أخبار المركز
  • د. أيمن سمير يكتب: (بين التوحد والتفكك: المسارات المُحتملة للانتقال السوري في مرحلة ما بعد الأسد)
  • د. رشا مصطفى عوض تكتب: (صعود قياسي: التأثيرات الاقتصادية لأجندة ترامب للعملات المشفرة في آسيا)
  • إيمان الشعراوي تكتب: (الفجوة الرقمية: حدود استفادة إفريقيا من قمة فرنسا للذكاء الاصطناعي 2025)
  • حسين معلوم يكتب: (تفاؤل حذر: هل تشكل الانتخابات المحلية فرصة لحلحلة المسار الليبي؟)
  • أحمد عليبة يكتب: (هاجس الموصل: لماذا يخشى العراق من التصعيد الحالي في سوريا؟)

حوافز متعددة:

مداخل إصلاح فجوات "القوة الابتكارية" في ألمانيا

17 أكتوبر، 2023


عرض: هبة محيي

على الرغم من افتقار ألمانيا إلى الموارد الطبيعية، فإنها تملك "قوة ابتكارية" تساعدها على أن تصبح نموذجاً اقتصادياً عالمياً يسعى لتحقيق الرخاء وتوفير الوظائف للسكان والتحول إلى اقتصاد منخفض الكربون. إذ يؤدي الابتكار في العمليات الإنتاجية إلى استحداث أساليب جديدة لتقليل الفترات الزمنية المطلوبة للإنتاج وتقليل تكلفتها وزيادة كفاءة المنتجات. ومع ارتفاع القدرة التنافسية واستكشاف أسواق جديدة تدر أرباحاً للمنتجات الألمانية يصبح هنالك حافز أكبر لتخصيص الموارد للوصول لمراحل أكثر تقدماً في الابتكار. 

وفي ظل الدور المتزايد للابتكار في نمو الاقتصاد الألماني، اهتمت العديد من المؤسسات الحكومية والمنشآت الاقتصادية بدراسة القوة الابتكارية في هذا البلد والاستخدام الأمثل لها. ومن أبرز هذه الدراسات التقرير الذي أعده معهد الاقتصاد الألماني بالتعاون مع المكتبة الوطنية الألمانية للاقتصاد بعنوان "توزيع القوى الاقتصادية في المناطق الألمانية" في عام 2023. وركز على عدم التجانس في استخدام القوة الابتكارية بين المناطق الألمانية المختلفة، والمؤشرات المستخدمة لقياس تلك القوة، فضلاً عن طرح مقترحات لإصلاح الفجوات الابتكارية. 

فجوات الابتكار ومؤشراته:

أوضح تقرير معهد الاقتصاد الألماني أنه توجد فروق جغرافية ملحوظة في جميع مؤشرات قوة الابتكار في هذا البلد مثل، كثافة البحوث والتطوير، وهياكل التوظيف لعمالة قادرة على مواكبة الابتكار والتكنولوجيا ونجاح براءات الاختراع. إذ تظل المناطق الاقتصادية الجنوبية مثل، بادن فورتمبيرغ وبافاريا متقدمة بشكل كبير على مستوى صناعة الابتكار، أما الاستثناء الإيجابي من ضعف الابتكار الشامل في شرق ألمانيا فهو منطقة ينا الاقتصادية.

وذهب التقرير إلى أن التفاوت الابتكاري ملموس أيضاً عند تقسيم ألمانيا جغرافياً إلى مناطق ريفية وحضرية، حيث تزداد الفجوة بمرور الزمن بسبب ضعف الإمكانات المادية المتاحة في الريف للتركيز على تكثيف أنشطة البحوث والتطوير، أو جذب وتوظيف عمالة ذات صلة بالابتكار، بالتزامن مع التأخر الملحوظ في التكنولوجيا والعمليات الصناعية في تلك المناطق. وحمَّل التقرير الدولة المسؤولية عن توسيع هذه الفجوة، حيث قلصت الأموال المستثمرة في أعمال البحث والتطوير من 6.9% عام 2000 إلى 3.2% في وقتنا الحالي، كما لم تهتم بتوفير محفزات قوية للمنشآت الاقتصادية الخاصة لتعويض تلك الفجوة في أعمال البحث والتطوير المؤشرات أو المحفزات الأخرى للقوة الابتكارية. وأورد التقرير خمسة مؤشرات رئيسية يتم من خلالها قياس مدى قوة الابتكار في المناطق الألمانية، وهي كالآتي:

1- الاستثمار في البحث والتطوير (R&D): أي الجهود البحثية لتحويل المعارف العلمية إلى طرق وأساليب عملية حديثة لتحسين وتطوير العمليات الإنتاجية والصناعية. ووفقاً لمعهد الاقتصاد الألماني يُعد تزايد الضغط التنافسي العالمي على ألمانيا وأوروبا على حدٍ سواء دافعاً أساسياً للاهتمام بالاستثمار في مجال البحث والتطوير لضمان القدرة على الابتكار والقدرة التنافسية. وكتطبيق عملي لذلك هدفت استراتيجية النمو "أوروبا 2020" إلى زيادة الاستثمارات، بواسطة الدولة والقطاع الاقتصادي مجتمعين، في البحث والتطوير في جميع الدول الأوروبية بما لا يقل عن 3% من متوسط الناتج المحلي الإجمالي في هذه الدول عام 2020.

