تصاعدت دعوات رؤساء دول ووزراء في حكومات ورجال دين وقضاة شرعيين وأعضاء برلمان، خلال السنوات القليلة الماضية، إلى تعدد الزوجات، أو على الأقل التشجيع على الزواج الثاني داخل الدول العربية التي تشهد صراعات داخلية مسلحة وحروبًا أهلية، على نحو فرض إشكاليات حادة داخل الأسر العربية، وهو ما خبرته السودان وجنوب السودان وليبيا وتونس واليمن وسوريا والعراق، بأنماط مختلفة ودرجات متفاوتة، بخلاف زواج المتعة وجهاد النكاح وزواج القاصرات.
ويُمكن إرجاع تزايد دعوات تعدد الزيجات، التي صارت موضوعًا لبعض خطب الجمعة، لا سيما في البؤر العربية المسلحة، خصوصًا سوريا، إلى مجموعة من الأسباب، منها: دعم القوة البشرية في المؤسسة العسكرية، وتعويض الخسائر البشرية في بعض المناطق الجغرافية، وتمويل اقتصاديات الصراعات الداخلية والحروب الأهلية الممتدة، وصرف أنظار الرأي العام عن القضايا الملحة، وحل مشكلات العنوسة والطلاق وفقدان الزوج، والتخفيف من ضيق الأوضاع الاقتصادية والمالية.
ويُعتبر تعدد الزوجات عادةً شائعةً في بعض المجتمعات العربية، إذ يرتبط بمفهوم العزوة، وعلامة على الثروة والمكانة الاجتماعية. غير أن مسألة تعدد الزوجات أصبحت واحدة من القضايا المثارة في المنطقة العربية بعد الحراك الثوري؛ إذ ظهرت دعوات بتونس بعد ثورة الياسمين في نهاية عام 2010 تطالب بالسماح بتعدد الزوجات على الرغم من أن تعدد الزوجات في القانون التونسي "جريمة يعاقب عليها القانون" منذ وصول الرئيس الحبيب بورقيبة للسلطة. فالأصل في العلاقات الزوجية المفارقة والزواج مرة أخرى، وليس الجمع بين الزوجات تحت سقف واحد في تونس، وهو ما يُفسر إدراج تونس ضمن الدول العربية الرائدة في مجال حقوق المرأة.
قضية خلافية:
كما برزت خلال الأعوام الماضية الدعوات الرامية إلى زيجات التعدد في الجزائر والمغرب والأردن، حيث كانت تلك الدعوات محل قبول ورفض بين شرائح المجتمع المختلفة؛ فقد أيدها قطاع من المجتمع، في حين ظهر رفض نسائي تقوده المنظمات النسائية والأحزاب الليبرالية ضد دعوة التعدد في حالات أخرى لأنها تخشى تراجعًا في حقوق المرأة. غير أن دعوة التعدد في الزيجات في بؤر الصراعات العربية المسلحة كانت أقرب إلى ما يمكن تسميته بـ"زواج الأزمات".
وهنا أشارت وكيلة الأمين العام للأمم المتحدة، ريما خلف، بمناسبة اليوم العالمي للمرأة، الذي يصادف 8 مارس من كل عام، إلى أنه "في الدول المنكوبة بالنزاعات -مثل اليمن والعراق وسوريا- تعاني المرأة من الظلم، وللأسف فإن وضع المرأة العربية في بعض الدول يتراجع على عكس كل الآمال التي حلمنا بها لتحسينها". ولعل هذه العبارة تجسد المعاناة المركبة التي تتعرض لها المرأة العربية، خاصة في بؤر الصراعات المسلحة، وهو ما انعكس في مؤشرات من شأنها استهداف النساء والفتيات بممارسة العنف الجنسي، والزواج القسري، والاسترقاق الفعلي.
إن ثمة دواعي محددة تفرضها الدعوات الرامية إلى تشجيع تعدد الزوجات في بؤر الصراعات المسلحة العربية، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:
وقود التجنيد:
1- دعم القوة البشرية في المؤسسة العسكرية: دعا الرئيس السوداني عمر البشير ضمن كلمة ألقاها أمام حزب المؤتمر الوطني في إبريل 2013، إلى تجاهل سياسات تنظيم الأسرة، لأن السودان تحتاج إلى المزيد من البشر لتحقيق أهداف التنمية باعتبار السودان واحدة من أكبر الدول الإفريقية الغنية بالموارد الطبيعية. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الحكومات السودانية عمدت منذ وصولها إلى السلطة في عام 1989 إلى تطبيق برنامج الزواج الجماعي أو "زواج البركة"، إذ تم عقد آلاف الزيجات بمهور رمزية في جميع أنحاء السودان تحت إشراف وتمويل منظمات حكومية وغير حكومية.
