تبنّت بعض دول الشرق الأوسط في الآونة الأخيرة برامج موسعة لخصخصة المرافق العامة أو الشركات المملوكة لها، وذلك تحت وطأة الضغوط المالية والاقتصادية التي تعاني منها اقتصادات المنطقة جراء التوترات الأمنية والسياسية، بجانب تراجع أسعار النفط في الأسواق العالمية. في حين أن وتيرة عمليات الخصخصة في دول أخرى، مثل تونس وإيران، لا تزال تمر ببطء شديد نظرًا لكون المناخ السياسي والاقتصادي غير مواتٍ بهما.
وفي الواقع، فإن تطبيق هذه البرامج -أيًّا كانت درجة نطاقها- يتوازى مع اتجاه كثيرٍ من دول المنطقة إلى برامج أوسع للإصلاح الاقتصادي تقوم في الأساس على تحقيق أهداف مثل الاستقرار المالي تزامنًا مع الرغبة في تعزيز دور القطاع الخاص في الاقتصادات الوطنية.
ووفق كثير من التقديرات، من المتوقع أن تُدرَّ برامج الخصخصة عوائد مالية كبيرة لحكومات المنطقة، بالإضافة إلى دورها المحتمل في تحسين وتعزيز المنافسة في القطاعات الاقتصادية المختلفة.
ورغم المزايا السابقة، فإن برامج الخصخصة معرضة لكثير من القيود في دول المنطقة، وذلك لثلاثة أسباب رئيسية: يتصل أولها، بكون المناخ السياسي غير مواتٍ لتنفيذ عمليات الخصخصة في ظل المعارضة الشديدة لها من قبل بعض الفئات الاجتماعية. ويتمثل ثانيها، في تداعيات الظروف الاقتصادية التي يمكن أن تُضعف جدوى عمليات الخصخصة ذاتها. ويتعلق ثالثها، بالتوجهات العامة لبعض الدول بإبقاء الشركات المملوكة لها تحت سيطرتها، بل وإضافة أصول جديدة لحوزتها.
ظروف غير مواتية:
يأتي توسع بعض دول منطقة الشرق الأوسط في تنفيذ خطط لخصخصة المرافق العامة والشركات المملوكة لها تحت وطأة الظروف التالية:
1- تراجع النمو الاقتصادي: في ظل تصاعد حدة الصراعات في بعض دول الشرق الأوسط وتراجع الأسعار العالمية للنفط، تباطأ النمو الاقتصادي في المنطقة بدرجة كبيرة ليصل إلى 2.4% بين عامي 2013 و2015، وهو ما يعادل نصف معدل النمو السنوي الذي تحقق خلال السنوات العشر الأولى من العقد الحالي. وعلى الرغم من توقعات المؤسسات الدولية -مثل البنك الدولي- بتحسن النمو الاقتصادي ليصل إلى 3% في السنوات المقبلة؛ فإن ذلك يظل دون المستويات القياسية التي حققها قبل اندلاع الثورات العربية عام 2011.
2- الضغوط المالية: تعاني كثير من دول المنطقة من ضغوط مالية كبيرة، إما جراء تراجع أسعار النفط، أو انخفاض الإيرادات الضريبية، وهو ما فرض الخصخصة كأحدَ الخيارات المحتملة لزيادة العوائد المالية للدولة. وبحسب البنك الدولي، فقد بلغ عجز أرصدة المالية العامة لدول الشرق الأوسط نحو 10.1% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2016، وذلك مقارنة بـ2.1% في عام 2014، غير أنه من المرجح أن يتحسن المشهد المالي تدريجيًّا في السنوات المقبلة ليصل عجز الأرصدة المالية إلى 5.6% و3.6% في عامي 2017 و2018 على التوالي.
3- تراجع كفاءة الشركات المملوكة للدولة: تُشير دراسة لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية صادرة عام 2013 تحت عنوان "الشركات المملوكة للدولة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا: محركات التنمية والتنافسية"، إلى أن العديد من الشركات المملوكة للدولة في المنطقة تُعاني من إنتاجية ضعيفة وصعوبة في التنافس مع الشركات الخاصة.
وفي كثيرٍ من الحالات، فإنها تعاني من فائض في العمالة، وتراجع الكفاءة، وضعف الإيرادات المالية، وهو ما يستوجب، حسب تقييم المنظمة، إعادة هيكلة هذه الشركات على الصعيدين المالي والإداري. ومثال على ذلك، أقرت شركة الخطوط الجوية التونسية، في أغسطس 2016، تسريح ألف موظف أو ما يزيد على 12% من قوتها من أجل تعزيز قدراتها التنافسية. وبجانب إعادة الهيكلة، تبدو عمليات الخصخصة الكلية أو الجزئية خيارًا مستقبليًّا محتملا للعديد من الشركات في الإقليم للتغلب على الصعوبات المالية والإدارية التي تواجهها.
