أخبار المركز
  • د. أمل عبدالله الهدابي تكتب: (اليوم الوطني الـ53 للإمارات.. الانطلاق للمستقبل بقوة الاتحاد)
  • معالي نبيل فهمي يكتب: (التحرك العربي ضد الفوضى في المنطقة.. ما العمل؟)
  • هالة الحفناوي تكتب: (ما مستقبل البشر في عالم ما بعد الإنسانية؟)
  • مركز المستقبل يصدر ثلاث دراسات حول مستقبل الإعلام في عصر الذكاء الاصطناعي
  • حلقة نقاشية لمركز المستقبل عن (اقتصاد العملات الإلكترونية)

ارتدادات اقتصادية:

استقالة "تراس" وصعود "سوناك".. كيف يتغير الداخل الأوروبي؟

26 أكتوبر، 2022


أثارت استقالة ليز تراس من رئاسة الحكومة البريطانية، في 20 أكتوبر 2022، بعد 44 يوماً فقط من تسلمها المنصب، وهي أقصر مدة يقضيها رئيس حكومة في تاريخ بريطانيا، ثم تولى ريشي سوناك هذا المنصب في 25 أكتوبر الجاري؛ العديد من التساؤلات حول أسباب ذلك، خاصةً أن هذه الخطوة سبقتها تغيرات سياسية وتحولات استراتيجية أخرى في العديد من الدول الأوروبية، وذلك في إطار التداعيات الناجمة عن الحرب الروسية – الأوكرانية، وما يشهده العالم من أزمات اقتصادية.

تغيرات متلاحقة:

شهدت دول أوروبا مؤخراً سلسلة من التغيرات السياسية وعلى مستوى تشكيل الحكومات، فضلاً عن تحولات في المواقف الخارجية، واضطرابات داخلية، وذلك على وقع تداعيات الحرب الأوكرانية وما أفرزته من أزمات اقتصادية تعانيها القارة مثل العديد من دول العالم. وتتمثل أبرز هذه التغيرات والتحولات في الآتي:


1- عدم استقرار حكومي في بريطانيا: أعلنت ليز تراس استقالتها من رئاسة وزراء بريطانيا، بعد حوالي 6 أسابيع فقط من توليها المنصب، ليخلفها ريشي سوناك، وزير المالية السابق، والذي اختاره نواب حزب المحافظين رئيساً جديداً للحزب، ثم تولى رسمياً رئاسة الحكومة في 25 أكتوبر 2022.

وتعود أسباب استقالة تراس من رئاسة الحكومة إلى الفوضى الاقتصادية والمالية التي خلفتها الموازنة المصغرة التي قدمتها حكومتها وأدت إلى اضطراب الأسواق وتراجع قيمة الجنيه الإسترليني أمام الدولار الأمريكي بشكل غير مسبوق. وعلى الرغم من أن تراس تراجعت عن منح إعفاءات ضريبية للأغنياء في البلاد، فإن ذلك لم يخفف من الغضب الشعبي على سياساتها. وكانت أبرز الانتقادات التي تم توجيهها أيضاً لتراس هي تجاوزها نواب حزبها المحافظين وعدم استشارتهم مسبقاً في الخطوات التي أقدمت على اتخاذها، لذلك لم يقف هؤلاء النواب إلى جانبها داخل البرلمان، مما عجل بعملية سقوطها. فيما قام رئيس الوزراء الجديد، سوناك، في أول خطاب له بعد توليه رئاسة الحكومة البريطانية، بإصلاح أخطاء تراس فوراً، لكنه أشار إلى وجود تحديات تحتاج إلى خيارات صعبة.

2- سقوط حكومات في الاتحاد الأوروبي: تمكنت المعارضة في بلغاريا من إسقاط حكومة كيريل بيتكوف، المؤيدة للغرب، في يونيو 2022، مستغلة الانقسامات داخل الائتلاف الحاكم، وإخضاع الحكومة للتصويت على الثقة في البرلمان على خلفية تدهور الأوضاع الاقتصادية. وأُثيرت تكهنات بشأن ضلوع روسيا في عملية إسقاط الحكومة البلغارية. 

