أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

احتضان الدولة:

هل يمثل الليبراليون “مشكلة تالية” في الخليج؟

24 سبتمبر، 2014


** نشر هذا المقال في دورية (اتجاهات الأحداث) الصادرة عن مركز المستقبل، العدد الثاني، سبتمبر 2014.

 في عام 2006، قال مسؤول خليجي في اجتماع حضره كتاب وناشطون إسلاميون: “إن أعداءنا الحقيقيين هم الليبراليون”.

لكن السنوات اللاحقة، وتطورات الأوضاع في المنطقة، أثبتت أن المخاطر الأمنية، واختراق المجتمعات، والتهديدات التي تسبب فيها دعاة وكتاب وناشطون إسلاميون، سواء كانوا محسوبين على تنظيمات، أو كانوا يشكلون تيارات وقوة اجتماعية مؤثرة، كانت تفوق أضعاف ما كان يخشاه المعنيون بصنع القرار في الخليج من أي مخاطر يمكن توقعها من قبل مثقفين وناشطين ليبراليين، وجاءت أحداث الربيع العربي لتؤكد هذا بشكل لافت ومثير للدهشة.

الدولة حاضنة لليبراليين

معظم من يمكن تصنيفهم من الليبراليين من موظفي الدولة والمثقفين، الذين يشغلون مناصب استشارية، أو وظائف إعلامية في الصحافة والتليفزيون والقنوات الفضائية الخاصة والحكومية، يمكن اعتبارهم ضمن الليبرالية المحافظة، ولكنهم أكثر تحرراً في المجالات الاجتماعية والفكرية. فالجامعات والمؤسسات التعليمية ومعظم مؤسسات الدولة قامت على أيدي هذه الشريحة.

وثمة حقيقة واضحة، وهي أن الأفكار الليبرالية والمؤمنين بها، لم يجدا يوماً محضناً لها خارج إهاب الدولة ومؤسساتها، وخارج دعم وثقة وعطف السلطة السياسية وصناع القرار.

وتكاد تكون السعودية أكثر المجتمعات صخباً ونقاشاً وجدلاً حول الليبرالية والليبراليين، وقد بلغت هذه النقاشات حداً دعا وزير الداخلية السعودي الأسبق الراحل الأمير نايف بن عبدالعزيز إلى التأكيد أن "السعوديين كلهم على نمط واحد، وأن الدولة سلفية على نهج الشريعة، ولا يمكنها أن تقبل أي توجه وتيار مخالف لذلك، وعلى من لا يروق له ذلك أن يغادر البلاد".

على الرغم من هذا التصريح الشديد والمعبر، فإنه من المهم ملاحظة أنه في الثمانينيات من القرن الماضي الذي شهد ذروة المد الإسلامي الحركي في السعودية، لم يكن هناك من يجرؤ على القول إنه ليبرالي، وطوال فترة التسعينيات لم تكن الحال تختلف كثيراً، ولكن بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، أصبح الذين يرون أنفسهم ذوي ميول ليبرالية أكثر صراحة وشجاعة في الإفصاح عن ميولهم. 

ومع عام 2002 تضمنت بعض العرائض التي رفعها عشرات من الناشطين السعوديين إلى الملك فهد بن عبدالعزيز مطالب سياسية اعتبرت إصلاحية، وكان الموقعون خليطاً من إسلاميين ويساريين وناصريين وليبراليين وفئة تقدم نفسها بأنهم "وطنيون غير محسوبين على أي توجه".

تتابعت بعدها العرائض المطلبية المشابهة، ويمكن اعتبارها بداية المزج بين هذه الأمشاج، أي أنها بداية انحسار وانكسار الحدود بين أصحاب ميول وانتماءات– كانت في الأغلب غامضة وغير واضحة– ولكن كان ينعكس عليها دوي وشظايا الصراع بين التيارات الفكرية والحزبية خارج منطقة الخليج.

كانت الجفوة والنفرة تحكمان العلاقة بين هذه الأطياف التي يصعب تحديد توجهها إلا بمجهر، وهي حالة ناتجة من المناخ السياسي والديني الذي يهيمن على البلاد، والذي لا يسمح، إلا في حدود ضيقة جداً، بالإفصاح عن مخالفة السائد الديني أو الفكري أو نمط الحكم السياسي.

