تواجه أحزاب السلطة أو ائتلافات الحكم في منطقة الشرق الأوسط حزمة من المشكلات، التي تؤثر على أداءها في كثير من الأحيان، وهو ما عكسته صراعات السيطرة داخل السلطة الانتقالية بالسودان، وتباين رؤى الأجنحة الحوثية بشأن القضايا الداخلية اليمنية مثل التضييق على أتباع الطائفة البهائية وسجنهم ومصادرة أموالهم ونهب ممتلكاتهم، واختلاف الكتل الائتلافية بشأن التدابير الاستثنائية في فترات الأزمات الطارئة، وانحياز بعض أحزاب الحكم مثل حركة النهضة في تونس لسياسة المحاور الإقليمية والتي تضم حكومة الوفاق الليبية وتركيا وقطر، وتغير السياقات الداخلية وأولوية العلاقات الخارجية لدى الأطراف المتحالفة، وهو ما تعكسه بوادر التصدع بين التيار الوطني الحر وحزب الله في لبنان.
ويمكن تناول أبرز تلك المشكلات التي تواجه تجارب أحزاب أو ائتلافات الحكم في السودان واليمن ولبنان وتركيا، خلال النصف الأول من عام 2020، على النحو التالي:
صراع النفوذ
1- صراعات السيطرة داخل السلطة الانتقالية: وهو ما تشير إليه بوادر تصدع داخل التحالف السوداني الحاكم القائم بين المجلس العسكري وفصائل قوى إعلان الحرية والتغيير (الحاضنة السياسية للحكومة الانتقالية)، الأمر الذي كشفت عنه شكوى نائب رئيس مجلس السيادة محمد حمدان دقلو "حميدتي" في مقابلة مع قناة "سودانية 24" في 24 مايو الماضي، من مؤامرات تحاك ضده من أطراف داخل السلطة الانتقالية، وتعمل صراحة على "شيطنة" قوات الدعم السريع بقيادته لإخراجها من الخرطوم ومن المعادلة السياسية.
وقد أشار حميدتي بوضوح إلى وقوف حزب المؤتمر الوطني المنحل وأحزاب محسوبة على قوى الحرية والتغيير الشريكة المدنية في السلطة الانتقالية خلف تلك الاتهامات، إذ كشف عن تصدي قواته لمخطط كانت تقوده تشكيلات خارج القوات الأمنية لفض الاعتصام أمام القيادة العامة للجيش بالدبابات العسكرية في 11 إبريل 2019، الذي راح ضحيته مئات القتلى والجرحى. وفي حال ظهور نتائج التحقيق بتحميل جزء من المكون العسكري المسئولية عن الأحداث قد يقود ذلك جناح من العسكريين إلى الانقلاب عن الحكم للحماية الذاتية من المحاكمات.
ولعل تلك التصريحات أو بالأحرى الاتهامات المباشرة التي وجهها حميدتي لأطراف ضمن السلطة الانتقالية تكشف عن دلالة رئيسية مفادها أن هناك تصدعاً داخل الائتلاف الحاكم بين العسكريين والمدنيين في السودان، وهو ما قد يمثل بداية مرحلة جديدة داخل القوى المكونة للسلطة الانتقالية، حيث يسعى كل طرف لتكوين تحالفات خاصة به والاستقواء بها في مواجهة القوى الأخرى، لاسيما مع الاقتراب من إعلان نتائج التحقيق في الأحداث.
وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى الانتقادات الحادة التي يوجهها حزب المؤتمر السوداني لمؤسسات السلطة الانتقالية (مجلسى السيادة والوزراء)، حيث قال رئيس الحزب عمر الدقير، في 26 مايو الماضي، أن "إنجازات السلطة الانتقالية خلال الفترة الماضية متواضعة ودون الطموح، إن لم تكن أقرب إلى الخذلان"، مشدداً على ضرورة الإسراع بـ"تقويمها لتجاوز الأخطاء والضعف في السياسات والأشخاص".
وأضاف: "لابد من تقوية المكون المدني في مجلسى السيادة والوزراء، ولو استدعى ذلك تغيير الأشخاص في المجلسين"، لافتاً إلى أن الإشكاليات في مؤسسات السلطة الانتقالية أدت إلى "قصور وبطء في الأداء لابد من تجاوزه". كما أشار إلى "وجود أزمة حقيقية داخل قوى التغيير، أدت إلى تفرقهم في خنادق، ولم يعد هناك خندق واحد للثورة"، ولعل ذلك يفسر تجميد حزب الأمة القومي، الذي يتزعمه الصادق المهدي، نشاطه في هياكل التحالف.