كما تعرض رئيس الوزراء السلوفيني السابق، يانيز يانشا، لهزيمة في الانتخابات التشريعية التي أُجريت في أبريل 2022. وكان يانشا من أوائل القادة الأوروبيين الذين زاروا كييف بعد اندلاع الحرب الروسية، وجاءت هذه الهزيمة أمام رئيس الوزراء الحالي، روبرت غولوب، ولم تخل الحملة الانتخابية من إقحام العلاقة مع روسيا في النقاشات، حيث اتهم يانشا منافسه غولوب بمعارضة العقوبات التي فُرضت على موسكو بعد ضمها جزيرة القرم في عام 2014، وبأن نائبه في الحزب كان يهاجم خطوات حكومته في دعم أوكرانيا. وتردد أن حكومة غولوب الجديدة سوف توقف الدعم العسكري لأوكرانيا وتُبقي فقط على الدعم الإنساني بالرغم من إعلانها سابقاً أنها ستفي بالالتزامات التي قطعتها الحكومة السابقة والتي كان من ضمنها إرسال 30 دبابة إلى أوكرانيا مقابل إرسال ألمانيا مدرعات جديدة إلى سلوفينيا. 

3- صعود اليمين المتطرف: بالتزامن مع التغيرات السابقة، وتحديداً في 22 أكتوبر 2022، كانت جيورجيا ميلوني، زعيمة حزب "فراتيلي ديتاليا" (إخوة ايطاليا)، المصنف تحت خانة أقصى اليمين، تؤدي اليمين الدستورية أمام رئيس الجمهورية الإيطالي، سيرجيو ماتاريلا، كأول رئيسة لحكومة يسيطر عليها اليمين المتطرف في إيطاليا، بعد أن فاز حزبها في الانتخابات التشريعية التي أُجريت في شهر سبتمبر الماضي. وعلى الرغم من رسائل التطمين التي حاولت ميلوني توجيهها عبر تعيين رئيس البرلمان الأوروبي السابق المقرب من بروكسل، أنطونيو تاجاني، وزيراً للخارجية، وجيانكارلو جورجيتي، المقرب من رئيس الوزراء السابق ماريو دراغي، وزيراً للاقتصاد؛ فقد ثارت شكوك بشأن جدية هذه الرسائل عقب انتشار تسريب صوتي لحليفها في الحكومة، سيلفيو برلسكوني، يقول فيه إنه تلقى هدية من الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بمناسبة عيد ميلاده، وأن بوتين لم يكن يرغب في الحرب ولكنه دُفع إليها من قِبل الرئيس الأوكراني. 

وكان قد سبق ذلك، في منتصف أكتوبر 2022، تنصيب الحكومة السويدية الجديدة برئاسة أولف كريسترسون بعد تشكيل ائتلاف من أربعة أحزاب، هي حزب المحافظين وحزب المسيحيين الديمقراطيين وحزب الليبراليين وحزب ديمقراطيّ السويد SD اليميني المتطرف الذي فاز في الانتخابات التشريعية التي جرت في سبتمبر 2022 (حصل على 20.5% من الأصوات و73 مقعداً)، مشكلاً بذلك سابقة تاريخية كأول حزب يميني متطرف يتصدر نتائج الانتخابات في السويد. ووافق هذا الحزب على دعم الحكومة الجديدة في البرلمان، ومنحها الثقة من دون تولي أية حقيبة وزارية، ولكن في مقابل الالتزام بتطبيق خطته حيال ملف الهجرة التي خاض الانتخابات على أساسها.   

4- تحولات في المواقف الاستراتيجية الأوروبية: قررت فنلندا والسويد التخلي عن الحياد والانضمام إلى حلف "الناتو"، وبدأت تظهر أصوات في النمسا تطالب بإعادة النظر في مبدأ الحياد الذي تنتهجه البلاد منذ عام 1955. وكان المستشار النمساوي، كارك نيهمر، أول رئيس دولة أوروبية يزور موسكو في أبريل 2022 منذ بداية الحرب الأوكرانية، حاملاً معه رسائل إنسانية وسياسية. كما قدمت مولدوفا، التي كانت إحدى جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، طلباً رسمياً للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في مارس 2022. وفي استفتاء أُجري في يونيو 2022، صوّت الدنماركيون بنسبة 69% لصالح انضمام بلادهم إلى السياسة الأمنية والدفاعية المشتركة للاتحاد الأوروبي "CSDP".

كذلك، كان لافتاً خروج رئيس الوزراء المجري، فيكتور أوربان، عن خط التضامن الأوروبي فيما يخص فرض العقوبات على موسكو، حيث عارض مقاطعة الغاز الروسي بحجة الدفاع عن مصالح بلاده التي تعتمد بشكل كامل على إمدادات الطاقة الروسية. وعلى الرغم من أن هذا الإجراء أدى إلى عزل أوربان على الساحة الأوروبية، فإنه ساهم في تقويته داخلياً، حيث استطاع الفوز في الانتخابات التشريعية مجدداً في أبريل 2022. ولاحقاً عارض أوربان مرور الأسلحة المرسلة إلى أوكرانيا عبر أراضي المجر، قاصراً التزامه فقط على تمرير المساعدات الإنسانية واستقبال اللاجئين الأوكرانيين. كما وقّعت حكومته اتفاقاً إضافياً مع شركة "غازبروم" الروسية في سبتمبر 2022، وغلب على تصريحاته نبرة تحدي الاتحاد الأوروبي والنموذج الغربي، معتبراً أن الاتحاد الأوروبي يخطئ في سياسته إزاء الأزمة الأوكرانية، ومُتوقعاً أن تستمر الحرب في أوكرانيا حتى عام 2030.

