أعلن فرع القاعدة في جزيرة العرب، يوم 10 مارس 2024، عبر بيان قرأه أبو خبيب السوداني، عن وفاة زعيمه خالد سعيد باطرفي، دون توضيح أسباب الوفاة ودون استخدام عبارة "الشهيد" التي تعني مقتله، وتضمن البيان أيضاً خبر تنصيب سعد بن عاطف العولقي خلفاً لباطرفي ليكون الزعيم الخامس للتنظيم الإرهابي، الأمر الذي ربما يوحي بانتقال سلس للقيادة ويستبعد فرضية مؤامرة داخلية لاغتياله.
ومن المُحتمل حدوث الوفاة في تاريخ سابق وتأجيل الإعلان عنها، إلى أن استتب الأمر للزعيم الجديد، قبيل بداية شهر رمضان الجاري، وذلك بالنظر للخلاف الذي كان يشرخ التنظيم بين باطرفي والعولقي؛ إذ كانا يقودان "جناحين متنازعين في الجماعة"، بحسب تقرير أممي نشر في يوليو 2023. كما أن تنصيب باطرفي قبل أربع سنوات لم يكن بالإجماع إنما بـ"رأي أكبر قدر ممكن من شورى الجماعة وأعيانها" بمبرر ظروف الحرب، حسب بيان للتنظيم آنذاك.
وقد جاء الإعلان عن وفاة باطرفي وتنصيب العولقي في قيادة تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، في فترة زمنية حافلة بالتطورات، مما يطرح تساؤلات حول تداعيات هذا الحدث على الوضع الداخلي للتنظيم ومستقبل علاقته بالقيادة المركزية للقاعدة ومكونات المشهد اليمني، وهو ما يستدعي إلقاء نظرة على حالة تنظيم القاعدة في عهد باطرفي واستشراف تطوره في عهد العولقي.
عهد باطرفي.. استمرارية الوضع السابق:
تولى باطرفي، أو "أبو المقداد الكندي"، قيادة تنظيم القاعدة في جزيرة العرب في فبراير 2020، خلفاً لقاسم الريمي، واستمد هيبته من كونه أحد الوجوه المخضرمة التي عايشت مراحل مفصلية في تاريخ تنظيم القاعدة ومؤسسه أسامة بن لادن؛ إذ سافر إلى أفغانستان في 1999، وتدرب في معسكر الفاروق الشهير وقاتل دفاعاً عن إمارة طالبان ضد الغزو الغربي غداة تفجيرات 11 سبتمبر 2001.
وبعد أن ألجأته نيران الجيش الأمريكي إلى إيران، سلمته إلى الحكومة اليمنية في 2004، وأطلق سراحه في 2010، لينضم إلى تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، وعُين "أميراً" على محافظة أبين باليمن وقائداً للتنظيم فيها، لكن سرعان ما اعتقلته القوات اليمنية في مارس 2011، وأودعته سجن المكلا المركزي حتى عام 2015، عندما اقتحم تنظيم القاعدة السجن وحرر سجناءه. كما تولى باطرفي مناصب مهمة، منها "والي" حضرموت ومسؤول القسم الإعلامي والإنتاج الدعائي، والقاضي الشرعي للتنظيم والناطق باسمه، فضلاً عن عضوية مجلس الشورى.
ولم يبدع باطرفي سياسة خاصة به إبان قيادته لتنظيم القاعدة في جزيرة العرب؛ إذ احتفظ بمعالم فترة قاسم الريمي، وذلك لخضوعهما معاً لسطوة القيادي سيف العدل، الذي نجح منذ عامي 2017 و2018، في توسيع نفوذه في الفرع اليمني عبر التدخل في ترتيب بيته الداخلي وتصعيد أسماء في قيادته مثل: إبراهيم أبو صالح وعمار الصنعاني، بحسب تقارير. فصار باطرفي "محاطاً بشبكة مُحكمة من القيادات الجهادية ذات الولاء الشخصي لسيف العدل".
