أخبار المركز
  • د. أمل عبدالله الهدابي تكتب: (اليوم الوطني الـ53 للإمارات.. الانطلاق للمستقبل بقوة الاتحاد)
  • معالي نبيل فهمي يكتب: (التحرك العربي ضد الفوضى في المنطقة.. ما العمل؟)
  • هالة الحفناوي تكتب: (ما مستقبل البشر في عالم ما بعد الإنسانية؟)
  • مركز المستقبل يصدر ثلاث دراسات حول مستقبل الإعلام في عصر الذكاء الاصطناعي
  • حلقة نقاشية لمركز المستقبل عن (اقتصاد العملات الإلكترونية)

ما وراء استدعاء هنري كيسنجر؟!

17 يونيو، 2020


كان لي مع هنري كيسنجر قصة طالب في شتاء عام 1982 على وشك الانتهاء من رسالته للدكتوراه عن «الولايات المتحدة وأزمة حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973». كان الرجل هو الشخصية المركزية في القيادة الأميركية أثناء الأزمة؛ حيث كان الرئيس ريتشارد نيكسون مشغولاً بفضيحة «ووترغيت». وبطبيعة الجد اللازم في هذه الدراسات تتبعت صاحبنا في كتاباته الشهيرة، وما أورده في كتاب مذكراته الأول «سنوات البيت الأبيض». كان على الطالب أن يقوم بواجب المتابعة لما نشر، والاستعانة بقانون حرية المعلومات للحصول على ما لم ينشر. ومع بداية عام 1982 نشرت مجلة «التايم» بعضاً من مقتطفات مذكرات كيسنجر التالية «سنوات القلاقل» التي كان لأزمة الشرق الأوسط فيها مكان مركزي. ولما كنت متعجلاً للانتهاء من الدراسة والعودة إلى مصر، فقد أرسلت إلى مكتب كيسنجر أطلب نسخة من الكتاب، فجاءني الرد بأن الكتاب في المطبعة، وسوف أحصل على نسخة بمجرد إنتاج الطبعة الأولى. وهو ما كان، وجاءني الكتاب مجانياً، لكي يلقي الضوء على نقاط كانت لا تزال غامضة، وموضع خلاف في التقدير بيني وبين الأستاذ المشرف على الرسالة. 

ورغم أن الكتاب زاد الخلاف، فإنه كما هي العادة في مثل هذه الأمور انتهينا إلى صياغات مرضية. ولكن كيسنجر ذاته كشخصية محورية في التاريخ السياسي والدبلوماسي والفكري الأميركي تظل مؤثرة، سواء لدى الطلاب الذين تتلمذوا على يده في جامعة «هارفارد» أو تتلمذوا على كتاباته وأفكاره الغنية في العلاقات الدولية. ورغم أن عمر هنري كيسنجر الآن 96 عاماً، فإنه يظل أكثر من ينتظرهم الأميركيون لإبداء الرأي في لحظات الأزمات الحرجة، والمنعطفات التاريخية التي تنظر فيها الولايات المتحدة إلى العالم، وتحاول رسم موقعها فيه.

الاستدعاء لكيسنجر لم يأتِ إليه مباشرة، ولكنه كان استدعاء للمدرسة الواقعية في العلاقات الدولية، والذي بدأ حتى قبل أزمة «كورونا» عندما بدأ العالم غراهام أليسون في جامعة «هارفارد» يتحدث عما سماه «مأزق ثيوسيديدس» الذي أرَّخ لحرب «البلوبينيز» بين أثينا وإسبرطة، والذي أقرَّ بأنَّ سبب الحرب كان ارتفاع قوة أثينا، مما سبب خللاً في التوازن كان على إسبرطة أن تسعى لتصحيحه بالقتال. توازن القوى هذا ظلَّ جزءاً مهمًّا من مدرسة «السياسة الواقعية» التي بُعثت مرة أخرى خلال الحرب العالمية الثانية. وخلال أزمة «كورونا» الراهنة، تم استدعاء ميكيافيللي أيضاً وكتاباته الواقعية في السياسة. 

ولم تكن هناك صدفة عندما نشر باري جوين مقالاً في «نيويورك تايمز» في 9 مايو (أيار) المنصرم عن «الكتاب الذي شكَّل السياسة الخارجية لجيل لديه كثير ليقوله»، وكان المقصود به كتاب «السياسة بين الأمم» لرائد المدرسة الحديث هانز مورجانثاو، في عام 1948. «وهو كتاب يتحمل العودة إليه اليوم للحصول على الدروس التي يقدمها لأميركا المعاصرة، وهي تكافح مرة أخرى لتوضيح موقفها تجاه عالم متقلب». 

وفي الأول من يونيو (حزيران)، نشر مايكل هيرش مقالاً في دورية السياسة الخارجية وحسب قوله: «إنَّ مدرسة المحافظين الجدد قد ماتت، والليبرالية الدولية فقدت مصداقيتها، وربما حان الوقت لكي نعود إلى أفكار الواقعي العظيم في القرن الماضي». 

