اتجهت بعض دول الشرق الأوسط، خلال الآونة الأخيرة، إلى استخدام آليات جديدة لممارسة ضغوط اقتصادية على قوى دولية معنية بأزمات المنطقة، حيث أعلنت إيران، في 26 مارس 2017، عن فرض عقوبات اقتصادية على 15 شركة أمريكية، في حين لوحت دول أخرى، مثل تركيا، بفرض عقوبات على بعض شركائها الاقتصاديين الرئيسيين، وخاصة بعض دول الاتحاد الأوروبي.
وفي الواقع، فإن لجوء هذه الدول إلى استخدام تلك الآليات يعود إلى تصاعد حدة التوتر في علاقاتها مع بعض القوى الدولية بسبب التباين في التعامل مع عدد من الملفات التي تحظى باهتمام مشترك. ولكن بالنظر لجدوى هذه الآليات، يمكن القول إن فرض عقوبات اقتصادية أو التلميح بفرضها لا يبدو مؤثرًا بالدرجة الكافية على الأطراف الأخرى.
فبالنسبة للحالة الإيرانية، لن تفرض العقوبات الأخيرة على الشركات الأمريكية أية ضغوط على إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب التي تتهم إيران بدعم الإرهاب وانتهاك حقوق الإنسان وتبدي تحفظات عديدة تجاه الاتفاق النووي الذي توصلت إليه إيران مع مجموعة "5+1" في يوليو 2015.
في حين أن تركيا، على ما يبدو، ليست على استعداد كامل لتجميد علاقاتها الاقتصادية مع أيٍّ من شركائها الاقتصاديين تفاديًا لخسائر كبيرة قد يتعرض لها اقتصادها إذا ما حدث ذلك.
ومع ضعف تأثير هذه الضغوط الاقتصادية، يمكن القول إن ثمة أهدافًا أخرى تسعى هذه الدول إلى تحقيقها من خلال توظيف هذه الآليات، ويتمثل أبرزها في توجيه رسائل بأن بإمكانها تبني مواقف أكثر تشددًا حيال الملفات الخلافية العالقة مع تلك الأطراف.
أدوات مختلفة:
على مدار الأشهر الماضية، سعت بعض دول الشرق الأوسط إلى استخدام آليات اقتصادية مختلفة بهدف فرض ضغوط على أطراف دولية أو إقليمية أخرى تباينت سياستها معها حول بعض القضايا. ففي إطار تصاعد حدة التوتر بين تركيا وعدد من شركائها الأوروبيين، ألمح نائب رئيس الحكومة التركية نعمان قورتولموش، في 14 مارس 2017، إلى إمكانية قيام بلاده بفرض عقوبات اقتصادية على هولندا.
وقبل ذلك، اتخذت أنقرة بعض الإجراءات الأخرى، على غرار تعليق العلاقات الرفيعة مع هولندا، وعدم الموافقة على عودة السفير الهولندي إلى الأراضي التركية وغيرها.
وتكشف حالات إقليمية أخرى عن الاستخدام الفعلي لأدوات اقتصادية من أجل ممارسة ضغوط سياسية. ففي هذا السياق، فرضت إيران، في 26 مارس 2017، عقوبات على 15 شركة أمريكية معظمها شركات لتصنيع الأسلحة بسبب اتهامها بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان والتعاون مع إسرائيل. وبحسب وزارة الخارجية الإيرانية، ستشمل العقوبات حظر تأسيس أي علاقة مع هذه الشركات والمؤسسات، بالإضافة إلى تجميد أموالها داخل إيران، ومنع إصدار تصاريح دخول إلى إيران لأشخاص يتولون مناصب أو مسئوليات في هذه المؤسسات أو لهم صلات معها.
وفي حالة مماثلة أخرى، قررت حكومة شرق ليبيا بطبرق، في فبراير 2015، إعادة النظر في جميع التعاقدات مع الشركات الأجنبية في جميع المجالات، واستبعاد الشركات التركية من العمل في ليبيا، وهو ما كان يمثل تهديدًا كبيرًا للاستثمارات التركية في ليبيا التي قاربت 15 مليار دولار قبل الثورة الليبية.