التوجهات الراهنة:
في ظل تفاوت الظروف السياسية والاقتصادية في أنحاء المنطقة، تمكنت بعض دول المنطقة من تبني برامج موسعة لعمليات الخصخصة، في حين التزمت أخرى ببرامج محدودة لخصخصة الأصول العامة. وفيما يتصل بالمسار الأول، فإن تركيا كانت من أبرز الدول التي تبنت هذا النهج، ففي أغسطس 2016، أقر البرلمان التركي طرح 100 مؤسسة حكومية ضمن قائمة المؤسسات المطروحة للبيع في إطار برنامج الخصخصة الذي بدأته في ثمانينيات القرن الماضي وأدر عليها عوائد بنحو 66 مليار خلال الفترة بين 1986-2015.
أما فيما يتعلق بالمسار الثاني، فقد كانت دول مثل تونس وإيران العراق في مقدمة الدول التي اتجهت إليه، حيث تُجري محاولات محدودة لاستكمال برامج الخصخصة التي بدأتها في القرن الماضي. ففي تونس، تخطط الحكومة لإدراج بعض بنوكها المملوكة للدولة في البورصة المحلية، بما قد يفتح الباب للمستثمرين الأجانب للاستحواذ على حصص في البنوك. وفي هذا الصدد أشار رضا السعيدي المستشار لدى الحكومة التونسية، في مارس 2017، إلى إمكانية خصخصة بنك الإسكان.
أما في إيران، فيبدو أن برنامج الخصخصة الذي بدأ عام 2006، قد جُمِّد بشكل واقعي، خاصة أن عمليات الخصخصة كانت تتم عبر نقل حصص الهيئات الحكومية إلى مؤسسات شبه حكومية، بما في ذلك صناديق المعاشات التقاعدية، والمؤسسات الدينية، والشركات المملوكة من قبل الحرس الثوري.
فيما بدأت العراق برنامجًا محدودًا لخصخصة بعض القطاعات الاقتصادية، مثل قطاع توزيع الكهرباء الذي أعلن عن خصخصته منذ عام 2012، إلا أنها لم تمضِ في تيسير دخول القطاع الخاص سوى منذ بداية عام 2017. ومن المتوقع -بحسب وزارة الكهرباء العراقية- أن توفر خصخصة قطاع التوزيع عائدات مالية بنحو 6 مليارات دولار سنويًّا.
عراقيل عديدة:
مع مضيّ بعض دول المنطقة في تنفيذ برامج الخصخصة، واجهت الحكوماتُ العديد من الصعوبات في الآونة الأخيرة. يتمثل أولها، في أن المناخ السياسي غير مواتٍ لمواصلة عمليات الخصخصة في كثير من الدول، كالعراق التي واجهت منذ بداية عام 2017 مظاهرات بمختلف أنحاء المحافظات المختلفة، وكان آخرها بمحافظة ذي قار في أبريل الفائت، جراء تزايد المخاوف الشعبية من ارتفاع أسعار الكهرباء نتيجة عمليات الخصخصة.
وينصرف ثانيها، إلى أن الظروف الاقتصادية أثرت سلبيًا على جدوى عمليات الخصخصة أو مشاركة القطاع الخاص في عمليات إدارة المرافق العامة. ففي تركيا، على سبيل المثال، جُمدت الخصخصة الجزئية لمرافق الطرق والجسور بسبب عدم الجدوى التجارية من بيع هذه الأصول، وذلك حسبما أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في عام 2013.
ويتوافق الوضع السابق مع بعض التقديرات الحالية بأن بعض المشروعات التي يتم إنجازها بالتعاون بين القطاع العام والخاص تواجه خسائر في الوقت الحالي، مثل جسر عثمان غازي باسطنبول الذي تُديره إحدى الشركات الخاصة، فقد تكبد خسائر بنحو 62 مليون دولار خلال أكثر من شهر ونصف من بداية عام 2017، وذلك بسبب مرور 12 ألف سيارة فقط يوميًّا، قياسًا بالأهداف المقدرة بعبور 40 ألف سيارة يوميًّا.
ويتصل ثالثها، بالتوجهات العامة لبعض الدول التي تتعمد الإبقاء على السيطرة على الشركات المملوكة لها، بل وتنميتها في أحيان أخرى، مثل إيران التي نفذت فيها عمليات الخصخصة بشكل صوري، حيث تم نقل حصص الهيئات الحكومية إلى مؤسسات شبه حكومية، مثل الشركات المملوكة من قبل الحرس الثوري.
وختامًا، يمكن القول إن عمليات الخصخصة تمر بصعوبات عديدة في منطقة الشرق الأوسط، بما قد يحول نسبيًّا دون تحقيق الأهداف الحكومية بتعزيز العائدات المالية أو تحقيق التنافسية المنشودة.