يشهد الاقتصاد العالمي في الوقت الراهن ارتفاعاً متسارعاً لمعدلات التضخم، وبدت ملامح ذلك بجلاء في منطقة اليورو والولايات المتحدة الأمريكية والصين. ولا تتوقف مخاوف التضخم على ما حدث بالفعل إلى الآن، لكن هناك ترجيحات بأن يشهد التضخم العالمي المزيد من الارتفاع خلال الفترة المقبلة، في ظل عوامل عدة، أهمها عودة النشاط الاقتصادي تدريجياً مع توسع الدول في تطعيم سكانها ضد وباء كورونا، تزامناً مع استمرار الحكومات في تنفيذ برامج التحفيز المالي لاقتصاداتها.
هذه المقدمات تزيد المخاوف من أن تقود موجة التضخم الحالية، والمتوقع زيادتها، الاقتصاد العالمي لحالة من عدم الاستقرار، وأن يتسبب ذلك في أزمات مالية جديدة لم تكن متوقعة من قبل، وقد تكون تبعاتها ثقيلة على الاقتصاد العالمي، الذي مازال مثقلاً بالأعباء.
مسار متصاعد:
ارتفع معدل التضخم في الولايات المتحدة الأمريكية بشكل كبير ومتسارع أيضاً خلال الشهور الأخيرة، ليبلغ 4.2% في نهاية مايو 2021، بعد أن بلغ 2.6% في أبريل السابق له، ما يعني أنه قفز 1.6 نقطة مئوية خلال شهر واحد فقط. وفوق ما يعبر عنه ذلك من ضغوط تضخمية يعانيها الاقتصاد، فإن ارتفاع التضخم إلى مستواه الحالي يمثل تطوراً لافتاً، لاسيما وأنه يعتبر المستوى الأعلى للتضخم بالاقتصاد الأمريكي منذ يناير 2008.
ولا يعيش الاقتصاد الصيني ظروفاً مغايرة، بعد أن مر خلال الفترة الماضية بارتفاع لافت، فقد أظهرت بيانات مكتب الإحصاء الوطني في الصين ارتفاع معدل التضخم هناك إلى 1.3% في مايو الماضي، مقابل 0.9% في أبريل السابق. كما أظهرت البيانات ارتفاع أسعار الجملة في الصين بنسبة 9% في مايو مقارنة بالشهر نفسه من العام الماضي، بعد ارتفاعها بنسبة 6.8% خلال أبريل السابق، وهو ما يدفع نحو المزيد من التضخم في الفترة المقبلة.
بجانب ذلك، فقد ارتفع معدل التضخم في منطقة اليورو بشكل متسارع خلال الشهور الأخيرة، ما دفعه إلى الوصول إلى أقصى مستوى في الهامش المقبول كعامل استقرار لاقتصادات المنطقة. وقد سجل هذا المعدل 2% في مايو الماضي، مرتفعاً من نحو 1.8% في أبريل السابق. ولا يقتصر الأمر على المعدل الكلي للتضخم بالمنطقة، بل إن الاقتصادات الأربع الكبرى في المنطقة، وذات التأثير الأكبر داخلها، تعاني جميعها الآن من ارتفاع متسارع للتضخم.
فمنذ شهر فبراير حتى نهاية مايو الماضي، ارتفع التضخم في ألمانيا من 1.6% إلى 2.4%، وفي فرنسا زاد المعدل من 1% إلى 1.8%. وفي إيطاليا ارتفع من 0.7% إلى 1.3%. وقفز التضخم في إسبانيا من -0.1% إلى 2.4%. ومن شأن هذا التسارع أن يهدد فرص التعافي الاقتصادي للمنطقة، وأن يزيد من المخاوف من حدوث اضطراب مالي جديد بها.
أسباب متعددة:
هناك العديد من الأسباب التي تقف خلف الارتفاع المتسارع لمعدلات التضخم في الاقتصادات الكبرى والعالم، وأتى ارتفاع أسعار الطاقة ضمن أهم تلك الأسباب، فبالنظر إلى منطقة اليورو، فإن ارتفاع معدل التضخم بها جاء مدفوعاً بزيادة أسعار مجموعة الطاقة، التي سجلت قفزة بمعدل 13.1% في شهر مايو الماضي، وهو أعلى معدل سنوي للزيادة مقارنة بكل مجموعات السلع الأخرى.