كما طالب الشيخ دفع الله حسب الرسول النائب في البرلمان السوداني، في 28 مايو 2013، بالتعدد وعدم الاكتفاء بزوجة واحدة والزواج من أربع نساء، حيث برر مطالبته بقوله: "نحن أمة مستهدفة والجيش يحتاج إلى دعم، والتعدد سنة النبي (ص)، وأن المرأة يجب أن تعين زوجها ليتزوج عليها"، مشيرًا -نقلا عن صحيفة "الرأي العام" السودانية- إلى أن "عدد الرجال فوق سن الخمسين بالسودان -حينذاك- 7 ملايين، وإذا تزوج هؤلاء فسيضيفون 35 مليونًا من الرجال"، وأضاف: "هذا العدد يفتح أمريكا وليس كاودا"، في إشارة إلى مدينة كاودا معقل الجبهة الثورية التي تحارب السلطات السودانية بجنوب كردفان.
فضلا عن ذلك، تشير اتجاهات عديدة إلى أن الكثيرين في جنوب السودان أنجبوا في إطار تعدد الزوجات أطفالا شكلوا قوة كبيرة للقتال من أجل التحرير والحصول على الاستقلال في عام 2011.
نسل مناطقي:
2- تعويض الخسائر البشرية في بعض المناطق الجغرافية: صدرت توصيات من الإدارة المحلية في مناطق الساحل السوري بزيادة النسل كجزء من السياسات التعويضية للخسائر البشرية التي مُني بها أبناء الساحل خلال السنوات الست الماضية في معارك نظام الأسد مع قوى المعارضة المسلحة. وهنا يتخذ طابع اللجوء إلى تعدد الزوجات بُعدًا مناطقيًّا أو أقاليميًّا ضمن دولة ما، لا سيما في ظل تعرض السكان المقاتلين للموت.
هبات مالية:
3- تمويل اقتصاديات الصراعات الداخلية: وهو ما ينطبق جليًّا على الحالة السورية، إذ يستفيد أثرياء الحرب من حفلات الزواج الجماعي في تمويل وقود الصراع. فعلى سبيل المثال، تقيم شركة الجوال "سيرتيل" التي يملكها رامي مخلوف ابن خال رئيس النظام السوري بشار الأسد، حفلات أعراس جماعية بشكل سنوي مع دفع هبات مالية من جانب الأصدقاء والأقارب للعروسين، بهدف تشجيع شباب الميليشيات المسلحة المقاتلة في صفوف النظام على الزواج.
لفت انتباه:
4- صرف أنظار الرأي العام عن القضايا الضاغطة: فبعض النظم السياسية تتجه إلى التفكير في طرح حلول لمشكلات مجتمعية داخلية لإلهاء قوى المجتمع عن القضايا الحاكمة لتوجهاتها. إذ يهدف النظام السوري، مثلا، إلى صرف أنظار الرأي العام الداخلي عن القضية المحورية لكثير من السكان، وهي سياسته في القتل والاعتقال والتهجير والملاحقة لكل من يتبنى رؤى مغايرة له.
وكذلك تكرر الحال مع إعلان رئيس المجلس الوطني الانتقالي الليبي السابق مصطفى عبدالجليل يوم إعلان تحرير ليبيا من قبضة القذافي بأن جميع القوانين المخالفة للشريعة الإسلامية ستبطل بالكامل، لا سيما منها قانون منع تعدد الزوجات من دون موافقة الزوجة الأولى، على الرغم من وجود قضايا المرحلة الانتقالية التي تتعلق بإجراء الانتخابات وتشكيل لجنة كتابة الدستور.
ارتباط "السترة":
5- حل مشكلات العنوسة والطلاق وفقدان الزوج: أدت موجة الصراعات الراهنة التي شهدتها ليبيا واليمن وسوريا والعراق إلى ازدياد معدلات العنوسة نظرًا لانشغال الشباب في المعارك على الجبهات، أو الهروب إلى خارج البلاد لعدم أداء الخدمة العسكرية، أو بحثًا عن ظروف معيشية أفضل.
وفي هذا السياق، دعا القاضي الشرعي الأول بدمشق، محمود معراوي، في تصريحات إعلامية في 17 فبراير 2017، إلى تشجيع الرجال على الزواج الثاني باعتباره أحد الحلول المقترحة للقضاء على ظاهرة العنوسة في المجتمع السوري بعد ارتفاع نسبة الإناث مقابل الذكور إلى أكثر من 65%.
كما دعت هيئة علماء السودان إلى تعدد الزوجات للحد من ارتفاع معدلات العنوسة في البلاد، لا سيما مع توافر أدلة شرعية تجيز التعدد في الزواج، وفقًا لما أوردته وكالة الأنباء السودانية "سونا" في 10 إبريل الجاري. ويضاف إلى ذلك تزايد عدد الإناث مقابل عدد الذكور، بخلاف انتشار البطالة وسط القطاعات الشبابية بمعدلات مرتفعة، مما قد يفتح الباب أمام مشكلات مجتمعية من قبيل الانحرافات السلوكية.