ولم يسعف ولاء باطرفي لسيف العدل والتزام سياسة سلفه الريمي طيلة الأربع سنوات الماضية، في انتشال التنظيم من التراجع المستمر الذي طاله بعد مقتل زعيمه القوي، ناصر الوحيشي، في 2015. وهو ما أكده تقرير للأمم المتحدة صادر في 29 يناير الماضي بالقول إن هجمات التنظيم أصبحت "أقل تواتراً وأكثر اتساماً بطابع رد الفعل" وأنه يواجه "تحديات عملياتية ومالية" في "إطار مكافحة الإرهاب والخسائر المتتالية في قيادته". فالتنظيم، الذي تأسس عام 2009، شهد عصره الذهبي إبَّان الحرب الدائرة بين قوات الشرعية اليمنية ومليشيا الحوثيين منذ 2014، حين تمدد في مناطق البلاد الجنوبية والجنوبية الشرقية، باسم "أنصار الشريعة" بعد السيطرة على مدينة المكلا مطلع إبريل 2015، وهاجم الأراضي السعودية، وأشرف على عمليات نوعية مثل الهجوم على المجلة الأسبوعية الفرنسية الساخرة "شارلي إبدو" في باريس عام 2015.
وبالرغم من هجومه على القاعدة العسكرية الأمريكية في فلوريدا عام 2019، وضمه حوالي 3000 مقاتل منتشرين خصوصاً في أبين ومأرب ومناطق في حضرموت، وامتلاكه ملاذات في شبوة وحضوراً صغيراً في المهرة، فإن عمليات التنظيم أخدت في التضاؤل منذ مقتل زعيمه ناصر الوحيشي في يونيو 2015، وتوالي سقوط رؤوسه البارزة مثل: نصر الآنسي ومأمون حاتم وإبراهيم الربيش ومهند غلاب وجلال بلعيدي وعمار الصنعاني وأبو عمير الحضرمي، فضلاً عن تراجعه الميداني في الجنوب أمام التحالف العربي لدعم الشرعية خلال 2015-2022.
وقد واكب تراجع التنظيم تفشي الخلافات الداخلية التي واجهها باطرفي بالاستمرار في حملة مطاردة الجواسيس، التي باشرها من قبله الريمي، وشملت عمليات إعدام عشوائية، كان من ضحاياها أثير النهدي وسعيد شقرة وفياض الحضرمي وأبو مريم الأزدي. فتفاقمت المعارضة الداخلية لباطرفي الذي فشل في استعادة ثقة الغاضبين ووقف تهم التخوين وتجميد العضوية والانشقاقات مثل تلك التي قادها مساعده عمر النهدي، وترتب عليها، بحسب تقرير أممي صادر في فبراير 2021، "تضعضع صفوفه"، فيما حرص النهدي على فضح "التجاوزات والأخطاء الشرعية والمظالم العظيمة" الشائعة في التنظيم علناً وحذا حذو سابقيه مثل سند الوحيشي، شقيق ناصر الوحيشي الزعيم الأول للتنظيم، الذي انسحب احتجاجاً على سياسة الريمي وشرح موقفه في بيان "لماذا تركت القاعدة".
عهد العولقي.. التشرذم والتبعية:
العولقي، ولقبه "أبو الليث"، هو مواطن يمني من محافظة شبوة، كان يُعد الرجل الثاني بعد باطرفي في تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، الذي انضم إليه في عام 2010، وشغل عضوية المجلس القيادي للقاعدة، وتولى منصب "أمير ولاية شبوة" حتى عام 2014، ثم عين عضواً في مجلس شورى التنظيم والمسؤول عن "إدارة العمليات".