لطالما اعتبر الليبراليون السعوديون على سبيل المثال شريحة ناعمة ترعرعت في أحضان الدولة ومؤسساتها، بل وتلقت تعليمها على نفقة الدولة، ولكن حتى لا نذهب بعيداً، فهذه الشريحة التي كانت ملازمة لكل خطوة من مراحل التنمية والنهضة في البلاد، كانت على الدوام ذات ولاء مطلق للعائلة المالكة، ومدافعة أيضاً عن بقاء واستقرار هذا النمط من الحكم، وبذكاء وهدوء استطاعت أن تبعد عنها، إلا ما ندر، رقابة وإزعاج "المطاوعة" والمشايخ وتكون متحفظة وحذرة من أن تستهدف. وقد حدثت استثناءات قليلة، على الرغم من أنها كانت صاخبة ومدوية، فأحياناً تولى بعض الليبراليين الدفاع عن تطبيق الشريعة في البلاد، باعتباره موقفاً وطنياً في وجه الحملات المغرضة ضد الوطن!

«الربيع العربي» والليبراليون

ما حدث في السنوات الأربع الأخيرة التي عاشتها المنطقة العربية نتج عنه تغيير وتحوّل وتهجين وتحوّر في التيارات الفكرية والانتماءات السياسية التي كانت مطمورة تحت السطح لعقود، لقد تحور اليسار والقوميون والليبراليون أيضاً، والإسلاميون لم يكونوا استثناء من ذلك، فقد شهد عاما 2011 و2012 تقارباً كبيراً بين مجموعة من الليبراليين والإخوان المسلمين في مصر وفي الكويت وفي السعودية، وكان مثيراً للصدمة أن أسماء ليبرالية في عام 2011، كانت دائماً تنتهج الخط السياسي المحافظ، بدأت بالتحالف مع إسلاميين لتغيير أنظمة الحكم، والمطالبة بالديمقراطية، وصناديق الاقتراع، ومحاسبة العوائل الحاكمة في الخليج.

 ومع أن هناك مجموعة من الليبراليين كانوا متحفظين ومترددين في الالتحاق بهذه الموجة، إلا أن مئات المقالات وعشرات الكتب التي طبعت خلال 2011 و2012 كانت تشي بأن تحولاً قد حدث، وأن خطر الليبراليين على أنظمة الحكم واستقرار المجتمعات الخليجية، ليس أقل من خطر التنظيمات السرية التي كشرت عن أنيابها وأفصحت عن أهدافها بشكل واضح وصريح مطالبة بتغيير الأنظمة وإسقاطها. وأحياناً بدا بعض الليبراليين أكثر خطورة، لأنهم يقدمون أنفسهم للعالم الغربي وللإعلام الأمريكي والأوروبي على أنهم يمثلون الشريحة المتنورة من المجتمعات الخليجية، لا تطرح أي رؤى يمكن اعتبارها إسلامية رجعية أو متشددة أو ذات علاقة بالتطرف الإسلامي.

لكن تطورات الأوضاع التي تلت، كشفت بوضوح كيف أن الإسلاميين قد استغلوا الليبراليين وعبثوا بهم، واتخذوهم مطايا لتحقيق أهدافهم، كما حصل في مصر، وفي ليبيا، وفي تونس. فالإخوان المسلمون الذين شهدت السنوات الأربع الماضية ذروة نشاطهم السياسي، امتازوا بأنهم كانوا أكثر تنظيماً وأكثر دهاء، وأكثر خبرة في اقتناص الفرص، وهذا ما جعل بعض من حسبوا على الليبرالية ينقلبون بشكل أكثر حدة وأكثر عنفاً ضد الإسلاميين. لقد شعر بعض من انجرف وراء شعارات الربيع العربي، ووراء أحلام الديمقراطية، وفجر الحريات وربيعها، بأنه كان إلى حد كبير ربيعاً للتطرف وللإرهاب، وتدشيناً لعصر الفوضى والدمار والتفسخ، ولكنه كان استيقاظاً متأخراً.

الأمر الأكثر إدهاشاً أن الليبراليين الذين كانت الحريات الاجتماعية والفكرية هي حجر الزاوية في كل ما يطرحونه، قد غفلوا أو تغافلوا عن طرح هذه الأسئلة إبان "الربيع العربي" وفورة الثورات، على "حلفائهم الملتحين" الذين سعوا إلى إعلان تطبيق الشريعة، ومحاسبة ومحاكمة كل من لا يتفق معهم. وشهد الليبراليون الذين تحالفوا معهم كل يوم ازدياد التضييق على الحريات الاجتماعية والفكرية، وصعود نبرة التكفير والتضليل، وتنكُر حلفائهم لكل شعارات الديمقراطية التي كانوا يرفعونها قبل الوصول إلى الحكم، وقبل ذلك بسنوات حين كان بعض من الإخوان المسلمين يعيشون في المنافي، في أحضان الرعاية الغربية، والتمويل الغربي لكل الندوات والمؤتمرات التي تحولت إلى حبائل للتحشيد والتجنيد لأهداف الإسلام السياسي، وليس أكثر.

انجراف التيار الليبرالي الخاطئ

إن منبع الأسى أن أسماء مرموقة كانت قد قضت عشرات السنين وهي تنشط عبر المقالات والكتب والمؤتمرات في توعية المجتمعات بخطر الإسلام السياسي، وتحذر من منابع التطرف، قد انجرفت في المخططات التي عملت عليها هذه الجماعات واتخذت من هذه الفئة المستنيرة وسائل لحشد المتعاطفين من التيارات التي لا يمكن وصفها بأنها إسلامية، لقد كان بريق الديمقراطية، وأحلام الحرية يعبثان بعقول هذه الشريحة ومن دون أن تعي أو تتبصر، وأصبحت عائقاً وعامل تثبيط، وأحياناً كمن يسعى ضد وطنه ويحرض عليه.

وجد الليبراليون دائماً المكانة والاحترام والتمكين لتحقيق أحلامهم في نهضة وتنمية مجتمعاتهم في الخليج، وهو دور قابل للاستمرار، لأن جوهر الدول الخليجية اليوم هو ليبرالي الاقتصاد والسياسة الخارجية والتعليم العالي ومؤسسات الدولة وإعلامها وصحفها، ومن خلال هذه القنوات يجد الجميع دوراً له. لقد كان وكيل الحرس الوطني الشيخ عبدالعزيز التويجري، ووزير الإعلام السابق غازي القصيبي، مثالين نادرين لما يمكن وصفه بالليبرالية الوطنية السعودية، ومثله يقال عن المفكر الكويتي أحمد الربعي، والمفكر محمد الرميحي، واليوم يكاد هذا النمط من النخب ينقرض، بينما يعتبر الكاتب السعودي تركي الحمد مثالاً صاخباً للتحولات، قادماً من خلفيته اليسارية ليكون أبرز رموز الليبرالية السعودية خلال التسعينيات والعشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين، ولكنه أصبح ثورياً شعبوياً مع أحداث الربيع العربي لينحسر بعدها نشاطه وتخبو جذوته، ومثله كثير من الناشطين في شبكات التواصل الاجتماعي.

إذن هل الليبراليون خطر؟

وختاماً، في الوقت الذي يطمح الليبراليون إلى العبث بهذا التقليد الراسخ والإخلال بهذا التوازن، فإنهم الخاسرون في كل الأحوال، لأن الحاضر والمستقبل كلاهما يشيان بأن المنطقة التي تحتضن اليوم دولة داعش في العراق وسوريا، تحتضن في مجتمعاتها داعشيين تتضاعف أعدادهم كل يوم، وليس لليبراليين خارج الأنظمة والأسر الحاكمة اليوم إلا مستقبل كئيب معتم، ومحاكم تفتيش، وديوان زندقة سيكون لهم بالمرصاد. مع كل هذه الاعتبارات والعوامل، فمن الواضح أن الليبراليين لا يمثلون مشكلة حقيقية تالية لأنظمة الحكم، إلا كما يقال عند الفقهاء بالتبعية، ولكنهم قد يكونون ضحية انجرافهم وراء الأحلام الخادعة في رمال متحركة.