ذكرت مصادر أمريكية، مؤخرًا، أن الإدارة الأمريكية تدرس سيناريوهات لسحب نحو 50 رأسًا نووية من قاعدة "إنجرليك" الجوية الواقعة في جنوب تركيا، وذلك على خلفية التوترات التي تشهدها العلاقات بين واشنطن وأنقرة بين حين وآخر، والتي تزايدت عقب العملية العسكرية التي شنتها تركيا في شمال شرق سوريا ضد "قوات سوريا الديمقراطية" المدعومة من واشنطن، التي تهيمن عليها وحدات حماية الشعب الكردية التي تصنفها أنقرة منظمة إرهابية، وهو ما اعتبره البعض -حال حدوثه- بمثابة بداية النهاية الفعلية للتحالف التركي - الأمريكي. غير أنه، في الوقت ذاته، توجد مجموعة من المصالح المتبادلة بين أنقرة وواشنطن قد تدفعهما لتحجيم التوتر القائم بينهما، بما يحول دون إقدام واشنطن على سحب رؤوسها النووية من تركيا، وهو ما سيتم تناوله فيما يلي.
سحب الرؤوس النووية:
نقلت صحيفة "نيويرك تايمز"، في تقرير لها، الاثنين 14 أكتوبر 2019، عن مسؤولين أمريكيين قولهم، إن مسؤولي وزارة الخارجية والطاقة يراجعون بهدوء خططًا لإخلاء ما يقرب من 50 سلاحًا نوويًّا تكتيكيًّا تخزنها الولايات المتحدة منذ فترة طويلة في قاعدة "إنجرليك" الجوية في تركيا، والواقعة على بعد حوالي 250 ميلًا من الحدود السورية. ووصف أحد المسئولين هذه الأسلحة النووية بأنها "أصبحت أشبه برهائن" لدى الرئيس التركي "أردوغان"، مشيرًا إلى أن سحب الرؤوس النووية الأمريكية من "إنجرليك" سيعد بمثابة نهاية فعلية للتحالف التركي - الأمريكي. وأشار التقرير إلى تصريح الرئيس التركي "أردوغان"، في سبتمبر الماضي، بشأن رغبة بلاده في امتلاك أسلحة نووية، عندما قال: "بعض الدول لديها صواريخ ذات رؤوس نووية، لكن ممنوع عليّ أن أحصل عليها. أنا لا أقبل ذلك".
وفي الصدد ذاته، قال الرئيس الأمريكي "ترامب"، الأربعاء 16 أكتوبر 2019، ردًّا على سؤالٍ عن إن كانت لديه أي أمور تدفع للقلق حيال 50 سلاحًا نوويًّا في قاعدة "إنجرليك" بتركيا، نظرًا للعمليات التركية في سوريا، واقتراحات بأن على أمريكا نقل هذه الأسلحة لمنطقة أخرى؛ قال ترامب: "نحن واثقون، ونحن لدينا قاعدة جوية رائعة هناك، كبيرة وقوية جدًّا، قادرة على التغلب على أي مكان"، وهو رد إن كان يلمح لاستمرار تواجد القوات الأمريكية في "إنجرليك"، فإنه لم يعطِ إجابة حاسمة حول ما إذا كانت الإدارة الأمريكية تدرس بالفعل سيناريوهات لسحب رؤوسها النووية من تركيا أم لا.
أهمية "إنجرليك":
بدأت الولايات المتحدة في بناء قاعدة "إنجرليك" بجنوب تركيا في عام 1951، في ذروة الحرب الباردة بينها والاتحاد السوفيتي، واستغرق بناؤها 4 سنوات، وللقاعدة مدرج واحد يبلغ طوله 3048 مترًا، إضافة إلى نحو 57 حظيرة للطائرات. وفي عام 1954، وقّعت واشنطن وأنقرة اتفاقًا للاستخدام المشترك للقاعدة، وتتمثل أهمية القاعدة بالنسبة للولايات المتحدة وحلف الناتو في الآتي:
1- مواجهة التهديد السوفيتي: جاء إنشاء قاعدة "إنجرليك" بالأساس بدعم من الولايات المتحدة وحلف الناتو لمواجهة تهديدات الاتحاد السوفيتي، حيث كان يُنظر لتركيا كخط الدفاع الأول لأوروبا أمام التهديدات السوفيتية. ولعبت هذه القاعدة دورًا محوريًّا خلال الحرب الباردة، إذ كانت طائرات التجسس الأمريكية تنطلق منها لتحلق فوق أجواء الاتحاد السوفيتي السابق، وكانت تضم 150 رأسًا نووية نشرتها الولايات المتحدة في القاعدة، وتم تخفيضها بعد ذلك ليصبح بها حاليًّا 50 رأسا نووية من طراز يُعرف باسم قنابل B-61 أو قنابل "الجاذبية".
