراني: رغب النظام الإيراني، من خلال الهجوم الأخير على إسرائيل، في الحفاظ على صورته أمام الشارع الإيراني، والذي بدا مستاءً من تكرار ما وصفه بالانتهاكات الإسرائيلية بحق القادة العسكريين والمنشآت الاستراتيجية والمقرات الدبلوماسية داخل إيران وخارجها. وجدير بالذكر احتشاد عشرات المتظاهرين بعد أيام من استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق، تنديداً بالحادث، ومطالبين بالانتقام.
يُضاف إلى ذلك، أن الانتخابات البرلمانية في إيران، التي جرت في مطلع مارس 2024، قد كرّست سيطرة "المحافظين الأصوليين"، الذين يتبنون سردية متشددة تجاه إسرائيل، وهو ما يضع النظام في موقف "مُحرج"؛ إذا لم يقم بالرد على قصف المقر الدبلوماسي في سوريا.
ومن جهة أخرى، فإن النظام الإيراني ربما لجأ إلى تصدير المشكلات الداخلية من خلال الانخراط في أزمات خارجية، وهو أمر تكرر في مرات سابقة، لعل أبرزها قصف مقرات في إقليم كردستان العراق وفي باكستان، بعد التفجيرين اللذين حدثا في محافظة كرمان في مطلع يناير 2024، وأسفرا عن مقتل نحو 100 شخص، وهو ما يمكن قياسه على الهجمات الإيرانية على إسرائيل بأنها قد تكون محاولة لاحتواء السخط الشعبي المتنامي من السياسات الاقتصادية والاجتماعية للحكومة الإيرانية الحالية.
2- اختبار فعّالية التسليح الإيراني: عكس رد إيران على استهداف قنصليتها في سوريا، اختباراً للقدرات المتعلقة بالصواريخ والطائرات المُسيّرة لديها؛ إذ تُشير التقديرات إلى إطلاق نحو 180 طائرة مُسيّرة و110 صواريخ بالستية و36 صاروخ كروز من إيران باتجاه إسرائيل، بمديات تتراوح بين 1000 و2000 كم، علماً بأن أقصر مسافة من إيران إلى إسرائيل تبلغ نحو 1000 كم، وتمر المقذوفات الإيرانية عبر العراق وسوريا والأردن.
ووفقاً لتصريحات المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، فقد جرى اعتراض نحو 99% من المقذوفات الإيرانية، إما خارج المجال الجوي الإسرائيلي أو فوق إسرائيل، وذلك باستخدام الدفاعات الجوية الإسرائيلية خاصةً منظومتي (مقلاع داوود وآرو)، بالإضافة إلى الدعم الأمريكي والبريطاني والفرنسي في إسقاط المُسيّرات والصواريخ الإيرانية.
وفي مقابل ذلك، أكدت التصريحات الإيرانية أن الصواريخ والمُسيّرات قد حققت أهدافها، والتي تمثلت في استهداف قاعدة نيفاتيم الجوية، التي انطلقت منها مُقاتلات "أف-35"، التي قصفت المقر القنصلي الإيراني في دمشق، وكذلك "مركز معلوماتي كبير" بالقرب من الحدود مع سوريا، كان يُستخدم، وفق إيران، في توجيه الضربات الإسرائيلية ضد أهداف إيرانية خلال الستة أشهر الماضية.
وصحيح أن بعض التحليلات تجادل بأن إيران لم تكن تهدف إلى تدمير مواقع مدنية، وأن أدوار حلفاء إسرائيل (الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا) كانت حاسمة في صد تلك الهجمات، إلا أن المواقع العسكرية التي استهدفتها المقذوفات الإيرانية، ووصلت إليها فعلياً، لم يكشف عن تدميرها بشكل كامل. بيد أن هذا لا يمنع أيضاً من القول إن الهجمات الإيرانية قد كشفت مواطن الضعف والقوة لدى الدفاعات الإسرائيلية، مثلما أشار تقرير صادر عن "معهد دراسات الحرب الأمريكي".
3- توزيع الأدوار بين الجيش والحرس الثوري الإيرانيين: بخلاف المرات السابقة التي قام فيها الحرس الثوري الإيراني، مُنفرداً، بالرد على التهديدات الإسرائيلية لإيران، سواء بقصف مقرات في إقليم كردستان العراق تعتقد طهران بأنها تابعة للموساد الإسرائيلي، أم الاستيلاء على سفن مملوكة لإسرائيليين في الممرات الملاحية في المنطقة؛ فقد جرت خلال الهجوم الأخير عملية توزيع أدوار بين الجيش والحرس الثوري الإيرانيين؛ إذ أكدت البيانات الرسمية مشاركة كل منهما في الهجوم، وكانت التصريحات تصدر من القادة في الجانبين.
