يعتبر الاقتصاد التونسي أحد الاقتصادات الأكثر تأثراً بالتداعيات السلبية لأزمة كورونا، نظراً لتركيبته الهيكلية، التي تعتمد بشكل كبير على تدفقات رؤوس الأموال من الخارج. ولذلك فقد واجهت الموازنة العامة التونسية ضغوطاً شديدة منذ بداية الأزمة، ما دفع الحكومة إلى الاقتراض على نطاق واسع. ومع توجه الحكومة مؤخراً لصندوق النقد الدولي للحصول على برنامج تمويل لمعالجة وضع الموازنة، فإن ذلك يثير الكثير من التساؤلات، سواءً تعلق الأمر بقدرة الاقتصاد على تخطي الوضعية الحرجة التي يمر بها الآن، أو تمكنه من تحقيق الاستقرار المالي والنقدي القابل للاستدامة، من خلال لجوئه إلى الاقتراض من الصندوق.
تراجع مستمر:
تسببت أزمة كورونا في انكماش الاقتصاد التونسي بنسبة تبلغ 8.8% في عام 2020، وقد حدث ذلك بعد أن حافظ الاقتصاد على نمو إيجابي طوال سبعة سنوات متتالية خلال الفترة 2012-2019، وهذا التحول في الأداء يقيس حجم وثقل التبعات التي خلّفتها الأزمة على الاقتصاد. وبجانب ذلك، فقد عانى الاقتصاد تراجعاً بنسبة تصل إلى 65% في الإيرادات السياحية العام الماضي، مع انخفاض عدد السائحين بنسبة 78%، بسبب القيود العالمية الساعية لمحاصرة فيروس كورونا. وهذا الأمر وضع الاقتصاد في ضائقة شديدة، لاسيما أن السياحة تعتبر قطاعاً حيوياً بالنسبة له، بمساهمته بنسبة 8% من الناتج، كثاني أكبر مساهمة بعد قطاع الزراعة.
كما خسر الاقتصاد جزءاً من تدفقات النقد الأجنبي الآتية من المصادر الأخرى خلال العام الماضي، حيث تراجعت تدفقات الاستثمار الأجنبي للبلاد بنسبة تبلغ 28.8%، وتقلصت الصادرات بنسبة تبلغ نحو 11.7%، وانخفضت تحويلات العاملين في الخارج بما نسبته 6%. وتسبب هذه التطورات في تراجع الإيرادات الحكومية بنسبة تصل إلى 6.8% خلال عام 2020، وذلك في الوقت الذي ازدادت فيه حاجة البلاد إلى الإنفاق، من أجل تحفيز الاقتصاد على النمو، وضرورة تخصيص المزيد من النفقات لقطاع الرعاية الصحية، لتمكين المستشفيات من تلبية حاجات المجتمع في مواجهة الأزمة الصحية الناتجة عن الوباء.
وفي ظل تراجع الإيرادات، لم يعد أمام الحكومة سوى خيار الاقتراض، من أجل سد عجز الموازنة، والذي ارتفعت نسبته إلى 10.6% من الناتج بنهاية العام الماضي. ومع توسع الحكومة في الاستدانة منذ بداية الأزمة، فقد أدى ذلك لارتفاع ديونها بمقدار 6.5 مليار دولار بنهاية عام 2020، ما تسبب في زيادة نسبة الديون إلى نحو 87.6% من الناتج، مقارنة بنسبة بلغت 71.8% عام 2019.
بديل أخير:
وفي هذا السياق، دخلت الحكومة مؤخراً في مفاوضات مع صندوق النقد الدولي، من أجل الحصول على برنامج قروض بقيمة 4 مليارات دولار، على 3 سنوات، مقابل قيامها بحزمة إصلاحات. ويرى رئيس الحكومة هشام المشيشي أن اللجوء للصندوق هو بمثابة "الفرصة الأخيرة التي يجب أن نستغلها لإنقاذ الاقتصاد والبلاد"، وذلك كما ورد في تصريحاته مؤخراً.