جدير بالذكر أن متوسط الإنفاق من الناتج المحلي الإجمالي على البحوث والتطوير قد بلغ 2.3% في أوروبا عام 2020؛ مما يعني أنه لم يتم تحقيق الهدف المرجو في أوروبا مجتمعة وفقاً لاستراتيجية النمو. لكن بالنظر إلى ألمانيا بمفردها فإنها أصابت الهدف المرجو عام 2019 باستثمارات قدرها 3.2% في المجال المذكور سابقاً. وكانت القوة الدافعة لهذا الإنفاق هي القطاع الصناعي، خاصة صناعة السيارات، والصناعات الكيماوية والصيدلانية، وهندسة الآلات وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات؛ الأمر الذي دفع ألمانيا إلى وضع هدف لزيادة الإنفاق إلى 3.5% بحلول عام 2025.

وأوضح التقرير أن هنالك فجوة كبيرة في أنصبة المقاطعات الألمانية من معدلات الاستثمار في البحث والتطوير، إذ إن نسبة الإنفاق في المناطق الحضرية أعلى منها بكثير في المناطق الريفية والمشاريع المتعلقة بها. ويعزى ذلك إلى وجود العديد من الشركات الكبرى في مجال البحث والتطوير والجامعات في المناطق الحضرية.

2- العمالة المؤهلة لاستخدام الابتكار: أوضح التقرير أهمية العنصر البشري المؤهل لاستخدام الابتكار، خاصة في مجالات الرياضيات وعلوم الحاسوب والتكنولوجيا والعلوم الطبيعية، لأنه سيباشر أعمال البحث والتطوير وتقديم براءات الاختراع ومساعدة الشركات الناشئة. وأوضح التقرير أن عدد العمالة المؤهلة للأعمال المتعلقة بالابتكار في ألمانيا قد بلغ 1.4 مليون عامل سنة 2019 بنسبة زيادة 25% مقارنة بسنة 2014. وبوجه عام تشكل نسبة القوى العاملة المؤهلة للابتكار 4.2% من إجمالي القوى العاملة في ألمانيا.

وعند مقارنة تركيزات هذه القوى العاملة المؤهلة جغرافياً، فإنها تنخفض عند التحرك من الجنوب إلى الشمال ومن الغرب إلى الشرق. كما تقل كثافتها في المناطق الريفية مقارنة بالحضرية. وبصفة عامة، حققت برلين نمواً ملحوظاً في كثافة العمالة المؤهلة بسبب نمو الصناعة الرقمية فيها وإنشاء الشركات ذات الصِلة بالصناعة الابتكارية.

3- الشركات الناشئة ذات التوجه التكنولوجي: تؤدي الشركات الناشئة (start-ups) وفقاً لمركز الاقتصاد الألماني، دوراً كبيراً في نمو الاقتصاد وتدعيم الابتكار، لأنها مسؤولة عن استحداث خدمات ومنتجات جديدة ذات توجه تكنولوجي. وكان هناك اتجاه متصاعد في إنشاء تلك الشركات، إلا أن ظهور أزمة "كوفيد19" عام 2020 أثر سلباً في هذا الاتجاه. مع ذلك، زادت نسبة الشركات الناشئة بعد انتهاء الأزمة، وإن لم تصل لما كانت عليه قبل الأزمة. وبالنظر إلى توزيع الشركات الناشئة في المقاطعات الألمانية، يشير التقرير إلى أن هنالك فجوة بين المناطق الحضرية والريفية، لكنها أقل مقارنة بالفجوة في مؤشري البحث والتطوير، والعمالة المؤهلة للابتكار.

4- جاهزية الصناعة الذكية: تتميز عملية الابتكار وفقاً للتقرير بزيادة التحول الرقمي والاعتماد على التكنولوجيا، ومن أهم نماذج الصناعة المستخدمة حالياً هو نموذج (صناعة 4.0 (Industry، والذي يستهدف إنشاء شبكة علاقات رقمية متطورة بين أهم أربعة عوامل للنشاط الصناعي، وهي: المنتجات، وعمليات الإنتاج، واللوجستيات، والعملاء المستهدفين. ووفقاً للإحصاءات، فإن 10% فقط من المنشآت الألمانية لديها المقومات المطلوبة لتنفيذ نموذج (صناعة 4.0). وبالنظر إلى التوزيع الجغرافي للمنشآت المستخدمة لهذا النموذج تبرز أيضاً فجوة شاسعة لصالح غرب ألمانيا مقارنة مع شرقها وللمناطق الحضرية مقارنة مع الريفية.