ويتماهى ذلك مع اتجاه متصاعد داخل طهران يتعلق بتصعيد دور الجيش الإيراني بعد سنوات من تهميش دوره لصالح الحرس الثوري، والذي بات في موقع قوة عسكرية وسياسية لا تضاهى داخل النظام الإيراني، بالتوازي مع تراجع عقيدة "الدفاع المتقدم" التي كانت تتبناها إيران خلال السنوات السابقة، والتي تقوم على تجنيب ذاتها المواجهة المباشرة مع الخصوم، والاعتماد عوضاً عن ذلك، على الوكلاء والأذرع للدفاع والهجوم. هذا إلى جانب رغبة طهران في التأكيد أن الرد على استهداف إسرائيل لقنصليتها في سوريا، هو دفاع عن "أراضٍ إيرانية"، وهو ما يمثل المهمة الرئيسية للجيش الإيراني، في مقابل مهمة الحرس الثوري التي تتمثل في حماية النظام وما يُوصف بالمشروع الإقليمي لطهران.
4- إضفاء صبغة دينية على الهجمات: أراد النظام الإيراني أن يُضفي صبغة دينية على الهجمات التي نفذها ضد إسرائيل، شأنها في ذلك شأن أغلب الأمور المتعلقة بسياسته الداخلية والخارجية؛ إذ وظّف خطابه السياسي والإعلامي في إظهار أن العملية الإيرانية "أعادت للإسلام مجده وعظمته"، مثلما عنونت صحيفة "كيهان" الإيرانية، التابعة للمرشد الأعلى، في صفحتها الأولى. بل أشارت بعض التحليلات إلى أن اختيار اليوم الذي شُنّت فيه الهجمات، ذو دلالة دينية، إذ إنه يوافق يوم الخامس من شوال، وهو ذات اليوم الذي وقعت فيه غزوة "الأحزاب/ الخندق" في العام الخامس من هجرة الرسول محمد (ص).
رسائل خارجية:
تتمثل أبرز الرسائل والاعتبارات الخارجية الخاصة بالهجمات الإيرانية على إسرائيل، فيما يلي:
1- رسالة تحذيرية لإسرائيل: هدفت إيران، من عمليتها العسكرية تلك، بالأساس، إلى إيصال رسالة تحذير لإسرائيل، بأن الاستهداف المباشر للسيادة الإيرانية، والذي تمثل في قصف القنصلية الإيرانية في دمشق، وهو أمر يختلف عن حلقات الصراع الخفي السابقة بين الطرفين، يستتبعه بالضرورة رد إيراني مُباشر.
وعند المقارنة بين التصريحات الإيرانية قبل تلك الهجمات، والتي كانت تؤكد أنها تهدف إلى معاقبة إسرائيل على فعلتها، والنتائج المادية للهجمات، خاصةً ما يتعلق منها بالنواحي العسكرية، يُلاحظ أنها لم تكن على قدر التوقعات الإيرانية؛ إذ لم يصل من الأسلحة الهجومية التي استخدمتها إيران، أكثر من 4%، وفقاً لتقديرات، وهو معدل ضئيل للغاية، من شأنه أن يضعف الرسالة التي أرادت طهران إيصالها لتل أبيب.
وتبريراً لذلك، فقد تغيّر الخطاب الرسمي الإيراني، بعد النتائج التي أسفرت عنها الضربات، بأن ركز على أن تلك الهجمات كانت "محدودة وتحذيرية"، و"محسوبة بعناية"، ولم يكن الهدف منها استهداف منشآت سكانية أو اقتصادية، أو إشعال مواجهة مفتوحة مع إسرائيل. كما ذهبت التصريحات الإيرانية في اتجاه التهديد بأن أي رد من جانب إسرائيل على تلك الضربات، سوف يتبعه رد "أقوى" من جانب طهران، وكأن الأخيرة انتقلت من موقع "المهاجم" إلى موقع "المدافع" في وقت قصير، وهو ما قد يؤشر إلى أن الخطوة الإيرانية كانت اضطرارية ودفاعية ولم تكن هجومية.
2- تفادي تدخل الولايات المتحدة: حرصت إيران على تجنب تدخل الولايات المتحدة في الصراع بينها وبين إسرائيل، وذلك من خلال إيصال الرسائل للجانب الأمريكي، عبر وسطاء، بأن إيران تعتزم توجيه ضربات إلى إسرائيل، وأن هذه الضربات ستكون "محدودة وللدفاع عن النفس"، كما أنها ستكون بمنأى عن الإضرار بالقواعد والقوات الأمريكية في الدول المُفترض أن تمر من خلالها الصواريخ والمُسيَّرات الإيرانية المتجهة إلى إسرائيل، وهو ما حدث بالفعل.
