فرضت إيران، في 26 مارس 2017، عقوبات على 15 شركة أمريكية، وجهت إليها اتهامات عديدة بـ"انتهاك حقوق الإنسان الدولية، ودعم الإرهاب، والتورط في الجرائم التي ترتكبها إسرائيل، والمشاركة في قمع الشعوب"، كما هددت بوضع الجيش الأمريكي ووكالة الاستخبارات (CIA) على لائحة الإرهاب بعد طرح مشروع قرار في مجلس الشورى الإسلامي بهذا الخصوص.
وفي الواقع، فإن تلك الخطوة تبقى رمزية إلى حد كبير، باعتبار أن تأثيراتها المحتملة على الأرض ضعيفة، في ضوء عدم وجود تعاملات مالية واقتصادية يعتد بها بين الشركات والمصارف الأمريكية ونظيراتها الإيرانية رغم رفع العقوبات الدولية المفروضة على إيران منذ 17 يناير 2016، وذلك لأسباب عديدة ترتبط باحتمال تعرض تلك الشركات لعقوبات في حالة انخراطها في تعاملات مع جهات إيرانية متورطة في دعم الإرهاب أو برنامج الصواريخ الباليستية أو تابعة للحرس الثوري، فضلا عن عدم السماح لإيران بالدخول إلى النظام المالي الأمريكي، بشكل فرض قيودًا شديدة على رفع مستوى التعاملات التجارية بين الطرفين.
وحتى عندما أبرمت شركة "بوينج" الأمريكية اتفاقًا مع إيران، في 11 ديسمبر 2016، لبيع 80 طائرة مدنية للأخيرة بقيمة 16.6 مليار دولار، لم تستطع تنفيذ الاتفاق إلا بعد الحصول على إذن من وزارة الخزانة الأمريكية، حيث واجهت اعتراضات عديدة من جانب الكونجرس الأمريكي، بل إن اتجاهات عديدة تُرجِّح إمكانية اتجاه إدارة ترامب نحو منع تنفيذ الصفقة، في إطار تصعيدها المستمر مع إيران.
لكن رغم ذلك، فإن تلك الخطوة تطرح دلالات مهمة ترتبط بالخيارات المتاحة أمام إيران للتعامل مع التصعيد المتوقع من جانب إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال المرحلة المقبلة، والتداعيات التي يمكن أن تفرضها تلك الإجراءات على جهود حكومة الرئيس حسن روحاني للحصول على عوائد الاتفاق النووي الذي توصلت إليه إيران ومجموعة "5+1" في 14 يوليو 2015، وتعمد إيران الربط بين التصعيد مع الإدارة الأمريكية والملفات الإقليمية الشائكة، على غرار إلقاء الضوء على الدعم الأمريكي لإسرائيل، واتهام الولايات المتحدة الأمريكية بـ"دعم الإرهاب وقمع الشعوب"، وهي إشارة لا تخلو من مغزى سياسي وتتعلق بمحاولات إيران توجيه اهتمام واشنطن إلى أدوارها ونفوذها في مناطق الأزمات، على غرار العراق وسوريا واليمن وغيرها.
دلالات عديدة:
اعتبرت وزارة الخارجية الإيرانية أن فرض عقوبات مقابلة على بعض الشركات الأمريكية يأتي في إطار مبدأ المعاملة بالمثل، وذلك ردًّا على العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية، في 3 فبراير 2017، على 25 شخصًا وشركة بتهمة دعم برنامج الصواريخ الباليستية الإيرانية.
لكن اللافت في هذا السياق، هو أن الأسباب التي استندت إليها إيران في تبرير فرض تلك العقوبات كانت فضفاضة وعامة إلى حد كبير، ولم ترتبط بإيران مباشرة ولا بتصعيدها الحالي مع الإدارة الأمريكية، بل يمكن القول إنها ليست جديدة، باعتبار أن إيران كانت حريصة على توجيه هذه الاتهامات نفسها ضد الولايات المتحدة الأمريكية منذ اندلاع الثورة عام 1979. إذ إن قمع الشعوب، ودعم الإرهاب، وانتهاك حقوق الإنسان الدولية؛ كانت دائمًا عناوين رئيسية في الانتقادات التي توجهها إيران للإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ أكثر من ثلاثة عقود.
ومع ذلك، فإن الإشارة إلى تلك الأسباب تحديدًا لا تخلو من مغزى واضح، يرتبط بمحاولات إيران التلويح بنفوذها في مناطق الأزمات التي باتت تحظى باهتمام خاص من جانب إدارة ترامب، كورقة ضغط في التعامل مع الإجراءات التصعيدية التي تتخذها الأخيرة، على غرار رفع سقف العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران، وتوجيه مزيدٍ من الاتهامات لها بدعم الإرهاب وزعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط.
وهنا، كان لافتًا أن اتهام طهران لواشنطن بـ"قمع الشعوب" تزامن مع دعوتها إلى إحالة ما أسمته "مجازر قوات التحالف الأمريكي" إلى محاكمة عادلة، بعد الغارة التي شنتها طائرة أمريكية في غرب الموصل، في 25 مارس 2017، وأسفرت عن مقتل وإصابة أعداد كبيرة من المدنيين.