5- براءات الاختراع: وهي من أهم المؤشرات الدالة على استخدام الابتكار في الصناعة، بل إنها النتيجة المرجو الوصول إليها من الابتكار لأنها تسهل العمليات الصناعية فيما بعد. ومن حيث المناطق الأكثر إنتاجاً لبراءات الاختراع، فإن هناك فجوة لصالح الجنوب والغرب، لكنها ليست شاسعة نظراً لاهتمام ألمانيا بتوفير مكاتب تسجيل براءات الاختراع في العديد من المناطق وليست الصناعية فقط. ومن المقاطعات الجنوبية الرائدة في هذا المجال مقاطعتا بادن فورتمبيرغ، وبافاريا، اللتان تسجلان 321 و236 طلب براءة اختراع لكل 100 ألف موظف يخضعون لاشتراكات التأمين الاجتماعي.

مداخل إصلاح قوة الابتكار 

تعرَّض التقرير إلى مواطن الضعف المتعلقة باستخدام القوة الابتكارية في ألمانيا، ثم طرح مقترحات لإصلاحها، وهي:

1- زيادة الاستثمار في البحث والتطوير: أورد التقرير أن ثلثي المناطق الألمانية تخلفت عن تحقيق الهدف المنشود باستثمار 2% من القيمة المضافة الإجمالية للاقتصاد في أعمال البحث والتطوير، وأن ما تقدمه الدولة من حوافز ضريبية للمنشآت الخاصة للاستثمار في البحث والتطوير يعد ضعيفاً، لذا كان لزاماً عليها زيادة النسب المخصصة في ذلك المجال وتوزيعها توزيعاً عادلاً بين المقاطعات، وتوسيع قاعدة المستفيدين من الحوافز الضريبية.

2- تطوير القوى العاملة المؤهلة للابتكار: يشير التقرير إلى أن ازدياد نسبة القوى العاملة في ألمانيا بفضل الهجرة ولبقاء الموظفين في سوق العمل لفترة أطول. لكن بالنظر إلى التخصصات المتعلقة بالقوة الابتكارية، فإنها لا ترقى للنسب المطلوبة للوصول للاستخدام الأمثل للابتكار. ويمكن تحويل هذه المشكلة لنقطة قوة عن طريق تسهيل التحاق المهاجرين بالمدارس والجامعات المتعلقة بهذه التخصصات، والعمل على جذب العمالة المؤهلة من خارج ألمانيا من خلال تقديم العديد من الحوافز وتبسيط الإجراءات البيروقراطية.

3- تحفيز الشركات الناشئة: يشير التقرير إلى أن نسبة إنشاء الشركات الناشئة ذات التوجه التكنولوجي في ألمانيا في انخفاض على المدى البعيد. وبما أن تلك الشركات تُعد الداعم والصانع الأول لبراءات الاختراع؛ لذا يجب على الدولة تحفيز جامعاتها لدمج موضوع ريادة الأعمال في المحتوى التعليمي ودعم التطبيق العملي له ومساعدة الطلاب مالياً وتطبيقياً على إنشاء الشركات الناشئة.

4- تطوير القدرات التخطيطية: بما أن العنصر الأهم في تطوير جاهزية الصناعة هو استخدام الإنترنت والتحول الرقمي، فيجب على الدولة توفير بنية تحتية مناسبة لشبكات الإنترنت بسرعات مناسبة خصوصاً للاستخدامات التجارية. ولاسيما وأن ألمانيا لم تنجح في السابق في القيام بالاستثمار في ذلك المجال لنقص القدرات التخطيطية، لذلك يجب إنشاء مراكز للتخطيط وتوفير البنية التحتية المناسبة والعمل على إصلاح وصيانة المراكز الحالية.

5- تشجيع براءات الاختراع: يُعد التصديق على قرار براءة الاختراع الأوروبية الموحد عاملاً إيجابياً لتعزيز نشاط تقديم براءات الاختراع. لذا، من الضروري توسيع قاعدة العاملين في قسم المفتشين المتخصصين في براءات الاختراع للحفاظ على جودة براءات الاختراع المقدمة، وتوفير كل السبل اللازمة لتشجيع المبتكرين على تسجيل براءات اختراعاتهم.

المصدر:

Maike Haag, Hanno Kempermann, Enno Kohlisch & Oliver Koppel, Die Innovationskraft der deutschen Regionen, Econstor & German Economic Institute, July 2023.