ورث العولقي عن باطرفي، الذي كان يعارض قراراته دون أن يتمرد عليها، تنظيماً متأزماً سيدفعه إلى ابتكار خطة جديدة لإدارة الخلافات لتحصين الجبهة الداخلية واستعادة حاضنته الاجتماعية وفي الوقت ذاته اعتماد "دبلوماسية حذرة" في التعامل مع الحوثيين لتجنب التورط المجاني وغير مضمون النتائج معهم. وبالتالي ستخضع قيادة باطرفي للتنظيم لهاجسين متشابكين، هما:
1- هاجس التشرذم: يتملك التنظيم هاجس التشرذم في ظل الشروخ التي تخترقه، لذلك يجد العولقي على رأس أولوياته "تحصين الجبهة"، وبالتالي الاستثمار في أصوله اليمنية بتوظيف العنصر القبلي، لانحداره من قبيلة العوالق النافذة وارتباطه دموياً بالزعيم الكارزمي أنور العولقي وتمتعه، بحسب تقرير أممي صادر في يوليو 2023، "بدعم بعض القبائل".
فالمجتمع اليمني قبلي بامتياز، تحظى فيه سلطة الشيخ وروابط القرابة والذاكرة المحلية المشتركة بموقع مؤثر في تنظيم علاقاته، لذلك فإن سيطرة العنصر الأجنبي، في قيادة التنظيم، خاصةً إبان قيادة باطرفي قد أججت قلق القبائل التي أصبحت أكثر ارتياباً في خططه ولم تستسلم لتهديداته في نوفمبر 2022، حين خيرها بين الانضمام لصفه ضد التحالف العربي أو اعتبارها من "زمرة الأعداء"، كما لم يستطع استعطاف دعمها، في كلمته خلال يناير 2023، إذ اقتنعت بدعم القوات المشتركة في عملياتها ضد التنظيم في شبوة وأبين، فيما بادرت أخرى مثل قبيلة "آل المنذري" إلى التفاهم مع الحوثيين ما سمح لها بالبقاء في مناطقها بعد سيطرة الحوثيين على الصومعة. وقد كشف هذا الواقع تهالك التنظيم الذي فقد أهم معاقله في محافظات أبين وشبوة وحضرموت والمهرة، وانحصرت موارده المالية وارتبك في التصدي لحملة القوات الجنوبية باسم "سهام الشرق".
لذلك يُحتمل استئناف العولقي للمهمة، التي باشرها بطلب من باطرفي في إبريل 2023، والخاصة بحسم تظلمات عناصر التنظيم خاصةً في شبوة وإقناعهم بالعودة لصفوفه مقابل استئناف الدعم المادي لهم؛ إذ فشل حينها في استصدار موافقة باطرفي الذي تعلل، حسب مصادر إعلامية، بالعجز المالي للتنظيم. والآن بعد غياب باطرفي، سيجد العولقي الفرصة لرد الاعتبار لشخصه وإلا اُعتبر شريكاً لباطرفي في المماطلة والتواطؤ.
بيد أن نجاح هذه المهمة يفترض إعادة هيكلة الجهاز الأمني في ظل وجود المصري إبراهيم محمد صالح البنا، المقرب من سيف العدل وباطرفي، والمتهم بخلق ولاءات داخل التنظيم وإبعاد غير المخلصين له وارتكابه فظائع في حق المشتبه بهم في التجسس والخيانة والتي اُرتكبت أحياناً في إطار تصفية حسابات داخلية. فضلاً عن إزاحة "مجموعة الحضارم" المسؤولة عن مالية التنظيم والتي، بحسب تقارير إعلامية في مايو 2023، تورطت في اختلاسات، ذاكراً منهم أبناء قياديين كبار هم: صالح عبولان ولطفي اليزيدي وعباس حمدان، واستحضر بيانات وشهادات تدين بالفساد أربعة عناصر هم عاشور عمر وعادل بادرة وعبدالله بن هامل وسليمان عبولان.
