أخبار المركز
  • د. أمل عبدالله الهدابي تكتب: (اليوم الوطني الـ53 للإمارات.. الانطلاق للمستقبل بقوة الاتحاد)
  • معالي نبيل فهمي يكتب: (التحرك العربي ضد الفوضى في المنطقة.. ما العمل؟)
  • هالة الحفناوي تكتب: (ما مستقبل البشر في عالم ما بعد الإنسانية؟)
  • مركز المستقبل يصدر ثلاث دراسات حول مستقبل الإعلام في عصر الذكاء الاصطناعي
  • حلقة نقاشية لمركز المستقبل عن (اقتصاد العملات الإلكترونية)

مأزق "YOLO":

المخاطر الاقتصادية للتراجع السكاني في كوريا الجنوبية

20 سبتمبر، 2024


شهدت السنوات الأخيرة بروز ظاهرة اجتماعية جديدة على المجتمع الكوري الجنوبي تُدعى (YOLO) أو "You Only Live Once" والتي تعني "أنت تعيش مرة واحدة"، وتُعبر الظاهرة عن إعطاء الجيل الأصغر سناً، وبالأخص شباب العشرينيات والثلاثينيات، الأولوية للإنفاق الاستهلاكي على وسائل الترفيه والاستمتاع الآنية المتعلقة بممارسة الهوايات والسفر وتناول الطعام بالخارج عن الاستثمار الآجل في الزواج والإنجاب وتكوين الأسرة. وهذا ما أنتج تبعات ديمغرافية ستُوجد بلا شك تحديات اقتصادية، بدأت ملامحها تتجلى شيئاً فشيئاً ويُتوقع أن تتفاقم خلال المرحلة المقبلة؛ الأمر الذي دفع الحكومة الكورية الجنوبية إلى تبني سياسات تهدف لمعالجة هذه الأزمة واحتواء آثارها. وعليه، يسلط هذا التحليل الضوء على ظاهرة (YOLO) في كوريا الجنوبية، من خلال استعراض ملامحها، وأسبابها، وتداعياتها.

أزمة ديمغرافية:

شهدت كوريا الجنوبية تحولاً ديمغرافياً سريعاً بعد انتهاء الحرب الكورية خلال خمسينيات القرن الماضي؛ بسبب تسريع وتيرة التنمية الاقتصادية وانتقالها من دائرة الدول منخفضة الدخل إلى نظيرتها مرتفعة الدخل، واتباع سياسات مشددة لتنظيم الأسرة، مع تغيير نمط استهلاك المجتمع الكوري؛ مما أنتج المظاهر الآتية:

1- تدني معدل الخصوبة: تُعد كوريا الجنوبية الدولة الوحيدة في العالم التي تسجل معدل خصوبة أدنى من طفل لكل امرأة؛ لتسجل بذلك أسرع وتيرة انخفاض في معدل الخصوبة على مدار الستة عقود الماضية؛ مما أوقعها في "فخ الخصوبة المنخفض" الذي يعني صعوبة أو استحالة زيادة معدل الخصوبة بمجرد انخفاضه إلى مستوى يتراوح بين ما دون 1.4 إلى 1.5 طفل لكل امرأة. ويُبين الشكل الآتي تطور معدل الخصوبة في كوريا الجنوبية منذ عام 2010:


ويُبين الشكل أعلاه أن معدل الخصوبة في كوريا الجنوبية سجل انخفاضاً سنوياً متتالياً منذ عام 2015 وحتى عام 2023، والذي شهد المستوى الأدنى على الإطلاق عند 0.72 طفل لكل امرأة، وهو مستوى أقل من المتوسط العالمي المطلوب للحفاظ على استقرار السكان دون احتساب الهجرة عند 2.1 طفل لكل امرأة، وارتكز الانخفاض في العاصمة سيول التي سجلت أدنى معدل خصوبة في البلاد عند 0.55 طفل لكل امرأة. فيما تشير التوقعات إلى احتمالية انخفاض هذا المعدل إلى مستوى قياسي جديد عند 0.68 طفل لكل امرأة بحلول نهاية عام 2024. علاوة على ذلك، يُعد هذا المعدل دون المستوى المُسجل في الاقتصادات المُناظرة للاقتصاد الكوري، مثل: الصين التي سجلت 1.175 طفل لكل امرأة، واليابان 1.26 طفل لكل امرأة، والولايات المتحدة 1.665 طفل لكل امرأة.