كما صدرت عدة تصريحات مشابهة عن رئيس الوزراء اليوناني السابق، أليكسي تسيبراس، زعيم حزب سيريزا، اعتبر فيها أن الاتحاد الأوروبي سيكون الخاسر الأكبر من الحرب الأوكرانية. فيما رأى الرئيس الصربي، ألكسندر فوتشيتش، في سبتمبر الماضي، أن أوروبا أصبحت على أعتاب حرب عالمية ثالثة.

5- طرح مبادرات للتخلص من التبعية لروسيا في الطاقة: أرجأت بلجيكا، في مارس 2022، تنفيذ قرارها السابق بجعل عام 2025 موعداً نهائياً لإيقاف العمل في جميع محطات الطاقة النووية لديها، وذلك لعشر سنوات إضافية تحسباً لارتفاع أسعار الطاقة وانقطاع إمدادات الغاز الروسي. وعملت فرنسا على إعادة تشغيل مفاعلاتها النووية المعطلة، كما تحاول إقناع الجزائر بزيادة إمداداتها من الغاز إلى فرنسا بنسبة 50%. ووقّع الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في سبتمبر الماضي، اتفاقاً لضخ كميات من الغاز الطبيعي إلى ألمانيا، كما قررت الأخيرة، التي كانت تعتمد على الغاز الروسي لسد 56% من حاجاتها وبعد تخفيض إمدادات خط أنبوب "نورد ستريم 1"، التوجه نحو خيار الغاز المُسال للمرة الأولى في تاريخها. ومن المتوقع أن تنتهي عملية بناء أول محطة للغاز المُسال في ألمانيا في شتاء 2023، على أن يتم استكمال هذا المشروع بـ 4 محطات أخرى يمكنها تعويض 20% من الواردات الروسية التي كانت تشتريها ألمانيا.

6- تصاعد الاحتجاجات والإضرابات المجتمعية: أمام الأزمات الاقتصادية وارتفاع تكلفة المعيشة، شهدت دول أوروبا سلسلة من التحركات الاحتجاجية. ففي فرنسا، عطّل إضراب عمال مصافي النفط الذي بدأ في 27 سبتمبر الماضي، 6 مصافٍ للنفط تعود أغلبيتها إلى شركة "توتال إينيرجي"، وذلك للمطالبة بزيادة أجور العمال، وهو ما أدى إلى توقف العمل في 25% من محطات الوقود في البلاد. كما شهدت عدة مدن ألمانية تظاهرات، رُفع فيها العلم الروسي. فيما تم إحراق فواتير الطاقة في احتجاجات جرت في المدن الإيطالية. وبحسب رأي بعض المؤسسات الاستشارية، فإن الحرب الأوكرانية زادت من مخاطر وقوع انتفاضات مدنية في أوروبا، حيث يعتبر المحتجون أن تحرك الحكومات لم يكن كافياً من أجل إيجاد حلول مناسبة لأزمة التضخم وغيرها. 

أسباب كاشفة:

يمكن إرجاع حدوث هذه التغيرات داخل الدول الأوروبية، إلى العديد من العوامل، ومنها الآتي:


1- انعكاسات العقوبات على روسيا والدعم المادي لأوكرانيا: منذ مارس 2022، بدأ الاتحاد الأوروبي في فرض سلسلة من العقوبات الاقتصادية على روسيا، وصحيح أن هذه العقوبات قد أضرت بالاقتصاد الروسي، إلا أنها تسببت في الوقت نفسه في تداعيات كبيرة على أوروبا. إذ إن رفض شراء النفط الروسي أدى إلى ارتفاع أسعار النفط، لأن الدول المنتجة الأخرى لم تكن لديها رغبة في تعويض انخفاض الإنتاج الروسي. كما أدى تراجع تدفق الغاز الروسي لألمانيا ودول أوروبا الشرقية، إلى مخاوف من تعرض أوروبا لأزمة طاقة كبيرة خلال الشتاء القادم، والتي تطال الاقتصاد والتدفئة المنزلية وتوليد الكهرباء. 