ويعود الفارق الكبير في الزيادة في الأسعار بين الطاقة وباقي المجموعات الأخرى للسلع والخدمات في منطقة اليورو، إلى الارتفاع الذي شهدته أسعار الطاقة العالمية خلال الفترة الماضية، وعلى رأسها أسعار النفط، التي تجاوزت مستوى الـ70 دولار للبرميل لأول مرة منذ سنوات. وينطبق الأمر نفسه على الولايات المتحدة الأمريكية والصين، حيث أن ارتفاع أسعار الطاقة هو متغير عالمي يؤثر في أسعار جميع السلع من دون استثناء.
ويرتبط ارتفاع أسعار الطاقة بشكل عام بعودة الأنشطة الاقتصادية إلى طبيعتها بشكل تدريجي حول العالم، وهو ما أدى إلى زيادة الطلب على مدخلات الإنتاج بما فيها الطاقة. كما أن عودة مواطني العديد من الدول، ولاسيما الدول الكبرى، وذات الكثافات السكانية الكبيرة، تدريجياً إلى ممارسة حياتهم بشكل طبيعي ساهم بدوره في زيادة الطلب على الطاقة، عبر استهلاك المزيد من الوقود، هذا بجانب توسع هؤلاء المواطنين في الطلب على السلع الاستهلاكية، وهو ما غذّى بدوره الضغوط التضخمية.
يضاف إلى هذه الأسباب، استمرار الحكومات في الإنفاق الكثيف على خطط التحفيز الاقتصادي، ولاسيما في الولايات المتحدة الأمريكية ومن بعدها منطقة اليورو. وهذا الإنفاق يدفع بشكل مباشر نحو زيادة مستويات الدخول للعاملين بالقطاعات التي تدعمها الحكومات، كالقطاعات الصحية، والمشروعات المرتبطة بسلاسل الإمدادات، أو تقديم مزيد من الإعانات ضد البطالة في العديد من الدول، وهو ما يمثل زيادة في الدخل لا تقابله زيادة في الإنتاج، بما يعني ضغوطاً تضخمية صافية.
أزمة محتملة:
لا يتوقع أن تتوقف الضغوط التضخمية العالمية عند مستواها الحالي، في ظل استمرار جميع الأسباب المؤدية إليها سابقة الذكر، بجانب إضافة أسباب جديدة لها، يمكن أن تدفع نحو أزمة تضخم عالمية غير مسبوقة. ويأتي على رأس الأسباب الجديدة ما تعيشه خدمات النقل والشحن البحري من ارتفاعات غير مسبوقة في الكلفة في الوقت الراهن. وقد أظهرت بيانات وكالة بلومبيرج مؤخراً أن هذه التكلفة تزيد الآن بنحو 537% عن متوسطاتها في السنوات الخمس الماضية. وفي ظل أن 80% من التجارة السلعية العالمية يتم نقلها بحراً، فإن ذلك الارتفاع في التكاليف سيجلب معه زيادات جديدة ومتسارعة في أسعار جميع السلع.
بجانب ذلك، فإن الفترة الأخيرة شهدت ارتفاعات كبيرة في تكلفة الغذاء عالمياً، وبوتيرة هى الأسرع منذ 10 أعوام، وفق ما حذرت منه منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة، وهو ما يثير المخاوف من حدوث تضخم تُعطِل فيه تكلفة الغذاء العالية تعافي الاقتصاد العالمي. وقد أظهر المؤشر الذي تصدره المنظمة، أن أسعار الغذاء العالمية سجلت ارتفاعاً بنسبة 39.7% في مايو الماضي، كأكبر ارتفاع شهري لها منذ أكتوبر 2010.
وبينما عزت المنظمة زيادة تكلفة الأغذية إلى تجدد الطلب في عدد من الدول، في وقت تتعطل فيه طاقات الإنتاج في دول أخرى، بجانب تقييد حركة التنقل، بسبب الجائحة، فإن اضطراب أسواق الغذاء العالمية وارتفاع الأسعار بها على هذا النحو يمثل متغيراً جديداً يضاف للضغوط التضخمية العالمية، التي قد تتحول إلى أزمة مالية عالمية جديدة.
وفي الختام، لابد من التأكيد على أهمية قيام الدول والحكومات بالبحث عن سبل غير تقليدية في التعامل مع تلك الأزمات، وأن تستبق الأمور للحيلولة دون تحول المقدمات الراهنة إلى موجة تضخم عالمية منقطعة النظير، قد تدفع الاقتصاد العالمي إلى أزمة مالية ونقدية تفوق في آثارها ما عاشه العالم، سواءً في ظل الأزمة المالية العالمية عامى 2008 و2009، أو الأزمة الناتجة عن جائحة كورونا.