2- تأخر سن الزواج: انخفض عدد الزيجات المُسجلة في كوريا الجنوبية بنسبة 40.6% منذ عام 2010 حتى عام 2023، مسجلاً 193700 زيجة؛ إذ يتركز في الفئة العمرية بين 30 إلى 34 عاماً مقارنةً بالفئات العمرية الأصغر سناً. فيما ارتفعت حالات الطلاق إلى 92400 حالة، كما يُبين الشكل أدناه:


وبالمقارنة مع العقد الزمني الماضي، فقد ارتفع متوسط العمر عند الزواج لدى الذكور والإناث في كوريا الجنوبية بنحو 1.8 عام و1.9 عام على التوالي؛ ليبلغ 34 عاماً للذكور، و31.5 عام للإناث. ووفقاً لذلك، ارتفع متوسط العمر الذي تلد فيه النساء طفلها الأول إلى 33.5 عام.


3- شيخوخة سكانية: تُمثل نسبة الشيخوخة (عدد السكان من 65 عاماً أو أكثر) نحو 18.4% من إجمالي عدد السكان في كوريا الجنوبية عام 2023، مع توقعات بارتفاعها إلى 30.1% بحلول عام 2035، و46.6% بحلول عام 2070؛ لتصبح بذلك كوريا الجنوبية مجتمعاً متقدماً في العمر، كما يُبين الشكل التالي:

ويتزامن ذلك مع انخفاض عدد المواليد الأحياء إلى 230 ألفاً عام 2023، بانخفاض سنوي يبلغ 7.7%. فيما سجل عدد الوفيات نحو 352700 حالة وفاة؛ ليتجاوز بذلك عدد الوفيات نظيره من الأحياء. وبهذا، فقد بلغ عدد سكان كوريا الجنوبية نحو 51.7 مليون نسمة في 2023، مرتفعاً بنسبة 0.2% على أساس سنوي، وذلك على الرغم من استمرار أزمة انخفاض معدلات المواليد وتسارع الشيخوخة. وجاء هذا النمو مدفوعاً بارتفاع عدد المقيمين الأجانب بنحو 183 ألف شخص ليسجل 1.94 مليون شخص، مقابل انخفاض عدد المواطنين الكوريين الجنوبيين بنحو 101 ألف شخص عند 49.84 مليون نسمة.


ويُبين الشكل أعلاه أن عدد السكان انكمش لأول مرة على الإطلاق عام 2021. وبهذه الوتيرة من المُتوقع أن ينخفض عدد سكان كوريا الجنوبية إلى النصف تقريباً؛ ليصل إلى 24 مليوناً فقط بحلول عام 2100، وذلك وفقاً لـ"معهد القياسات الصحية والتقييم" بواشنطن.

4- تراجع معدل الادخار: شهد معدل الادخار للشباب الكوري الجنوبي في سن الثلاثين انخفاضاً إلى 28.5% خلال الربع الأول من عام 2024، مقابل زيادته لجميع الفئات العمرية الأخرى خلال الفترة ذاتها. وفي المقابل، تُعد هذه الفئة العمرية هي الأكبر من بين المنفقين على المتاجر والفنادق الفاخرة، مع ارتفاع معدل الإنفاق على السفر من أجل الترفيه إلى 40.1% خلال الثلاثة أعوام الماضية. كما قفزت إيرادات المطاعم الفاخرة بنسبة 30.3% خلال عام 2023، مقابل زيادة قدرها 10.5% في مطاعم الوجبات السريعة.

وبهذا، احتل الاقتصاد الكوري الجنوبي المركز الأول في معدل الإنفاق الشخصي على السلع الفاخرة وباهظة الثمن، والذي نما بنسبة 24% عام 2022 ليصل إلى 16.8 مليار دولار، أو نحو 325 دولاراً للفرد مقارنةً بنحو 55 دولاراً للمواطن الصيني، و280 دولاراً للمواطن الأمريكي. كما يقع ما يقرب من نصف مستهلكي العلامات التجارية الفاخرة في كوريا الجنوبية في جيل العشرينيات والثلاثينيات، وفقاً لبيانات صادرة عن بنك "مورغان ستانلي".