2- مركز العمليات العسكرية: تحولت أهمية القاعدة، بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، إلى مركز لانطلاق عمليات حلف الناتو والولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط، ففي حرب الخليج عام 1991، كانت القاعدة نقطة انطلاق طائرات التحالف الدولي لضرب القوات العراقية التي اجتاحت الكويت، ولاحقًا كانت الطائرات تنطلق منها لفرض حظر للطيران على شمال العراق وجنوبه. وبعد هجمات 11 سبتمبر 2001، أقلعت الطائرات الأمريكية منها لقصف مواقع تنظيم "القاعدة" وحركة طالبان في أفغانستان. وفي يوليو 2015، سمحت تركيا لواشنطن وحلفائها في الناتو باستخدام القاعدة لمحاربة تنظيم "داعش" في سوريا والعراق.
ويتمركز في قاعدة "إنجرليك" الجوية حاليًّا السرب العاشر التابع لقيادة القوة الجوية التركية الثانية، كما هي مقر للسرب الـ39 للقوة الجوية الأمريكية، وتضم نحو 2500 عسكري أمريكي. وتستخدم أيضًا من قبل القوات الجوية البريطانية والألمانية.
احتمال مستبعد:
ليس من المرجّح أن تُقدِم واشنطن على سحب رؤوسها النووية أو قواتها الموجودة في قاعدة "إنجرليك" التركية، ومن المرجح أن تهديد الولايات المتحدة بسحب رؤوسها النووية من تركيا يأتي في إطار الضغوط الأمريكية على أنقرة بسبب عملياتها العسكرية في شمال شرق سوريا، حيث فرض الرئيس "ترامب"، الثلاثاء 15 أكتوبر 2019، عقوبات على تركيا شملت وزارتي الدفاع والطاقة ووزراء الطاقة والدفاع والداخلية، وذلك بهدف دفعها للقبول بوقف فوري لإطلاق النار، والدخول في مفاوضات بشأن وضع المقاتلين الأكراد في شمال سوريا، وإقامة المنطقة الآمنة. وهو ما يمكن إرجاعه لعدة اعتبارات، أبرزها:
1- حرمان تركيا من توظيف القاعدة كورقة ابتزاز، طالما هدد المسئولون الأتراك، وعلى رأسهم الرئيس "أردوغان"، بطرد القوات الأمريكية من "إنجرليك" وإغلاقها أمام واشنطن كلما توترت العلاقات بين البلدين، وهو الأمر الذي تصاعد على خلفية الموقف الأمريكي من محاولة الانقلاب العسكري في تركيا في يوليو 2016، واستضافة واشنطن للداعية المعارض "فتح الله كولن" المتهم بتدبير المحاولة الانقلابية ورفضها تسليمه لأنقرة، بالإضافة للدعم الأمريكي لـ"وحدات حماية الشعب" الكردية في شمال سوريا التي تصنفها أنقرة منظمة إرهابية.
ومن ثمّ فإن تركيا كانت توظف القاعدة لابتزاز واشنطن والضغط عليها، ويمكن أن يجيء إعلان واشنطن إمكانية سحب رؤوسها النووية من هناك كرسالة لأنقرة بأنها يمكن الاستغناء عن هذه القاعدة وإيجاد بديل لها، وبالتالي منع أنقرة من توظيفها كورقة ضغط ضدها.
2- أهمية أنقرة في مواجهة التهديدات القادمة من المنطقة، إذ لا تزال القوى الأوروبية والولايات المتحدة، أعضاء حلف الناتو، تنظر لتركيا كحائط صد أول أمام التهديدات القادمة من الشرق الأوسط الذي يعاني من أزمات متواصلة ومتفاقمة، وبالتالي فإن سحب الولايات المتحدة رؤوسها النووية من قاعدة "إنجرليك"، قد يُثير غضب أنقرة التي قد ترد بطرد القوات الأمريكية وقوات الناتو من القاعدة، وهو ما سيُفقد الحلف ميزة استراتيجية في عملياته العسكرية بالمنطقة.