ضمن هذا الإطار، فإن ما قدمه كيسنجر لفكرة توازن القوى كان محورياً، من حيث تجاوز «التوازن العسكري» إلى تحقيق الاتزان أو «Equilibrium» وهو عملية معقدة؛ خصوصاً إذا ما كان التوازن نووياً يتضمن تحقيق مصالح الدولة، دون الدخول إلى حرب من خلال عملية للردع الدقيق. 

كيسنجر وصل إلى أفكاره - كما هي العادة في هذه المدرسة - من خلال الغوص الدقيق في التاريخ الذي بدأه في رسالته للدكتوراه عن الحروب النابليونية ونتائجها في القرن التاسع عشر، ونشرها في كتابه «استعادة العالم» الذي رأى فيه أن بريطانيا نجحت من خلال الدبلوماسية والسياسة في الحفاظ على السلام الأوروبي، من 1815 حينما هزم نابليون بونابرت وحتى 1914 عندما نشبت الحرب العالمية الأولى.

لا توجد نية هنا لشرح مدرسة القوة أو السياسة الواقعية وتفريعاتها المختلفة، فالمجال ليس أكاديمياً هنا، وإنما هو التعامل الواقعي مع أزمة «كورونا» وما كشفته في السياسة العالمية من بروز قوة الصين من ناحية، ومن ناحية أخرى تركيبة العالم في ظل العولمة والسلاسل الإنتاجية، وما وضح خلال الأزمة من القفزات التكنولوجية، والتراجع النسبي في القوة الأميركية. 

والحقيقة أن ما كشفته الأزمة كان أكثر من ذلك، ولكن الحالة الأميركية النشطة في مجال التفكير الاستراتيجي من خلال مراكز الفكر والتفكير العديدة، كان عليها التعبير عن الكيفية التي تواجه بها الولايات المتحدة مأزقها الحالي. بالطبع كان هناك من أخذوا المسألة كلها على عاتق الرئيس الحالي دونالد ترمب الذي أخذ البلاد بعيداً عن حلفاء أميركا التقليديين؛ وبينما بدا عدوانياً مع الصين فإنه كان مهادناً مع روسيا، حتى طلب دعوتها إلى عضوية مجموعة الدول السبع. ولكن منهجه في السياسة الخارجية قام على نوع من «الكمون» أو «التخندق» بعيداً عن مشكلات عالمية لا يوجد لها حل، لا في الشرق الأوسط ولا أوروبا. وكان هناك الاتجاه المثالي الذي ركز على أهمية التعاون الدولي في مواجهة الأزمة، من خلال الدبلوماسية متعددة الأطراف، ما دام الخطر يهدد البشرية جمعاء؛ خصوصاً أن هناك قضايا أخرى تهدد الأمن الجماعي الدولي، مثل الاحتباس الحراري للكرة الأرضية. 

المنهج الواقعي الذي بدأ من ثيوسيديدس إلى كيسنجر، طرح - من خلال كتابات غراهام أليسون - الحاجة إلى نوع من الدبلوماسية العالمية، لتوزيع مناطق النفوذ بين الولايات المتحدة والصين أساساً، مع أنصبة لأوروبا وروسيا. 

بالطبع، وكما هي العادة، فإن هناك من يحاول العبور بين المدارس المختلفة، ومن أبرزهم كان جوزيف ناي الذي رأى منذ عام 1977 في كتابه عن القوة والاعتماد المتبادل، كيف أن هذا الأخير إذا ما وصل إلى حد بعيد في العلاقات فإنه يمنع الحرب ويجعلها مستحيلة، كما هو الحال في العلاقات الكندية الأميركية، والألمانية الفرنسية، بعد قيام الاتحاد الأوروبي. ولكن الاعتماد المتبادل لا يمنع في حد ذاته أن العلاقات داخله يحكمها توازن القوة الداخلي فيها، وهو توازن لا يقوم فقط على القوة الصلبة العسكرية والاقتصادية، وإنما أيضاً على القوة الناعمة التي لأميركا باع كبير فيها، بدءاً من اللغة الإنجليزية إلى الفنون المختلفة، وحتى قوائم الطعام المتنوعة التي برعت فيها أميركا في تجهيز طعام العالم كله، بمناطقه وأذواقه المختلفة.

لم يكن استدعاء كيسنجر في الحقيقة استدعاءً لشخصه، بقدر ما كان استدعاءً للفكر لكي يعمل في لحظة حرجة من تاريخ العالم. كيسنجر نفسه كتب مقالاً لم يزد كثيراً عن الدعوة للتعاون الدولي، في منطق قريب من منطق جوزيف ناي. ولكن ربما بقيت العقدة أن العبور بين مستويات التحليل المختلفة؛ حيث العولمة والقوة والاعتماد المتبادل والتهديدات الكبيرة في الكوكب، تتقاطع، وربما تحتاج تفكيراً جديداً يلائم العصر والزمن والتكنولوجيا.

*نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط