ثمة حالة من التفاؤل الدولي التي تصاحب عملية تحرير الجزء الغربي من الموصل من قبضة تنظيم "داعش"، ثم التوجه إلى مدينة الرقة لتحريرها، مما يعني سقوط عاصمة الخلافة المزعومة ورمزيتها بين التنظيمات الإرهابية في العالم. ومع ذلك فإن هذا الأمر يطرح عدداً من التساؤلات المهمة حول المكان البديل الذي سيختاره "داعش" ليكون عاصمة جديدة له، والمواصفات التي يتعين توافرها فيه، والفرع المؤهل للقيام بهذا الأمر، لاسيما إذا فشل قادة التنظيم في نقل عاصمته إلى مدنية "دير الزور" التي بدأ ينتقل إليها كبار قادته ورموزه من "الرقة" و"الموصل" منذ مطلع يناير 2017.
وتتزايد أهمية هذه التساؤلات "الاقتراضية" في ظل تعدد فروع "داعش" وانتشارها حول العالم، ورغبة العديد منها في القيام بذلك الدور، بسبب الامتيازات المادية والتنظيمية الكبيرة التي سيتم الحصول عليها، في حالة احتضان معقل التنظيم.
أهمية "مقر الخلافة"
لقد مثَّل إعلان تنظيم "داعش" عن قيام ما يُسمى "الخلافة" وتنصيب أبي بكر البغدادي زعيماً لها، حدثاً فارقاً في تاريخ التنظيمات الجهادية، حيث إنه يعد أول تنظيم يقدم على هذا الأمر، لذا جذب كثيراً من المتطرفين حول العالم، نظراً لقدسية مفهوم الخلافة لديهم، مما جعلهم يبايعون "داعش" فرادى وجماعات.
وبالتالي، فإن سقوط عاصمة الخلافة المزعومة في الرقة، ستكون له تداعيات على مستقبل "داعش" وتماسكه، لأنه سيفقد السبب الرئيسي الذي جعل المتطرفين يلتفون من حوله، الأمر الذي سيدفعه إلى البحث عن مقر جديد للخلافة المزعومة، يكون في الوقت نفسه معقلاً لقيادة "داعش" الرئيسية، وهيكله التنظيمي، حيث سيتم غالباً اختيار إحدى المناطق التي يسيطر عليها أحد فروعه القوية.
وعلى الرغم من أهمية سرعة اختيار مقر لقيادة تنظيم "داعش" في مرحلة ما بعد الرقة، فإنه سيكون من الصعب تحديد هذا المقر من دون مبايعة خليفة جديد، خاصةً أن سقوط التنظيم في العراق وسوريا، سيؤدي غالباً إلى قتل البغدادي أو القبض عليه، لأنه سيكون من الصعب عليه الهروب إلى خارج العراق وسوريا، في ظل الرغبة القوية من القوى الدولية والإقليمية في القبض عليه.
ولذلك، فإن فروع "داعش" ستسارع إلى مبايعة شخص جديد لخلافة البغدادي، تتوافر فيه مجموعة من الشروط التي وضعها التنظيم في اختيار خليفته، مثل القرشية والعلم وسلامة الحواس والعدالة وغيرها من الشروط، مما يعني أن الزعيم الجديد للتنظيم غالباً سيكون عربياً، ومن القادة التاريخيين في العمل الجهادي، وهو ما يرجح أن تكون عاصمة الخلافة "الداعشية" الجديدة في المنطقة العربية.
مواصفات المقر الجديد
ساهمت الأوضاع في سوريا والعراق، بشكل كبير في ظهور تنظيم "داعش" وتمدده وبقائه حتى الآن، وهذه الأوضاع من الصعب أن يجدها التنظيم في مكان آخر، تتوافر فيه كل المواصفات التي وُجدت في الرقة. لذا فإنه سيحاول البحث عن منطقة يتوافر فيها أكبر قدر من هذه المواصفات، نظراً لأنه سيكون بها معظم قادة التنظيم الكبار.
ويمكن تحديد أهم هذه المواصفات التي يُفترض توافرها في المنطقة التي ستكون فيها عاصمة تنظيم "داعش"، في الآتي:
1- الانهيار الأمني المركزي: من البديهي أن تكون الدولة التي سيقع عليها الاختيار، لتكون فيها عاصمة تنظيم "داعش" الجديدة، تعاني الانهيار الأمني، وعدم وجود حكومة مركزية قوية تسيطر على البلاد، لعدم وجود جيش نظامي قوى ومتماسك، الأمر الذي يُمكَّن فرع التنظيم في هذه الدولة من السيطرة على منطقة محددة بشكل كامل، بما يسمح له بأن يقيم عليها المقر الجديد لخلافته المزعومة.
