مر الاقتصاد التركي خلال السنوات القليلة الماضية بحالة عدم استقرار شديدة، تمثلت ملامحها في عدم استقرار النمو الاقتصادي الكلي، وعدم استقرار الأوضاع المالية والنقدية، وهو ما بدا واضحاً في صورة اضطراب شديد في سعر صرف الليرة، والذي أفضى إلى تراجع قيمتها إلى مستويات غير مسبوقة. وقد انعكست هذه الظروف على مختلف جوانب الحياة في تركيا، كما أنها تجلت خلال الفترة الماضية في صورة ارتفاع غير مسبوق في القروض المتعثرة في القطاع المصرفي، كصورة جديدة تضاف إلى صورة التأزم التي يعيشها القطاع الاقتصادي.
ويمثل تفاقم الديون المتعثرة أزمة بالنسبة للقطاع المصرفي، وبرغم أنه يأتي كانعكاس للمعطيات الاقتصادية السلبية في البلاد، لكنه قد يمثل سبباً لأزمة جديدة ربما يشهدها الاقتصاد خلال الفترة المقبلة، لاسيما لدى حدوث حالات تخلف عن سداد الديون بالقطاع المصرفي في البلاد بمعدلات كبيرة.
ارتفاع ملحوظ:
أظهر تقرير حديث للبنك المركزي التركي ارتفاع قيمة القروض البنكية المتعثرة في القطاع المصرفي في البلاد إلى 570 مليار ليرة، وبما يعادل نحو 67 مليار دولار، بنهاية الربع الأول من عام 2021. وقد رد البنك المركزي ما نسبته 46% من الارتفاع في القروض البنكية المتعثرة في البلاد في الأساس إلى التغير الذي طرأ على أسعار العملات الأجنبية أمام الليرة منذ مارس 2020، لاسيما وأن العملات الأجنبية تشكل أكثر من نصف تلك القروض، وبنسبة تبلغ 54.8% منها.
ويمثل الارتفاع في قيمة القروض المتعثرة اتجاهاً عاماً يعيشه القطاع المصرفي في تركيا منذ فترة، لاسيما وأن البيانات أظهرت أنه خلال الفترة بين شهرى يناير وأغسطس من عام 2020، اتخذت البنوك العاملة في تركيا إجراءات حجز على أصول تابعة لنحو 580 ألف عميل بسبب تخلفهم عن سداد ديون مستحقة عليهم، بواقع 302 ألف عميل، تخلفوا عن سداد قروض استهلاكية، و278 ألفاً تخلفوا عن سداد قروض بطاقات الائتمان الخاصة بهم.
سبب رئيسي:
يعتبر التراجع المتواصل في الليرة هو السبب الرئيسي لمعظم الأزمات التي تمر بها تركيا في الوقت الراهن، بما في ذلك أزمة القروض المتعثرة، لاسيما وأن تراجع قيمة العملة ما هو إلا تراجع صافي في الدخل الحقيقي للأتراك، وهو ما يعني أنهم باتوا مطالبين بدفع المزيد من الأموال للمحافظة على المستوى المعيشي نفسه، كما أن هذا التطور من شأنه تقليص قدرة الأتراك على الوفاء بالتزاماتهم المالية، سواءً تعلق الأمر بتأمين احتياجاتهم الضرورية أو ارتبط بالوفاء بأقساط الديون المستحقة عليهم.
وفي هذا الإطار، تراجعت قيمة الليرة بنحو 30% في عام 2020، كما أنها عانت من حالة من التذبذب الشديد، ما دفع وكالة بلومبيرغ إلى تصنيفها كـصاحبة ثاني أسوأ العملات أداءً في الأسواق الناشئة، بعد الريال البرازيلي، في معظم فترات عام 2020، وبالتأكيد فقد ساهم ذلك في تخلف ما يزيد عن نصف مليون تركي عن سداد ديونهم البنكية خلال العام الماضي.