وقد جاء موقف واشنطن داعماً لإسرائيل في مواجهة الهجمات الإيرانية؛ إذ حرّكت قطعاً حربية تجاه السواحل الإسرائيلية، مع تزايد المؤشرات بقيام إيران بهجمات ضد إسرائيل. كما أجرى قائد القيادة المركزية الأمريكية "سنتكوم"، الجنرال مايكل كوريلا، زيارة إلى تل أبيب قبل الهجوم بيومين للتنسيق مع القيادات العسكرية بشأن الهجمات التي كانت مُحتملة. وتدخلت واشنطن لتقليل أثر الضربات الإيرانية على إسرائيل، ودعم الدفاعات الإسرائيلية في إسقاط المُسيَّرات والصواريخ الإيرانية.
وفي نفس الوقت أعلنت الولايات المتحدة عدم مشاركتها إسرائيل في أي رد محتمل على إيران، بل قامت بثنيها عن القيام بهجوم مضاد، من خلال المكالمة الهاتفية التي أجراها الرئيس جو بايدن، مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو.
3- تحييد دور الوكلاء: التزمت إيران في ردها على استهداف قنصليتها في دمشق، أن يكون الرد من جانبها بعيداً عن تدخل كبير من وكلائها الإقليميين، إذ لم يسجل لهؤلاء الوكلاء مشاركة في الرد، وحتى تزامن إطلاق حزب الله اللبناني نحو 50 صاروخاً على شمال إسرائيل، يوم 12 إبريل 2024، وإطلاق جماعة الحوثيين عدداً من الصواريخ باتجاه إيلات في جنوب إسرائيل، كان لأسباب تتعلق بالمواجهة مع إسرائيل ربما بعيداً عن مساندة الرد الإيراني.
وسعت طهران من جراء تلك الخطوة إلى تحقيق ثلاثة أهداف: الأول، يتعلق بأن يكون الرد من جانب إيران ذاتها وليس من جانب أحد من وكلائها، على اعتبار أن استهداف القنصلية عمل يمس السيادة الإيرانية. والثاني، هو الحيلولة دون أن يؤدي انخراط أذرعها إلى اتساع مساحة الحرب والانجرار نحو حرب إقليمية واسعة، لا ترغب إيران في خوض غمارها. والثالث، يتعلق بأن قصف القنصلية الإيرانية في سوريا من شأنه أن يضعف موقف طهران كقائدة لما يُسمى بـ"محور المقاومة"، لذا سعت من خلال الرد إلى تأكيد هذه القيادة أمام المجموعات المسلحة التابعة لها في المنطقة.
4- إحاطة الأطراف الإقليمية: انتهجت إيران نهجاً قائماً على إبلاغ الأطراف الإقليمية بالعزم على توجيه ضربات إلى إسرائيل، قبيل الهجوم بـ72 ساعة، حسب تصريحات وزير الخارجية حسين أمير عبداللهيان، الذي قال: "أبلغنا أصدقاءنا وجيراننا في المنطقة أن رد إيران على إسرائيل مؤكد ومشروع ولا رجعة فيه".
وقد يعزى ذلك الموقف لسببين، أولهما، تفادي الخسائر التي قد تنجم عن إطلاق الصواريخ والمُسيّرات من إيران حتى إسرائيل؛ الأمر الذي قد يتسبب في أضرار تتعلق بحركة الطيران أو المنشآت أو الأشخاص؛ ما دفع عدداً من دول المنطقة إلى إغلاق مجالها الجوي وتحويل رحلاتها الجوية بعيداً عن "مناطق التوتر". وثانيهما، محاولة احتواء غضب دول المنطقة الذي قد ينجم عن التصعيد الإيراني ضد إسرائيل، وما قد يُرتبه ذلك من تداعيات وخيمة على الأمن والاستقرار الإقليمي، خاصةً في الوقت الذي تسعى فيه طهران إلى كسب ود تلك الأطراف وتحسين علاقاتها معها خلال الفترة الماضية، ولاسيما بعد توقيع اتفاق عودة العلاقات مع السعودية برعاية صينية في 10 مارس 2023.
في الختام، يمكن القول إنه وبصرف النظر عن نتائج الضربات الإيرانية على إسرائيل، التي أشارت أغلب التقديرات إلى أنها كانت محدودة، على الأقل من الناحية العسكرية، إلا إنها قد فتحت باباً جديداً من الصراع بين الجانبين، يتعدى "الخطوط الحمراء" وقواعد الاشتباك المُتعارف عليها في السابق، وينتقل إلى خط جديد تمكن فيه المواجهة بشكل علني. بيد أن هذه القواعد الجديدة ما زالت تسير في اتجاه إدارة الصراع بين البلدين، ومع ذلك فإن هذا لا يمنع من احتمالية الانجرار إلى حرب مفتوحة بينهما، وهذا يتوقف على قدرة واشنطن على ضبط إيقاع الطرفين، خاصةً مع إصرار بعض الأصوات داخل تل أبيب على أن يكون هناك رد على الهجمات الإيرانية.