3- مركزية تركيا في الاستراتيجية الأمريكية لمواجهة روسيا والصين، إن سحب الولايات المتحدة رؤوسها النووية من تركيا، وما قد يتبعه من توتر متزايد في العلاقات بين الدولتين ومزيد من التقارب التركي مع روسيا؛ سيمثل ضربة لاستراتيجية واشنطن الدفاعية التي تركز على مواجهة النفوذ المتصاعد لروسيا والصين، حيث تشترك أنقرة في حدود بحرية مع روسيا بالبحر الأسود، وتسمح تركيا للسفن التابعة لحلف الناتو بالمرور في البحر الأسود، كما أن تركيا تتحكم في مضيق البوسفور الذي يُعد نقطة المرور الرئيسية لروسيا نحو البحر المتوسط، هذا فضلًا عن أن تركيا تُعد محورًا رئيسيًّا في طريق الحرير الصيني.
ورغم التقارب التركي الشديد مع روسيا، إلا أن واشنطن والقوى الأوروبية تدرك أن هذا التقارب مرتبط بدرجة كبيرة بالنفوذ السياسي والعسكري الروسي في سوريا، ورغبة الرئيس "أردوغان" في تأمين مصالح بلاده هناك، فضلًا عن توظيف تقاربه مع موسكو في ابتزاز الولايات المتحدة وأوروبا، والحصول منهما على مزيدٍ من التنازلات في الملفات الخلافية.
رؤية "أنقرة":
من المرجّح أن تسعى تركيا للتهدئة مع واشنطن وإصلاح العلاقات معها، بما يحول دون سحب الولايات المتحدة رؤوسها النووية أو قواتها من قاعدة "إنجرليك"، إدراكًا منها أن ذلك سيمثل بداية النهاية الفعلية للتحالف مع واشنطن، وهو ما لا ترغب فيه أنقرة، وذلك للاعتبارات التالية:
1- إدراك تركيا أهمية تحالفها مع واشنطن في مواجهة موسكو، رغم التوترات التي تشهدها العلاقات بين الدولتين بين حين وآخر؛ إلا أن تركيا تدرك أن تقاربها مع موسكو تقارب مؤقت مرتبط بمصلحة آنية، وهي الأزمة السورية، وأن ملفات الخلاف بين البلدين أكثر من ملفات التوافق، ويعزز من ذلك حجم ملفات الخلاف التاريخية بين أنقرة وموسكو، التي دفعت الدولة العثمانية والإمبراطورية الروسية لخوض أكثر من 10 حروب، ولا يزال لعدد من هذه الخلافات امتدادات حتى الوقت الحالي، يأتي على رأسها تعزيز روسيا نفوذها في البحر الأسود، واعتبار أنقرة ذلك تهديدًا لأمنها القومي، ورفض أنقرة -حتى الآن- الاعتراف بضم روسيا لجزيرة القرم الأوكرانية، والتنافس بين الدولتين في منطقة القوقاز، ودعم روسيا السياسي والعسكري لأرمينيا في مواجهة دعم تركيا لأذربيجان.
2- لجوء تركيا لواشنطن حال انهيار العلاقات مع موسكو، وذلك على غرار ما حدث في نوفمبر 2015، عندما قامت أنقرة بإسقاط مقاتلة روسية على الحدود مع سوريا بدعوى انتهاكها الأجواء التركية، حيث سارعت تركيا إلى اللجوء لحلف الناتو خوفًا من رد عسكري روسي، وعَقَدَ الحلف اجتماعًا طارئًا بناء على طلب من أنقرة، وأيد حقّ تركيا في الدفاع عن نفسها، وردت روسيا وقتها بفرض عقوبات اقتصادية على تركيا، وقطعت جميع علاقاتها العسكرية معها، ولم تتحسن العلاقات بين البلدين إلا في يوليو 2016 على خلفية التوتر في العلاقات الأمريكية - التركية.
وفي الختام، يمكن القول إن الأنباء المتداولة عن سعي واشنطن لسحب 50 رأسًا نووية من قاعدة "إنجرليك" في تركيا تندرج بالأساس في إطار الضغوط الأمريكية على أنقرة، لمنعها من توظيف القاعدة كأداة ابتزاز وضغط في مواجهة واشنطن، وذلك نظرًا لما تحققه هذه القاعدة وتواجد القوات الأمريكية فيها من مصالح متبادلة للجانبين.
يضاف لما سبق، أنه تم تداول هذه الأنباء في خضم التوتر بين الولايات المتحدة وتركيا على خلفية شن الأخيرة عملية عسكرية ضد "قوات سوريا الديمقراطية" المدعومة من واشنطن في شمال شرق سوريا، وهو ما يرجح أن واشنطن قامت بتوظيف هذه الورقة لإرغام تركيا على القبول بوقف فوري لإطلاق النار هناك، وهو ما تحقق بتوصل الجانبين لاتفاق في 17 أكتوبر 2019، وافقت تركيا بموجبه على وقف عمليتها العسكرية لـ5 أيام تمهيدًا لانسحاب المقاتلين الأكراد من المنطقة.