2- هاجس التبعية: يتمثل الهاجس الثاني في "تبعية" التنظيم لسيف العدل، الوريث المفترض للظواهري في قيادة القاعدة، الذي يتبنى قراءة براغماتية للسياسة الشرعية تبيح "التخادم" مع الحوثيين، الشيء الذي طمس الهوية السلفية للتنظيم وأثّر في حاضنته؛ إذ طوق التنظيم عنقه بالتبعية لسيف العدل جراء سعي باطرفي، على خطى الريمي من قبله، إلى مواجهة الضغوط المُسلطة على التنظيم من قوات التحالف العربي والقصف الأمريكي، من خلال التماهي مع رؤيته القائمة على "التفاعل الإيجابي" مع الرهانات الجيوسياسية للمحور الإيراني وتنسيق الجهود القتالية مع الحوثيين. وكان من أولى المؤشرات على هذا الاتجاه، امتناع باطرفي، في 2021، عن مقاتلة الحوثيين على خلفية سيطرتهم على بعض مديريات شبوة، بل زاد التنسيق الأمني معهم مقابل تركيزه على قتال قوات الشرعية.
لذلك ستشكل "التبعية" التي تورط فيها تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، عبئاً على العولقي الذي لن يستطيع مقاومتها دون تحجيم العنصر الأجنبي، المرتبط بسيف العدل والذي تضخم بإيعاز منه، بل إن العولقي وهو "قيادي محلي" كان بنفسه ضحية لهذا التضخم بعد أن حُرم من خلافة الريمي على رأس التنظيم بسبب "الدور المحوري" لسيف العدل في تصعيد منافسه باطرفي، حسب تقارير إعلامية.
كما أن تداعيات "التبعية" مرشحة للتفاقم في ظل استمرار حرب غزة واتساع نطاقها، وإعادة إدراج الحوثيين على قوائم الإرهاب الأمريكية، ما يعني إمكانية تكثيف حملات مكافحة الإرهاب في اليمن وتحويل قيادات التنظيم ومواقعه إلى أهداف مفتوحة أمام المُسيّرات الغربية، في وقت يجد فيه التنظيم نفسه مجرداً من سلطة القرار ويتصرف وفق مقتضيات رد الفعل وليس الفعل الذي تتحكم في قراره إيران ومحورها تخطيطاً وتدبيراً.
ختاماً، يعي العولقي أهمية استعادة تنظيم القاعدة في جزيرة العرب لاستقلاليته في تحصين الجبهة، لذلك هاجم في فبراير 2023 إيران وحليفها الحوثي في معرض محاولته إقناع القبائل الجنوبية بدعم التنظيم، لكنه يعي أيضاً رمزية اليمن في تاريخ القاعدة التي لن تتقبل انفصال الفرع اليمني عنها، كما يدرك أن البناء الداخلي يستلزم ربما مهادنة الحوثيين، الذين ليس من مصلحتهم استرجاع التنظيم لقوته، وأن استعادة دعم القبائل يفرض عليه مخاطبتها بالمصلحة وليس الأيديولوجية التي انزوى بريقها وأصبح عناصره يناصرون من يدفع أكثر ولو كان من الحوثيين أو داعش.
وبالتالي ستواجه مقاربة العولقي لمعادلة الصراع في اليمن التعقيدات المرتبطة بمتغيراتها (الهدنة، والجوار الإقليمي، والحوثيين، والتحالف الدولي.. وغيرها)، ونجاحه في التفاعل معها سيتوقف على قدرته في مواجهة التحديات الداخلية والضغوط الخارجية، وذلك في وقت يغري التنظيم بالامتناع عن الهجمات والاقتصار على التحريض الكلامي دون الإشراف العملياتي وخاصةً تغليب "الهموم المحلية" على الطموحات العالمية بعد أن انكمش نشاطه داخل مواقع ضيقة في اليمن وبات يُعرف أكثر بفرع القاعدة في "اليمن" بدل "جزيرة العرب".