محدودية الخيارات:
فضلا عن ذلك، تعكس تلك الخطوة محدودية الخيارات المتاحة أمام إيران للتعامل مع السياسة التصعيدية التي تتبناها إدارة ترامب. إذ إن إيران لن تخاطر، على الأرجح، برفع مستوى التوتر مع واشنطن إلى درجة غير مسبوقة، بشكل قد يهدد استمرار العمل بالاتفاق النووي، أو بإعادة التلويح بالخيار العسكري من جانب واشنطن، أو الدخول في مواجهات مباشرة وغير مباشرة في مناطق الأزمات، مثل سوريا والعراق واليمن.
وهنا، فإن تلك الخطوة الأخيرة التي اتخذتها إيران ربما جاءت كمحاولة لإضفاء وجاهة على التحذيرات الإيرانية السابقة بإمكانية تبني إجراءات مماثلة للرد على الإجراءات التي تتخذها الإدارة الأمريكية دون أن يكون لها مردود قوي على الأرض، بما يعني أنها قد تكون اتُّخذت لاستيعاب ردود الفعل الداخلية التي تطالب باتخاذ مواقف أكثر شدة ضد الإدارة الأمريكية.
كذلك، فإن أكثر الأطراف التي يمكن أن تتأثر سلبيًّا بمثل هذه النوعية من العقوبات هي إيران نفسها، باعتبار أن هذه الخطوة تتعارض مع الجهود التي كانت تبذلها حكومة الرئيس حسن روحاني من أجل تعزيز قدرتها على الحصول على العوائد الاقتصادية للاتفاق النووي، والتي دفعتها إلى الدخول في خلافات حادة مع بعض المؤسسات النافذة في الدولة بسبب دعوتها إلى ضرورة السماح للشركات الأمريكية بالاستثمار في إيران، بل إن الرئيس حسن روحاني نفسه سبق أن أبدى خلال مشاركته في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، في 22 سبتمبر 2016، ترحيبه بدخول الشركات الأمريكية للسوق الإيرانية، باعتبار أن الاتفاق النووي أزال كل العوائق التي كانت تحول دون ذلك، وهو ما لم يحظ بقبول بعض المسئولين الآخرين، على غرار المرشد الأعلى علي خامنئي.
وهنا، فإن الاتهامات التي كانت إيران توجهها للولايات المتحدة الأمريكية بوضع عقبات أمام حصولها على عوائد الاتفاق النووي سوف تواجه إشكاليات قوية خلال المرحلة القادمة، باعتبار أن إيران نفسها باتت مسئولة عن وضع مزيد من تلك العقبات بعد الخطوة الأخيرة التي اتخذتها ردًّا على العقوبات الأمريكية.
تراجع روحاني:
واللافت أيضًا في هذا السياق، أن ثمة تراجعًا ملحوظًا في موقف الحكومة الإيرانية، سواء تجاه الاتفاق النووي أو إزاء التصعيد مع الإدارة الأمريكية، وذلك باتجاه التماهي مع السياسة العليا للنظام التي يضعها المرشد علي خامنئي. فقد حرصت اتجاهات داخل إيران على تأكيد أن قرار فرض عقوبات على بعض الشركات الأمريكية اتُّخذ من قبل المجلس الأعلى للأمن القومي الذي يرأسه روحاني، بما يعني أنه حظي بموافقة المؤسسات الرئيسية في الدولة، بما فيها رئاسة الجمهورية.
لكن الأهم من ذلك، هو تعمد الحكومة خلال الفترة الأخيرة توجيه رسائل للداخل بأنها لم تعد مسئولة عن العقبات التي تحول دون الحصول على العوائد الاقتصادية للاتفاق النووي، باعتبار أن مهمتها الرئيسية كانت تتركز على الوصول للاتفاق مع مجموعة "5+1"، وأن الحصول على تلك العوائد يقع على عاتق مؤسسات أخرى في الدولة، وهو ما يشير إلى رغبة الحكومة في تقليص حدة الضغوط التي تتعرض لها بسبب عدم نجاحها في رفع مستوى التعاملات المصرفية والاقتصادية مع بعض القوى الدولية، في ظل العقبات التي ما زالت تحول دون تحقيق ذلك.
ففي هذا السياق، قال نائب وزير الخارجية الإيراني عضو وفد التفاوض في المفاوضات النووية عباس عراقجي، في 9 مارس 2017، إن الاتفاق النووي تحقق ورُفعت العقوبات الدولية التي كانت مفروضة على إيران، وما تبقى يعود إلى محاولات وأنشطة الأجهزة الاقتصادية والجهات المختصة.
وبالطبع، فإن تغير مواقف الحكومة لا ينفصل عن اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية في 19 مايو 2017، إلا أن ذلك في مجمله لا ينفي -في الوقت ذاته- أنه يمثل مؤشرًا لحالة الارتباك الملحوظة التي ما زالت تتسم بها ردود الفعل الإيرانية تجاه السياسة التصعيدية التي تتبناها إدارة ترامب، والتي يبدو أنها سوف تستمر خلال الفترة المقبلة.