ونظرًا لتزايد حالات "ترمل" النساء، خاصة زوجات المقاتلين في بؤر الصراعات العربية، فضلا عن أن العسر المالي الذي تواجهه الأسر وعوائلها قد يؤدي إلى تفاقم حالات الطلاق؛ فإن فكرة "تعدد الزوجات" تُطرح على نحو ما اقترحته النائبة في مجلس النواب العراقي جميلة العبيدي بمؤتمر صحفي في 17 مارس 2017 بإقرار قانون يشجع الرجال على الزواج من أكثر من واحدة بما يُفيد المطلقات والأرامل اللواتي فقدن أزواجهن في أعمال العنف. وطبقًا لأحد التقديرات، يبلغ عدد الأرامل والمطلقات داخل المجتمع العراقي، أربعة ملايين من إجمالي 36 مليون نسمة.
كما قررت المحكمة العليا في ليبيا، في 7 فبراير 2013، رفع القيود عن تعدد الزوجات التي كان يفرضها نظام معمر القذافي، خاصة بعد موافقة الزوجة الأولى، أو الحصول على إذن كتابي من المحكمة الجزائية المختصة، أو إثبات قدرات الزوج المالية والصحية على إعالة عائلة ثانية.
اقتصاديات التأزيم:
6- التخفيف من ضيق الأوضاع الاقتصادية والمالية: وهنا يعد المتغير الاقتصادي أحد أبرز العوامل التي تحدد الإقبال أو العزوف عن الزواج، خاصة في حال تعدد الزوجات. فعلى سبيل المثال، بلغت نسبة تعدد الزوجات في عام 2015، وبحسب الزيجات المسجلة في المحاكم الشرعية التابعة لمدينة دمشق، نحو 30% مقابل 5% في عام 2010.
وبالتوازي مع ارتفاع نسب الزواج، زادت نسب الطلاق، إذ سجلت المحكمة الشرعية في دمشق 7028 حالة طلاق في عام 2015 مقابل 5318 في عام 2010، أي بزيادة قدرها 25%، وهو ما يعود إلى عدم قدرة الأزواج على إعالة الزوجة بعد تصاعد حدة الصراع المسلح، حيث فَقَدَ الكثيرون أعمالهم، أو للخلافات الزوجية بسبب رغبة أحدهما في السفر ورفض الآخر خوفًا من مخاطر الغربة أو لعدم الرغبة في الابتعاد عن الأهل.
إلى جانب امتداد "زواج الأزمات" عبر الحدود على نحو ما يجسده ارتفاع حالات تعدد الزوجات في تركيا، بعد تدفقات اللاجئين السوريين على خلفية اندلاع الثورة السورية في عام 2011 بسبب الأوضاع المالية الصعبة التي فرضت على الكثير من الأسر تزويج بناتهن، لدرجة وصلت، في بعض الأحيان، إلى ظهور ما يُعرف بـ"زواج الإمام"، أي تسجيل عقد الزواج لدى أحد الشيوخ الأتراك أو السوريين، دون إخطار الزوجة الأولى بذلك.
زواج القاصرات:
مع تراجع مصادر دخل الأسر اليمنية، يتم الدفع نحو الزواج المبكر للفتيات، حيث يشير أحد التقديرات إلى أنه تم تزويج أكثر من ثلثي الفتيات قبل بلوغهن الثانية عشرة، مقابل 50% منهن قبل تفاقم الصراع. وقد كشف صندوق الأمم المتحدة للسكان في نهاية مارس الماضي عن 10 آلاف قضية عنف ضد النساء في اليمن خلال عام 2016، ويُعد من أبرز قضايا العنف: زواج القاصرات، والزواج بالإكراه، والإيذاء البدني، والعديد من أشكال العنف ضد النساء والفتيات.
ووفقًا لتقرير معنون بـ"أطفال اليمن: السقوط في دائرة النسيان"، الصادر عن منظمة اليونسيف في الثلث الأخير من مارس 2017، تلجأ الأسرة بشكل متزايد إلى اتخاذ تدابير صعبة مثل تزويج الفتيات صغيرات السن. وأضاف التقرير: "يرتفع أعداد الذين يعانون من الفقر المدقع بشكل هائل. فقرابة 80% من الأسر مثقلة بالديون، ونصف سكان البلاد يعيشون على أقل من دولارين في اليوم". ورغم ذلك، فإن الزواج في سن مبكرة ليس حكرًا على الأسر الفقيرة، فهناك أسر ميسورة الحال تزوج فتياتها في سن مبكرة.
مؤثرات ضاغطة:
خلاصة القول، تمثل الأبعاد السابق ذكرها تأثيرات ضاغطة للصراعات الداخلية المسلحة على العلاقات داخل الأسر العربية، في بعض الدول، فيما يخص الارتباط والطلاق والعنوسة والترمل، حيث تتداخل متغيرات وسيطة تتعلق بالضغط المالي والتجنيد العسكري والتشتت القسري والألم النفسي والانحراف الأخلاقي، وهي التي تدفع في اتجاه ترجيح تعدد الزوجات كحل للمشكلات من وجهة نظر البعض في حالات معينة، في حين يقود إلى خلق مشكلات موازية لحالات أخرى، مثل انهيار الأسر المتماسكة القائمة، وتقنين الاتجار بالنساء، وازدياد زواج القاصرات، وغيرها.