أخبار المركز
  • د. أمل عبدالله الهدابي تكتب: (اليوم الوطني الـ53 للإمارات.. الانطلاق للمستقبل بقوة الاتحاد)
  • معالي نبيل فهمي يكتب: (التحرك العربي ضد الفوضى في المنطقة.. ما العمل؟)
  • هالة الحفناوي تكتب: (ما مستقبل البشر في عالم ما بعد الإنسانية؟)
  • مركز المستقبل يصدر ثلاث دراسات حول مستقبل الإعلام في عصر الذكاء الاصطناعي
  • حلقة نقاشية لمركز المستقبل عن (اقتصاد العملات الإلكترونية)

"توظيفات الشتات":

فرص وتحديات موجات الهجرة الروسية إلى أوروبا

27 أغسطس، 2024


عرض: عبد المنعم علي

لم تكن روسيا تاريخياً مصدراً رئيسياً للهجرات البشرية؛ بل على العكس كانت مستقبلاً لموجات الهجرات الأوروبية على مدار القرن التاسع عشر، قبل أن يتبدّل الحال خلال القرن العشرين؛ لتشهد موجات نزوح متعددة بدأت منذ عام 1918 وصولاً إلى مرحلة الصراع الروسي الأوكراني. وعملت الدول الأوروبية على توظيف تلك الهجرات أو جماعات الشتات كورقة ضغط على الأنظمة السياسية في روسيا؛ بل والرهان عليها في المستقبل لتحويل الأخيرة إلى دولة ديمقراطية حليفة لأوروبا.

في هذا السياق، يتناول الكاتب ديمتري جودكوف وآخرون "التحدي والفرصة التي يواجهها المغتربون الروس الجدد في أوروبا"، في دراسة للمعهد الفرنسي للعلاقات الدولية، نشرت في يونيو 2024. وتركز الدراسة على الروس الموجودين حالياً في الدول الأوروبية؛ من حيث الفوائد التي حققتها تلك الفئات والفرص التي يتيحها التغيير في الموقف الأوروبي تجاه "الأوروبيين الروس". 

تطور الهجرة وأسبابها: 

تنظر الدراسة إلى روسيا كدولة أوروبية غير نمطية عززّت تمددها على مدى قرون ماضية، وتوسعت بنفس الطريقة التي توسعت بها الدول القومية في أوروبا الغربية، وتبنت في سبيل توسيع نفوذها عدة آليات منها، السيطرة على مناطق شاسعة وقليلة السكان مثلما حدث في سيبيريا عبر الاستعمار الاستيطاني؛ وكذلك بالاعتماد على تفوقها العسكري الذي وظّفته في سبيل فرض هيمنتها على أجزاء من الجنوب العالمي في القوقاز وآسيا الوسطى. مع ذلك، لم تسع روسيا إلى تقسيم ممتلكاتها إلى مدن ومستعمرات؛ بل تعاملت مع مسار توسع إمبراطوريتها على أنه استعمار داخلي.

لقد ظلت الإمبراطورية الروسية الدولة الوحيدة التي تستضيف تدفقات السكان من الدول الأوروبية الأخرى؛ منذ أن استقبلت الموجات الأولى من الهجرة الجماعية في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، وذلك عبر قيام ملايين الأشخاص من أصول أوروبية غربية بمغادرة أوطانهم (نحو 2.2 مليون شخص ينتمون إلى ألمانيا والنمسا والمجر) بالإضافة إلى فئات أخرى.

من زاوية أخرى؛ كانت هجرة المواطنين ذوي الأصل الروسي ظاهرة نادرة، في ضوء ما فرضته الإمبراطورية من عقوبات صارمة حيال ذلك الأمر، كالحرمان القسري من المواطنة حال قرر المواطن البقاء في الخارج لأكثر من خمس سنوات؛ لذا كانت روسيا بمثابة الدولة المضيفة للموجات المختلفة للهجرة من الدول الأوروبية على وجه الخصوص.

لم تبدأ الهجرة من روسيا إلا في أواخر العقد الأول وأوائل العشرينيات من القرن الماضي؛ إذ مرت بثلاث موجات بين عامي 1918 و1923، و1988 إلى 1998، ثم تلك التي بدأت في 2012 إلى 2014، وتعود تلك الموجات إلى عدة أسباب منها: العداء الطبقي الذي أعلنته الحكومة البلشفية في عام 1922، بينما كانت الموجة الثانية ناجمة عن العوامل الاقتصادية والاجتماعية، أما الثالثة فقد جاءت نتيجة الظروف الأيديولوجية والاقتصادية. وتمخضّ عن تلك السياسات الروسية أمران هما:

- الخسائر الديمغرافية: نتج عن الهجرات الروسية المتتالية خسائر ديمغرافية تتراوح بين 4 و11 مليون شخص، كما أدى سقوط الاتحاد السوفيتي مطلع التسعينيات إلى مزيد من موجات الهجرة ويقّدر عدد الأشخاص خارج الاتحاد الروسي بما يقرب من 37 مليون شخص، منهم ما لا يقل عن 4 ملايين يقيمون في الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي. 