خلاف الأجنحة
2- تباين رؤى الأجنحة بشأن القضايا الداخلية: وكان آخرها عدم الاتفاق بين قيادات ميليشيا الحوثي المتمردة بشأن إطلاق سراح زعيم الطائفة البهائية حامد حيدرة المعتقل في سجون الميليشيا مع عدد من أتباعه. فعلى الرغم من أن محكمة الاستئناف الخاضعة للميليشيا في صنعاء والمختصة بقضايا أمن الدولة والإرهاب، أيدت إطلاق سراح حيدرة، إلا أنها تراجعت عن هذا القرار في منتصف مايو الماضي، حيث أمر زعيم الميليشيا عبدالملك الحوثي بإلغاء قرار مدير مكتبه السابق مهدي المشاط المعين رئيساً لمجلس حكم الانقلاب بشأن العفو عن البهائيين وإلغاء حكم الإعدام بحق زعيمهم حامد حيدرة ومصادرة أمواله.
وهنا تجدر الإشارة إلى أنه لا يوجد تفسير بعينه للدوافع التي قادت إلى إلغاء القرار، وإن كانت بعض التحليلات ترجح محاولة جناح داخل ميليشيا الحوثي المساومة بورقة البهائيين في الأوساط الحقوقية الدولية لتحقيق مكاسب سياسية تتعلق بتحسين صورة "الميليشيا المسلحة" التي اغتصبت سلطة شرعية. ولعل ذلك ما يفسر توجيه المشاط بـ"تشكيل لجنة للنظر في أوضاع السجناء والعمل على وضع وترتيب خطة الإفراج عن كافة المعسرين وجميع سجناء الرأى ما لم يكونوا محكومين أو موقوفين على ذمة قضايا جنائية".
وقد رحبت الجامعة البهائية العالمية بذلك التوجه الحوثي الداعي لإطلاق سراح البهائيين الذين سجنوا ظلماً في صنعاء لعدة سنوات، وأشارت الجامعة إلى وجوب أن يؤدي القرار الحوثي إلى "رفع الاتهامات الصادرة ضد مجموعة لا تزيد على 20 بهائياً، وإعادة جميع الممتلكات والأموال العائدة للبهائيين، ورفع الحظر عن مؤسساتهم والسماح لهم، شأنهم شأن سائر المواطنين اليمنيين، بممارسة معتقداتهم الدينية بحرية".
انخراط إقليمي
3- اختلاف الكتل الائتلافية بشأن التدابير الاستثنائية: خاصة في فترات الأزمات الطارئة، حيث تنحاز بعض أحزاب الحكم لسياسة المحاور الإقليمية، وهو ما تعبر عنه حركة النهضة في تونس في خلافها مع القوى الشريكة في الحكم (حركة الشعب والتيار الديمقراطي). ففي 26 مارس الماضي، احتدمت أزمة داخل مجلس نواب الشعب التونسي؛ على خلفية "التدابير الاستثنائية" التي ينبغي اتخاذها للتعاطي مع تفشي "فيروس" كورونا في البلاد، حيث ظهر تنازع للصلاحيات بين البرلمان ورئاسة الحكومة.
وأدى طرح القانون الذي سُمى قانون التفويض أو "التدابير الخاصة" لمواجهة أزمة "كورونا"، الذي تقدم به رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ، لمعركة بين كتل الائتلاف الحاكم؛ بشأن من سيتولى إصدار المراسيم في الحالة الاستثنائية التي تمر بها البلاد، حيث دعا بعض النواب لتفعيل الفصل 70 من الدستور، وتلبية طلب الفخفاخ، فيما طالب آخرون بترك البرلمان في حالة انعقاد دائمة؛ وهو ما دفع إليه راشد الغنوشي.