وكان التوجه إلى شراء الغاز الطبيعي المُسال كحل بديل، لكنه يحتاج إلى وقت، لأن أوروبا لم تكن تمتلك بعد مرافق كافية لتخزين الغاز الطبيعي المُسال، بالإضافة إلى ارتفاع سعره، حيث انتقد الرئيس ماكرون بيع الغاز المُسال الأمريكي إلى أوروبا بأربعة أضعاف سعره في الداخل الأمريكي. كل هذا دفع بعض الدول الأوروبية إلى تقنين استخدام الغاز، وإيقاف التدفئة في المباني العامة، وتحديد درجة قصوى للحرارة يجب عدم تخطيها. 

وكان الاتحاد الأوروبي قد خصص لأوكرانيا، في مايو 2022، مساعدة مالية مقدارها 9 مليارات يورو حتى نهاية العام الحالي، بيد أن الحكومة الأوكرانية طالبت الاتحاد الأوروبي بزيادة حجم هذه المساعدات لأنها تحتاج، حسب تقديراتها، لحوالي 3 مليارات يورو شهرياً لتمويل أنشطتها، مما دفع الاتحاد الأوروبي إلى تخصيص مساعدة مالية شهرية لها بمقدار مليار ونصف يورو طوال عام 2023، أي بإجمالي 18 مليار يورو في السنة القادمة. كما قُدر حجم المساعدات العسكرية المقدمة من الدول الأوروبية بما فيها بريطانيا، إلى أوكرانيا بحوالي 12 مليار يورو حتى أكتوبر 2022. فيما تم تقدير المساعدات الإنسانية الممنوحة من الدول الأوروبية لأوكرانيا بنحو 5 مليارات يورو.

2- ارتفاع التضخم وتفاقم أزمة الطاقة: تخطى التضخم في معظم الدول الأوروبية عتبة الـ 10%، وهو ناجم بشكل أساسي عن الزيادة الكبيرة في أسعار الطاقة التي بلغت في بعض الدول الأوروبية نسبة 200% مقارنةً بما كانت عليه قبل اندلاع الحرب الأوكرانية. ولمواجهة هذه الزيادة، قررت الحكومة الفرنسية، في مارس 2022، دعم أسعار الوقود بأكثر من ملياري يورو أي بما يعادل 0,18 يورو لكل لتر من البنزين أو الديزل، كما أعادت فرنسا تأميم شركة كهرباء فرنسا "إي دي إف" EDF عبر شراء حصة بمقدار 16% لا تمتلكها (حصة الدولة 84%) وبقيمة 9,7 مليار يورو، وذلك لحماية المستهلكين من ارتفاع أسعار الطاقة. 

فيما وضعت ألمانيا خطة بقيمة 200 مليار يورو لمساعدة المستهلكين الذين يعانون ارتفاع فواتير الطاقة. وتقضي هذه الخطة بمنح الأسر والشركات الصغيرة والمتوسطة دفعة لمرة واحدة توازي قيمة فاتورة غاز لشهر واحد في العام، ولكن تم انتقاد هذه الخطة بداعي أنها لا تعمل على ترشيد استهلاك الطاقة، كما هاجمها بعض القادة الأوربيين، معتبرين أنها تقوض وحدة الاتحاد الأوروبي، خصوصاً أن هناك دولاً في الاتحاد لا تسمح لها موازناتها بإيجاد حل لأزمة الطاقة بمفردها، وأنه على ألمانيا، بدلاً من التفكير في حلول على مستواها الداخلي، العمل مع بقية الأعضاء على تبني خطة موحدة لمعالجة أزمة الطاقة. 

واقترحت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، مدعومة من 15 دولة عضواً في الاتحاد الأوروبي، وضع سقف لأسعار الغاز على مستوى الاتحاد، إلا أن دولاً مثل ألمانيا وهولندا اعترضت على هذا الاقتراح، على اعتبار أن موردي الغاز سيبحثون حينها عن أسواق أخرى غير السوق الأوروبية لبيع غازهم. 

كما أعلنت حكومة تراس في بريطانيا، قبل استقالتها، أنها ستجمد فواتير الطاقة للأسر البريطانية على مستوى 2500 جنيه في السنة، وتتكفل بدفع ما يزيد على ذلك. وقدّرت بعض الجهات تكلفة هذه الخطوة بنحو 25 مليار جنيه سنوياً، ولم توضح حكومة تراس حينها كيفية توفير التمويل اللازم لذلك.