- تنامي مشاعر الهجرة: أسهمت الموجات المتكررة للهجرة من روسيا إلى تطور المشاعر المؤيدة للهجرة بصورة عامة داخل المجتمع الروسي وبشكل خاص منذ عام 2012، إضافة إلى أن هناك مهاجرين روس قاموا بتأسيس جمعيات ومنظمات روسية مختلفة خارج روسيا من شأنها أن تُجسد نبتة يمكن أن تحول روسيا إلى دولة ديمقراطية غربية بعد انتهاء حكم بوتين، خاصةً أن المهاجرين الذين تركوا روسيا عقب الحرب في أوكرانيا في فبراير 2022 باتوا بمثابة "مقاتلين ضد النظام".  

خصائص المهاجرين وتوجهاتهم:

تزامن العدد الأكبر من عمليات المغادرة من روسيا، مع المرحلة الأولى من الغزو العسكري الروسي لأوكرانيا، بداية من فبراير حتى نوفمبر عام 2022، لكن في حقيقة الأمر؛ فإن تنامي موجات الهجرة جاء عقب عودة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للسلطة في عام 2012، وما تبعها من التحوّل نحو بناء ديكتاتورية قوية. منذ ذلك الوقت، سجلت الإحصاءات الروسية الرسمية ارتفاعاً حاداً في عدد الأشخاص الذين يغادرون روسيا بشكل دائم؛ أي من 117 ألف شخص في عام 2010 إلى أكثر من 200 ألف بحلول عام 2014؛ وأدى ضم شبه جزيرة القرم وزيادة التوترات بين روسيا والغرب إلى استمرار هذا الاتجاه، فقد غادر البلاد نحو مليوني شخص بين عامي 2012 و2021، وتشير التقديرات إلى أن هذا العدد تجاوز 3 ملايين في عام 2022 عقب الغزو الروسي لأوكرانيا؛ وأدى هذا الأمر إلى ظهور ملامح ديمغرافية واجتماعية مغايرة، من أبرزها:

- تغيرات النوع الاجتماعي: بالنظر إلى زيادة الهجرة الروسية بصورة غير طبيعية؛ فإن أولى التغيرات تشمل تغير النوع الاجتماعي، ففي أوقات "الهجرة الكلاسيكية" كان يتوافق عدد النساء إلى الرجال بنسب تتراوح بين (53% نساء و47% رجال)، ومع ظهور "الانتقال الجماعي" تغيرت النسبة إلى 37% إلى 63%. 

- تغيرات هيكل العمر: يختلف المهاجرون والمنتقلون أيضاً بشكل كبير في العمر، فقبل عام 2013، كان 56% من بين أولئك الذين غادروا روسيا تتراوح أعمارهم بين 18 و44 عاماً، ولكن بعد عام 2022 تجاوزت حصتهم 83%؛ ومن ثّم بات مجتمع المهاجرين يهيمن عليه بشكل متزايد الذكور الأصغر سناً.

- تراجع الولاء والانتماء: شكل المهاجرون الروس بيئة "محكمة" نسبياً في البلدان المضيفة الجديدة؛ إذ حافظوا على علاقات ضعيفة مع روسيا أو انقطعت علاقاتهم بها تماماً. على العكس من ذلك، يعتبر المهاجرون في العقد الماضي أنفسهم إلى حد كبير جزءاً من المجتمع الروسي، وحتى مع قبول بعضهم لجوازات سفر جديدة لكنهم لم يتخلوا عن الجنسية الروسية. لكن مع الزيادة الهائلة للمهاجرين في عامي 2022 و2023 باتت هناك حالة من التخلي عن الجنسية؛ إذ تخلى نحو 4400 روسي عن جنسياتهم خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2023. 

- تغيير الوجهات المستضيفة: هناك حالة تغيير في الوجهات التي يركز الروس عليها، فبعدما كانت "الموجة الأولى" من الهجرة "أوروبية" بالكامل تقريباً، في الفترة من 1922 إلى 1923 التي استقر فيها أكثر من 80% من أولئك الذين فروا من روسيا في أوروبا الغربية؛ فقد تغير ذلك في أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية؛ إذ استقر قُرابة ثلثي المهاجرين الروس في الجمهوريات السوفيتية السابقة وتركيا وصربيا والجبل الأسود، في حين اتجه ما بين 10 إلى 15% إلى دول جنوب شرق آسيا كتايلاند وإندونيسيا وحتى فيتنام وكمبوديا.

- القدرة على التكيّف: يتمتع غالبية الروس المنتقلين خارج روسيا بقدرة عالية على الحراك الاجتماعي والمكاني؛ بما يسهل انخراطهم داخل المجتمعات المستضيفة. فبالنسبة للروس المنتقلين إلى أوروبا؛ فإن نصفهم فقط يعبرون عن رغبتهم في العودة إلى وطنهم الأم؛ 11% يقولون إنهم سيفعلون ذلك في كل الأحوال، و37% إذا "تغير الوضع"، وهذا قد يشمل عوامل مختلفة، من غياب خطر التعبئة ونهاية الحرب إلى التفكيك الكامل لنظام بوتين؛ بل هناك ما يقرب من نسبة 75% من المنتقلين يتطلعون للحصول على جنسية أخرى؛ مما يشير إلى إعادة تقييم رغبتهم في العودة إلى روسيا على المدى المتوسط.