واستمراراً للاتجاه نفسه، فقد واصلت الليرة تراجعها خلال عام 2021، ما أفقدها مجدداً نحو 17% من قيمتها منذ بداية العام، حيث تراجع سعر صرفها من نحو 7.34 ليرة للدولار في بداية العام إلى 8.58 ليرة للدولار بنهاية شهر مايو 2021، مسجلة بذلك أدنى مستوى لها على الإطلاق، كمؤشر على مستوى الضغوط التي يعانيها الاقتصاد. ولعل التراجع في قيمة الليرة منذ بداية العام، كان له دور كبير في تفاقم أزمة الديون المتعثرة في البلاد، وبلوغها نحو 67 مليار دولار، ولتصل بدورها لأعلى مستوى.
مستقبل صعب:
يمثل استمرار الاتجاه القائم أرضية خصبة لتفاقم الأزمات التي يعيشها الاقتصاد، وخاصة فيما يتعلق بالجوانب النقدية؛ فاستمرار التراجع الحالي في قيمة الليرة بنفس المعدلات القائمة خلال الفترة المقبلة، من شأنه أن يتسبب في المزيد من الارتفاع في تكاليف المعيشة في البلاد.
ومع الأخذ في الاعتبار أن تراجع قيمة الليرة تسبب في ارتفاع تكاليف المعيشة في تركيا بما يوازي 82.1% منذ عام 2011، حتى الآن، وأن الأتراك يضطرون حالياً لدفع ما يوازي 5.5 أمثال ما كانوا يدفعونه في ذلك العام، لكى يتمكنوا من تأمين نفس احتياجاتهم من السلع والخدمات، فإن ذلك يعني أن استمرار تراجع الليرة خلال الفترة المقبلة سيعني المزيد من الارتفاع في تكاليف المعيشة في البلاد، وأن الأتراك سيكونون مطالبين بدفع المزيد من الأموال للمحافظة على المستوى المعيشي نفسه.
مهمة معقدة:
لا تمتلك الحكومة، على ما يبدو، الكثير من الخيارات للتعامل مع الأزمة الراهنة، وهو ما يبدو من خلال عدم جدوى ما قامت به خلال الفترة الماضية، من إجراءات للدفاع عن قيمة العملة باستخدام احتياطي النقد الأجنبي، الذي توسع البنك المركزي في السحب منه، وتم استهلالك نحو 115 مليار دولار منه منذ بداية عام 2020، لتصل قيمته إلى 89.3 مليار دولار، مقارنة بأكثر من 200 مليار دولار في نهاية عام 2019.
كما شهدت الفترة الماضية العديد من التغييرات في الهيكل الإداري بالسلطات النقدية، بما في ذلك تغيير محافظ البنك المركزي عدة مرات، وتدخل الرئيس رجب طيب أردوغان في السياسات النقدية، ودفعه البنك المركزي لتبني سياسات نقدية بعينها، من أجل تحفيز النمو الاقتصادي، ودعم الاقتصاد في مواجهة التحديات الاقتصادية الناتجة عن جائحة كورونا، وبرغم ذلك فلم يُظهِر الاقتصاد بعد أى مظاهر للتعافي من الأزمات التي ظل يعانيها على مدار سنوات، بل إنه مرشح للمزيد من الأزمات.
وقد تمثل أزمة القروض المتعثرة في القطاع المصرفي، بوصولها إلى المستوى الحالي، مقدمة لمنحى جديد لتطور الأزمة الاقتصادية في البلاد، حيث قد تشهد الفترة المقبلة ارتفاعاً في وتيرة التخلف عن سداد القروض المستحقة في القطاع، وهو الأمر الذي لن ينعكس فقط على الأوضاع المعيشية في البلاد، ولكنه سيؤثر أيضاً على ملاءة القطاع المصرفي، ويدفع البنوك العاملة في البلاد إلى وضع مالي ضعيف، وقد يتسبب في إفلاس نسبة غير قليلة من هذه البنوك، على نحو سيدفع إلى خفض التصنيف الائتماني لها، وللاقتصاد بشكل عام، بما يزيد من تعقيد مهمة الحكومة لإخراج الاقتصاد من أزمته.