3- زيادة الإنفاق العسكري للجيوش: قررت إسبانيا، في يوليو 2022، زيادة إنفاقها العسكري، وذلك تماشياً مع الهدف الذي حدده حلف "الناتو" بأن يكون الإنفاق في المجال العسكري مساوياً لنسبة 2% من إجمالي الناتج المحلي، ولقيت هذه الزيادة اعتراضات داخلية، لا سيما من أحزاب أقصى اليسار التي تمنت لو أن الزيادة تم تخصيصها للقطاع الصحي. 

وفي خطوة مثلت تحولاً كبيراً وترجمة لما وصفه المستشار الألماني، أولاف شولتس، بأنه "منعطف تاريخي" على ألمانيا اجتيازه، أقر البرلمان الألماني، في يوليو 2022، وبأغلبية 593 صوتاً ومعارضة 80، تخصيص مبلغ 100 مليار يورو لتعزيز المنظومة العسكرية وتحديث الجيش الألماني، وذلك في ترجمة للتوجه نحو زيادة الإنفاق الدفاعي من 1.5% إلى أكثر من 2% من الناتج المحلي. 

كما أعلنت الحكومة البولندية رفع سقف إنفاقها العسكري إلى 3%، وخطتها لزيادة عدد جيشها إلى 300 ألف جندي، وتعزيز قدراتها القتالية لردع أي عدوان مسلح عبر اقتناء دبابات ومروحيات أمريكية وبطاريات صواريخ هيمارس "HIMARS". كما تشير بعض المصادر إلى أن الهدف الحقيقي لحزب القانون والعدالة "PiS" الحاكم في بولندا هو الوصول بالإنفاق العسكري إلى نسبة 5% من الناتج المحلي، اعتقاداً منه أن ذلك سيدفع روسيا إلى استبعاد خيار القيام بأي اعتداء أو شن هجوم عسكري على بولندا في المستقبل. 

4- برجماتية اليمين المتطرف واستغلاله إحباط الناخبين: لا يعود سبب تصاعد حضور تيار اليمين المتطرف في أوروبا إلى نشر "المعلومات المضللة" فقط "Disinformation"، كما تروج بعض الدوائر المقربة من بروكسل، إذ غالباً ما يتم تجاهل عامل الإحباط الذي يدفع الناخبين إلى تجربة أحزاب اليمين المتطرف. وبالتالي فإن عدم الاستماع إلى هواجس المحبطين يمكن أن يقود إلى موجة جديدة من تقدم أحزاب اليمين المتطرف والتي بدأت في السويد ثم إيطاليا في العام الحالي، ويمكن أن تمتد إلى إسبانيا وبلجيكا اللتين ستشهدان انتخابات تشريعية في عام 2023. 

كما يرجع تقدم أحزاب اليمين المتطرف إلى التطبيع مع هذه الأحزاب وتقبل وجودها كجزء طبيعي من المشهد السياسي مثلها مثل القوى التقليدية الأخرى، حيث لم يعد يُنظر إلى التعاون بين يمين الوسط واليمين المتطرف على أنه من المحرمات، خصوصاً أن العديد من أحزاب يمين الوسط سهلت هذه المهمة على التيارات المتطرفة عبر تبني مواقفها وإدراجها ضمن برامجها الانتخابية. كذلك فإن الأحزاب المتطرفة أصبحت تمتلك ما يكفي من البرجماتية لصياغة خطاب سياسي جديد تبتعد فيه عن التركيز على البعد العنصري، وتركز على انتقاد سياسات الهجرة واستغلال الشعور بالتشاؤم المُسيطر على الشعوب الأوروبية حالياً في ظل ارتفاع التضخم وتداعيات الحرب الأوكرانية وإمكانية تمددها، حيث تبقى الحرب هي المتسبب الأكبر في الخوف، ويعمد اليمين المتطرف إلى تحويل هذا الخوف والإحباط إلى سلوك تصويتي يصب لصالحه في الصناديق الانتخابية.

ختاماً، يبدو واضحاً أن أوروبا تشهد تغيرات سياسية خلال الفترة الراهنة، على وقع تداعيات الحرب الأوكرانية وما صاحبها من ارتدادات اقتصادية، وقد تكون هذه التغيرات إرهاصات لتحولات أكبر في المشهد في ظل عدم وضوح الرؤية بشأن مسار هذه الحرب في الأمد المنظور، وما إذا كانت العقوبات المفروضة على روسيا ستدفعها إلى الانسحاب من أوكرانيا، أم أن تداعيات الحرب ستكون أكثر تأثيراً على أوروبا، خصوصاً مع اقتراب الشتاء الذي قد يصعب تحمله في ظل أزمة الطاقة الراهنة.