تغيير الديناميكيات الاقتصادية:

أدى تدفق الروس في عام 2022 إلى تغيير الديناميكيات الاقتصادية للعديد من بلدان المقصد، على سبيل المثال، ففي أرمينيا حيث انتقل ما يصل إلى 110 آلاف روسي في عام 2022، بلغ معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي 12.6% و8.7% في عامي 2022 و2023 على التوالي، وفي جورجيا 10.4% و7.0%، وفي قرغيزستان 7.0% و6.2%. ويعود ذلك إلى أن وصول الروس لتلك الدول أدى إلى ارتفاع قيمة عملات هذه البلدان بنسبة تتراوح بين 11% و23% مقابل الدولار الأمريكي، وحفز طفرة في بناء المساكن وقطاع الخدمات.

تعظيماً للاستفادة من هذه الاتجاهات الجديدة؛ بدأت سلطات العديد من الدول في خلق الظروف المواتية للمنتقلين، مثل أرمينيا، على أمل الاحتفاظ بهم في البلاد وتشجيعهم على فتح أعمال تجارية محلية. وبالنظر إلى قبرص –كأحد النماذج المستضيفة للمهاجرين الروس- تسعى الدول لتكييف تشريعاتها مع المتغيرات الحديثة من موجات الهجرة الروسية إليها؛ لما تمثله تلك الموجات من فرصة اقتصادية لتعزيز الاقتصاد القبرصي؛ خاصةً أن الضرائب التي يدفعونها تسهم بجزء كبير من إيرادات ميزانية البلاد، كما أن مشاركتهم في التنمية الاقتصادية والتكنولوجية للبلاد مهمة نسبياً.  

خلافاً لبلدان "الخارج القريب" الروسي، فإن معظم الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي لم تول اهتماماً لذلك. ففي أوروبا، نشأ جدل حول منع الروس من شراء العقارات، وتم فرض قيود على فتح الحسابات المصرفية، كما أصبح فتح الحسابات بالعملة المشفرة والحفاظ عليها من المحاذير؛ نتيجة لذلك، فإن عدد طلبات الحصول على تأشيرات طويلة الأجل وتصاريح الإقامة واللجوء السياسي من الروس الذين يرغبون في تسوية وضعهم يتزايد بشكل أسرع بكثير من عدد الالتماسات المستوفاة في الاتحاد الأوروبي. ففي عام 2021، تم إصدار 82900 تصريح إقامة للمواطنين في عام 2022 من بين أكثر من 91000 التماساً، وفي عام 2023 يمكن أن يزيد عددهم بنسبة 20 إلى 30%.

ختاماً، تُعد موجات هجرة الروس إلى الاتحاد الأوروبي مكسباً لرأس مال بشري كبير للدول المستضيفة، خاصة أن موجات الهجرة التي أعقبت سياسات بوتين في التصعيد تجاه أوروبا تتسم بقدرات مالية وكفاءات تسهل اندماجهم في المجتمعات الأوروبية في المستقبل المنظور، وتسهم بصورة إيجابية في اقتصاديات المجتمعات المضيفة عبر خلق مجتمع واسع من الروس يكرس لعلاقات الشراكة مع الدول الأوروبية؛ وهو النهج الذي اتبعته العديد من الدول الأوروبية مثل قبرص التي تبنت سياسات متوازنة تهدف إلى قبول وإدماج المنتقلين في المجتمع. 

وترى الدراسة أن أولئك المهاجرين الروس يمثلون فرصة للعالم الغربي لإضعاف روسيا كخصم جيوسياسي وتأمين فوائد اقتصادية كبيرة من خلال الترحيب بالمنتقلين الروس لفترة طويلة لدمجهم في تلك المجتمعات؛ وهو ما قد يُشكل تحدياً لنظام بوتين، وفي الوقت ذاته ورقة ضاغطة عليه لا تقل أهمية عن العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا، التي غالباً ما تأتي بنتائج عكسية على الجانب الأوروبي، كما قد يصبح الأوروبيون الروس إحدى أدوات المصالحة المستقبلية المحتملة بين أوروبا وروسيا. وتوصي الدراسة في الأخير بأهمية دمج المهاجرين الروس في المجتمعات الأوروبية بدلاً من رفضهم أو تهميشهم عبر تخفيف المتطلبات التي يواجهها المنتقلون الروس للحصول على وثائق تسمح لهم بالإقامة الدائمة في الاتحاد الأوروبي.

المصدر:

Gudkov, D., Inozemtsev, V., & Nekrasov, D., The New Russian Diaspora Europe’s Challenge and Opportunity, French Institute of International Relations (Ifri), 2024.