عوامل مُفسرة:

يُمكن تفسير ظاهرة (YOLO) التي يتبناها الجيل الأصغر سناً في كوريا الجنوبية، وما صاحبها من تراجع في معدل المواليد وانخفاض في معدل الخصوبة، بالعوامل الآتية:

1- ارتفاع تكلفة المعيشة: يُسجل الاقتصاد الكوري زيادة في تكلفة الخدمات الأساسية كالتعليم والإسكان والغذاء؛ إذ تتجاوز تكلفة المعيشة في البلاد متوسط منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بنحو 55%، وفقاً لتقرير صادر عن البنك المركزي الكوري في يونيو 2024، والذي أظهر ارتفاع أسعار الغذاء، والملابس والأحذية بنسب تبلغ 55% و61% على الترتيب مقارنةً بالمتوسط المُسجل في هذه المنظمة الدولية. ومن ناحية أخرى، ارتفعت الدخول السنوية في كوريا الجنوبية بنسبة 2% فقط للفئة العمرية من العشرينيات إلى الثلاثينيات عام 2023، مقابل زيادة قدرها 4.5% للفئات الأكبر سناً؛ ولهذا أصبحت السلع الاستهلاكية الأساسية عبئاً شديداً على المواطنين الكوريين؛ مما دفع المزيد من الشباب إلى العزوف عن الزواج وتكوين أسرة. 

2- تراجع الأمان الوظيفي للمرأة الكورية: تُعاني المرأة العاملة في كوريا الجنوبية من صعوبات بالغة فيما يتعلق بالعودة إلى العمل عقب انتهاء إجازة رعاية الطفل، كما تمتلك البلاد أعلى حصة من النساء العاملات في وظائف مؤقتة بين دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. كذلك تُمثل كوريا الجنوبية أكبر فجوة في الأجور بين الجنسين بين الدول الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بنسبة تبلغ 31.2% عام 2022؛ ليصبح بذلك العام السابع والعشرين على التوالي الذي سجل رابع أكبر اقتصاد آسيوي أسوأ فجوة أجور بين الجنسين ضمن الدول الأعضاء.

3- ارتفاع أسعار الإسكان: تشهد سوق الإسكان الكورية الجنوبية ارتفاعاً في أسعار المنازل خاصةً في العاصمة سيول؛ بسبب ارتفاع الطلب على المنازل مقابل العرض المحدود. ففي يوليو 2024، ارتفعت أسعار المساكن بنسبة 0.15% على أساس شهري، مقارنةً بنحو 0.04% سجلتها في يونيو من نفس العام، فيما قفزت الأسعار في سيول بنسبة 0.76%. وبناءً على ذلك، كشفت الحكومة الكورية في وقت سابق من العام الحالي عن تدابير لتعزيز العرض في سوق العقارات؛ تستهدف بناء أكثر من 400 ألف منزل جديد في السنوات الست المقبلة للحد من الارتفاعات الحادة في الأسعار.

انعكاسات اقتصادية:

تُصاحب الأزمات الديمغرافية، عادةً، تداعيات اقتصادية تصل أصداؤها إلى سوق العمل، ومعدلات النمو الاقتصادي، والتأثير في سياسات الهجرة، كما يتضح فيما يلي:

1- انخفاض القوة العاملة: من شأن الشيخوخة السكانية وتغير الهيكل السكاني أن يؤثر في هيكل القوة العاملة بكوريا الجنوبية؛ إذ ارتفع عدد العاملين الذين تبلغ أعمارهم 60 عاماً أو أكثر بشكل ملحوظ في مقابل انخفاض عدد الشباب العاملين الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و29 عاماً.


وفي هذا الشأن، تشير توقعات هيئة الإحصاء الكورية الجنوبية إلى انخفاض نسبة السكان في الفئة العمرية (15-24 عاماً) من 10.4% عام 2022 إلى 5.7% بحلول عام 2050، وكذلك نسبة السكان في الفئة العمرية (25-49 عاماً) من 36% عام 2022 إلى 24% بحلول 2050. وسيؤثر تغيير هيكل العمالة وتراجع المعروض من العمالة في النشاط الاقتصادي بشكل عام، وتباطؤ التوظيف في الصناعات التي تحتاج إلى العمالة من الشباب بشكل أكبر من العمال كبار السن؛ وهو ما سيتسبب في حدوث اختناقات في سوق العمل، وتباطؤ النمو الاقتصادي الذي سيتأثر إلى جانب ذلك بتباطؤ الإنفاق الاستهلاكي مع انخفاض أعداد المستهلكين من الشباب.

2- تزايد الأعباء المالية: تفرض معدلات الخصوبة المنخفضة، وارتفاع أعداد كبار السن، أعباءً مالية متزايدة على الموازنة العامة الكورية الجنوبية، بضغط من تزايد المعاشات التقاعدية، والإنفاق على الخدمات الطبية والرعاية الصحية والذي استحوذ على نسبة 9.7% من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2022 مقارنةً مع 5.8% عام 2010، إلى جانب زيادة الإنفاق على تحويلات الدخل لكبار السن. من ناحية أخرى، من المُرجح أن يتم جمع ضرائب أقل بسبب انخفاض عدد الشباب. وقد تركز عدد المستفيدين من الرعاية الصحية في الفئات العمرية الأكبر سناً حتى عام 2022؛ إذ بلغ العدد نحو 3.620 مليون فرد في الفئة العمرية (25-29 عاماً) مقارنةً مع 4.555 مليون فرد في الفئة العمرية (50-54 عاماً)، و4.158 مليون فرد في الفئة العمرية (60-64 عاماً).

3- ارتفاع عدد العمال الأجانب: تستقبل كوريا الجنوبية المزيد من العمال الأجانب عاماً بعد الآخر؛ من أجل تعويض معدل الخصوبة المتدني وتراجع أعداد السكان؛ إذ خففت الحكومة القيود المفروضة على العمالة المهاجرة، وسهلت إجراءات توظيف مربيات أجانب، وتخطط لاستقبال حوالي 1200 مربية أطفال أجنبية بحلول النصف الأول من عام 2025. وخلال عام 2023 وحده، هاجر حوالي 480 ألف أجنبي إلى كوريا الجنوبية بزيادة تبلغ 16.2% على أساس سنوي؛ ليرتكز غالبيتهم في الفئة العمرية 20-29 عاماً والذين هاجروا من أجل البحث عن عمل ووظيفة دائمة بشكل أساسي؛ إذ تساعد الحكومة الكورية الشركات العاملة بالقطاعات المختلفة على استقطاب العمالة الماهرة من خارج البلاد من أجل تعويض نقص العمالة المحلية.

ومن أجل مواجهة تلك الانعكاسات، تخطط الحكومة الكورية الجنوبية لإنشاء وزارة جديدة مخصصة لمواجهة التحديات الديمغرافية، وتقديم نحو 700 ألف وون كوري شهرياً للأسر التي لديها طفل يقل عمره عن عام واحد، كما ضخت أكثر من 200 مليار دولار لبرامج دعم الأمهات الجدد خلال السنوات الست عشرة الماضية، إلى جانب إطلاق حزمة من التدابير تتمثل في توفير مساكن بأسعار معقولة وفرص عمل أفضل للشباب، ورفع سقف أجر إجازة رعاية الأطفال للأشهر الثلاثة الأولى إلى 2.5 مليون وون؛ لينخفض هذا المبلغ إلى مليوني وون في الأشهر الثلاثة التالية، و1.6 مليون وون خلال الأشهر الستة التالية. عطفاً على زيادة إجازة الأبوة، والتخطيط لتوفير تعليم ورعاية مجانية للأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين ثلاث وخمس سنوات.

استخلاصاً لما سبق، لا تزال التحديات الناتجة عن التحولات الديمغرافية في المجتمع الكوري الجنوبي قائمة مع احتمالية تفاقمها خلال السنوات المقبلة؛ نتيجة لعدم رغبة الشباب الأصغر سناً في التخطيط للمستقبل وتكوين أسرة بسبب الصعوبات المالية وارتفاع تكلفة المعيشة وقسوة ظروف العمل؛ مما سيؤدي إلى تباطؤ النشاط الاقتصادي، وتأثر سوق العمل وتخفيف القيود على الهجرة في كوريا الجنوبية.