ورغم أن المشيشي على ثقة من التوصل لاتفاق مع الصندوق، وقد عبر عن ذلك بقوله: "نحن جديون وواثقون من الوصول لاتفاق مع الصندوق"، لكن لابد من الإشارة إلى أن التوصل لاتفاق مع الصندوق لن يكون بالأمر السهل، لاسيما أن الإصلاحات التي عادة ما يطلبها الصندوق من الدول في مثل هذه الحالات، والتي سيطلبها من تونس بالتأكيد، تتضمن تخفيضاً للدعم الحكومي للسلع، بما فيها الوقود، بجانب إعادة هيكلة النظام الضريبي، وإصلاحات أخرى تتعلق بتخفيض بند الأجور، ضمن النفقات بالموازنة العامة، إلى غير ذلك من إصلاحات تركز في الأساس على تقليص عجز الموازنة.
وقد أشار المشيشي إلى ما يؤكد توجه الحكومة، في هذا الإطار، بقوله إنه "بخصوص مخصصات الأجور في الموازنة فهى عالية جداً"، ورغم أنه يرى أن أحد بدائل معالجة هذا الأمر هو "رفع الناتج المحلي الإجمالي ما يُمكِّن من خفض حجم الأجور قياساً إليه"، لكن في الحقيقة فإن أمر زيادة الناتج المحلي بمعدلات مرتفعة بما يكفي لتقليص نسبة الأجور منه، ليس بالمهمة السهلة، كما أنها تحتاج وقتاً طويلاً، وقد لا يكون الوضع المالي للموازنة قادراً على تحمل الانتظار.
وهذا يعني أن الحكومة قد تجد نفسها مجبرة على اللجوء إلى تخفيض الأجور ضمن الموازنة، بما قد يقتضيه ذلك من تقليص معدلات التوظيف، أو تطبيق برامج للتقاعد المبكر، وغير ذلك. وهذه الإصلاحات لا يتوقع أن يكون للحكومة قدرة كبيرة على القيام بها من دون مشكلات، في ظل الضغوط الداخلية التي يمكن أن تواجهها، من طرف الاتحاد العام التونسي للشغل، واتحاد الصناعة والتجارة، واتحاد الفلاحين.
مصدر موازٍ:
قد تجد الحكومة نفسها مضطرة للدخول في نقاشات وحوارات مجتمعية طويلة، لإقناع الاتحادات النقابية والمجتمع، بأهمية الإصلاحات وضرورة القيام بها، وهذا الأمر يؤجل حصولها على قرض الصندوق، الأمر الذي قد يزيد من تعقيد الأوضاع المالية، ويجعل مهمة الحكومة لإخراج الاقتصاد من أزمته أكثر صعوبة خلال السنوات المقبلة.
وأخيراً، فإنه بافتراض توصل الحكومة لاتفاق مع صندوق النقد الدولي، فإن ذلك لن يكون كافياً، وخاصة أن حجم التمويل المتوقع، والبالغ 4 مليار دولار، لن يكون كافياً لحل الأزمة، كما أنه في حال الاتفاق مع الصندوق، فإن تونس لن تحصل على قيمة القرض دفعة واحدة، بل على دفعات، ترتبط بتقدمها في الإصلاحات المتفق عليها مع الصندوق. وهذه المعطيات تعني أن الاقتصاد يحتاج مصدراً آخر للإيرادات، يتم الاستعانة به تزامناً مع الحصول على قرض الصندوق، مع الأخذ في الاعتبار أن المصدر الإضافي ذاك يجب أن يكون أكبر في القيمة عن قرص الصندوق، وأقل تكلفة مقارنة به، وبالأحرى أن يكون مصدراً حقيقياً للإيرادات وغير مُكلِّف بالنسبة للموازنة العامة والاقتصادي الكلي.