وفي هذا الصدد، ذكر موقع "دويتشه فيله" الألماني، في تقرير له في يونيو 2016، أن هناك عناصر من "داعش" بدأت تتوجه إلى ليبيا أو أفغانستان أو غيرها من الدول غير المستقرة أمنياً.
2- الوجود القوي لتنظيم "داعش": لا يمكن للتنظيم أن يختار منطقة تكون معقل جديد لخلافته المزعومة، من دون أن يكون له وجود قوي ونفوذ واضح فيها، متمثلاً في السيطرة على رقعة من الأرض، ووجود أعداد جيدة من المقاتلين، وحيوية عملياتية وموارد تسليحية، تكون بمنزلة ردع للقوى المنافسة والمعادية على الأرض، وذلك من خلال القدرة على القيام بعمليات قوية، تُمكن "داعش" من إرهاب مؤسسات الدولة الموجودة بها، بما فيها المؤسسة العسكرية.
3- التضاريس الجغرافية الصعبة: غالباً سيحرص تنظيم "داعش" على أن تتمتع المنطقة الجديدة التي سيقع عليها الاختيار كمقر لخلافته المزعومة، بتضاريس جغرافية صعبة، حتى لا يمكن السيطرة عليها بسهولة، مما يسهل الاحتماء بها، من أجل تجنب الضربات المتوقعة، كما يمكن الاستفادة منها في التدريب وإقامة المعسكرات.
4- البيئة المجتمعية الحاضنة: تفضل التنظيمات الإرهابية، خاصةً "داعش"، الوجود في المناطق التي تعد تربة خصبة للأفكار المتطرفة، سواءً بسبب تجّذر هذه الأفكار، أو الموروثات الفكرية والفقهية المتشددة بين سكان هذه المناطق، والتي يمكن التحول منها إلى الفكر "الداعشي" بسهولة.
وبالتالي، فإن تنظيم "داعش" يحتاج إلى بيئة لديها القدرة على التعايش مع هذا الفكر، أو على الأقل عدم رفضه، وذلك من أجل ضمان الحصول على مقاتلين جدد.
5- تصاعد الصراع الطائفي: تعتمد التنظيمات الإرهابية عامة و"داعش" خاصة، بشكل كبير في التجنيد والحشد على الصراعات الطائفية، لأنها قضية تحظى بصدى كبير لدى المتطرفين حول العالم، كما أنها غير مقيدة بفكر معين. وبالتالي فهي تتمتع بقدر كبير من الجاذبية، لاسيما أن هذه التنظيمات تطرح نفسها في مثل هذه الصراعات على أنها المدافع عن أهل السنة ضد ما يُسمى العدوان الطائفي، وهذا يعد من أهم الأسباب التي ساعدت "داعش" على الوجود والتمدد في العراق وسوريا.
لذا فإن "داعش" سيسعى غالباً إلى اختيار إحدى الدول التي تعاني صراعات طائفية واضحة، حتى تكون مقراً جديداً لخلافته المزعومة، لأن ذلك يمنحه سبباً للبقاء والقتال والتجنيد، بل واستقدام مقاتلين من الخارج، تحت شعار "الجهاد من أجل الدفاع عن العقيدة وأهل السنة".
6- إمكانية انتقال المقاتلين: على الرغم من الضربات المتتالية التي تلقاها تنظيم "داعش" من قِبل العديد من القوى الدولية والإقليمية، إلا أن وجود العديد من المقاتلين الأجانب بين صفوف التنظيم يعد من أهم العوامل التي ساهمت في بقائه حتى الآن.
وطبقاً لتقرير "مجموعة سوفان" الصادر في مارس 2016، بلغ عدد المقاتلين الأجانب الذين سافروا إلى العراق وسوريا، من أجل الالتحاق بتنظيم "داعش" أو غيره من التنظيمات الإرهابية، ما بين 27 ألفاً و31 ألف شخص، ينتمون إلى حوالي 86 دولة حول العالم. ويتمتع هؤلاء المقاتلون بسمات خاصة، مثل الالتزام الفكري والتنظيمي القوي، والقدرة على القيام بعمليات غير تقليدية مثل العمليات الانتحارية والانغماسية.
وبالتالي، فإن قادة "داعش" سيحرصون على أن يسهل المقر الجديد انتقال المقاتلين الأجانب إليه، سواء من المقيمين في العراق وسوريا أو المتطوعين الجدد، لاسيما أن التنظيم سيكون في أمس الحاجة إليهم من أجل تثبيت أركانه في المقر الجديد.
ختاماً، ثمة صعوبة في أن تتوافر كل الشروط السابقة في منطقة واحدة ليتخذها "داعش" مقراً له، مما سيجعله يضطر إلى اختيار مكان يمكن أن تتوافر فيه معظم هذه الشروط، وذلك من خلال المفاضلة فيما بينها، بناءً على أولوية قادته ومدى التوافق بينهم خلال الفترة القادمة.