كذلك، أقرت إسرائيل، في شهري يناير ومارس 2017، سحب تمويلات بما مجموعه 8 ملايين دولار كانت ستُقدم للأمم المتحدة والهيئات التابعة لها، وذلك احتجاجًا على قرار مجلس الأمن الذي صدر في 27 ديسمبر 2016 وطالب بوقف بناء المستوطنات الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية المحتلة.
أهداف متعددة:
تسعى الدول التي تستخدم هذه الآليات السابقة إلى تحقيق أهداف رئيسية عديدة، يتمثل أبرزها في تأكيد مبدأ المعاملة بالمثل، وهو ما يبدو جليًا في حالة إيران، حيث كانت العقوبات الأخيرة التي فرضتها على بعض الشركات الأمريكية بمثابة رد على العقوبات الأمريكية التي فرضت على 25 شخصًا وكيانًا في إيران في فبراير 2017، بعد إجراء إيران تجربة لإطلاق صاروخ باليستي.
كما أن تلك الدول تحاول من خلال ذلك ممارسة مزيد من الضغوط السياسية على بعض الأطراف الأخرى، بسبب الخلافات التي نشبت معها حول بعض الملفات، وهو ما يبدو أن تركيا تسعى إلى تحقيقه من خلال إجراءاتها الأخيرة تجاه هولندا، التي كانت قد اتخذت خطوات عديدة لمنع بعض المسئولين الأتراك من التواصل مع الجالية التركية قبيل إجراء الاستفتاء على التعديلات الدستورية في 16 أبريل الحالي.
حدود التأثير:
لكن قدرة تلك الخطوات على تحقيق نتائج بارزة على الأرض تبدو ضعيفة. ففي حالة إيران، ربما لا يكون لفرض عقوبات اقتصادية على بعض الشركات الأمريكية أى تأثير يذكر على الجانب الأمريكي، نظرًا للوضع الحالي في العلاقات بين الطرفين، لا سيما على المستوى الاقتصادي، والذي لم يتحسن حتى بعد الوصول للاتفاق النووي ورفع العقوبات الدولية المفروضة على إيران.
وفي السياق ذاته، فإن إقدام تركيا على اتخاذ إجراءات فعلية لتفعيل عقوباتها ضد بعض الدول الأوروبية يبدو مستبعدًا في ظل إدراكها أن ذلك قد يفرض تداعيات سلبية قوية على مصالحها الاقتصادية.
إذ أن الاتحاد الأوروبي شريك اقتصادي رئيسي لتركيا، كما أن هولندا لديها استثمارات في تركيا تصل إلى نحو 22 مليار دولار حسب بعض التقديرات، وهو ما يجعلها أكبر مصدر للاستثمار الأجنبي بحصة 16%. فضلا عن أن حجم التبادل التجاري بين الطرفين وصل إلى 6.6 مليارات دولار في عام 2016، فيما وصل عدد السائحين الهولنديين بتركيا إلى نحو 900 ألف هولندي في العام الماضي.
وفي مقابل ذلك، لا يبدو أن الدول الأوروبية سوف تتجه نحو تصعيد حدة التوتر في علاقاتها مع تركيا خلال الفترة القادمة، ليس فقط لأن ذلك قد ينتج تداعيات اقتصادية على المدى القصير، ولكن أيضًا لأن ذك قد يرافقه تهديد آخر أكثر خطورة في حالة تجميد التعاون في ملفات أخرى، مثل المهاجرين ومكافحة الإرهاب، لا سيما بعد أن هدد بعض المسئولين الأتراك، في أكثر من مناسبة، بإلغاء اتفاق اللاجئين الذي توصلت إليه تركيا مع الاتحاد الأوروبي في مارس 2016.
وختامًا، يمكن القول إن اتجاه بعض دول المنطقة نحو فرض عقوبات اقتصادية على بعض القوى الدولية ربما يتزايد خلال المرحلة القادمة في ظل اتساع نطاق الخلافات بين تلك الأطراف. وبرغم رمزيتها وعدم جدواها في الفترة الحالية، إلا أن استمرار تصاعد حدة التوتر ربما يفرض التوسع في استخدام أدوات اقتصادية أكثر قوة وقدرة على التنفيذ خلال الفترة المقبلة.