وقد رُجِحت وجهة النظر الثانية، وهو ما أثار نواب الكتل الشريكة في الحكم مثل النائبة عن الكتلة الديمقراطية سامية عبو، إذ رفضت مقترح إقرار تدابير استثنائية يدعمه الغنوشي، ويمنح للبرلمان إمكانية مواصلة العمل عن بعد، خلال الفترة القادمة. وقامت عبو بتمزيق وثيقة التدابير الاستثنائية، وقالت أن "المقترح يهدف إلى سحب البساط من رئيس الحكومة، فيما يتعلق بطلبه تفعيل الفصل 70 من الدستور"، معتبرة أن "بعض الأطراف داخل البرلمان يلهثون وراء السلطة"، بحسب وصفها، في إشارة إلى رئيس البرلمان راشد الغنوشي. كما أعلن النائب عن الكتلة الديمقراطية عدنان الحاجي عن استقالته من الكتلة، على خلفية هذا الجدل؛ ما كان ينبئ بانقسامات بين كتل الائتلاف الحاكم، وخلافات حتى داخل الكتل.
وينصّ الفصل 70 من الدستور التونسي، في فقرته الثانية، على أنه "يمكن لمجلس نواب الشعب بثلاثة أخماس أعضائه، أن يفوّض بقانون لمدة محدودة لا تتجاوز الشهرين ولغرض معين، إلى رئيس الحكومة، إصدار مراسيم تدخل في مجال القانون، تُعرض حال انقضاء المدة المذكورة على مصادقة المجلس".
ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد، بل حدثت تراكمات سياسية خلال الشهرين الماضيين، إذ تظاهر المئات من التونسيين في 3 يونيو الجاري أمام مجلس نواب الشعب التونسي للمطالبة بسحب الثقة من راشد الغنوشي بعد تجاوز صلاحياته واصطفافه إلى جانب المحور التركي- القطري تجاه الصراع في ليبيا، حيث طالبوا بتنحيته من منصبه ونددوا بما اعتبروه تجاوزاً لمهامه وصلاحياته، مؤكدين أن سحب الثقة من الغنوشي واجب وطني بحسب شعاراتهم.
وتزامنت تلك التظاهرة مع جلسة المساءلة التي دعا إليها الحزب الدستوري الحر ورئيسته عبير موسى التي أكدت تمسكها بصياغة لائحة كتلتها التي تنص على رفض أى تدخل في ليبيا، وأشارت إلى أن كتلتها استندت لقرارى البرلمان العربي والبرلمان الإفريقي اللذين ينصان على رفض التدخل التركي-القطري في ليبيا وتونس وافقت على ذلك.
كما تصاعدت الخلافات بين حركة النهضة وحركة الشعب، مما ينذر بتصدع التحالف الحكومي، حيث قال النائب عن حركة الشعب بدر الدين القمودي في تصريحات لموقع "العربية نت" في 20 مايو الماضي: "إن حركة النهضة لا تعمل اليوم لصالح حكومة الفخفاخ، وتسعى فقط للتشويش على عملها من أجل إفشالها وإسقاطها"، مشيراً إلى "وجود تناقض في موقع حركة النهضة بين الحكومة والبرلمان وازدواجية في مواقفها من خلال تشكيلها تحالفاً آخر مع المعارضة في البرلمان (حزب قلب تونس وكتلة ائتلاف الكرامة) رغم أنها موجودة في التحالف الحكومي".
وتطرق القمودي إلى خلافات النهضة مع الرئيس قيس سعيد، ومعركتها المفتعلة ضد اتحاد الشغل، إضافة إلى إعلان انخراطها في الأزمة الليبية من خلال الاصطفاف وراء محور الإسلام السياسي ودعمه وكذلك محاولتها تمرير اتفاقيتين مع تركيا وقطر تمسان السيادة الوطنية وتضربان الاقتصاد الوطني لتونس، مؤكداً أن "كل هذه العوامل أدت إلى توتر العلاقة بين حركة النهضة وحركة الشعب، ونشوب خلافات داخل الائتلاف الحكومي، إذ أن النهضة تحاول تصدير أزمتها الداخلية بعد حل مكتبها التنفيذي لتعطيل المسار الحكومي والبحث عن عدو خارجي للالتفاف حوله، وهو ما يفسر الهجمات المتكررة والممنهجة ضد حركة الشعب لدفعها إلى الخروج من الحكومة".
قضايا متباينة
4- تغير السياقات الداخلية وأولوية العلاقات الخارجية لدى الأطراف المتحالفة: على نحو ما تعكسه بوادر التصدع بين التيار الوطني الحر وحزب الله في لبنان، على الرغم من أن للطرفين مصلحة مشتركة في الحفاظ على تحالفهما السياسي، وإن كان ذلك من زاوية إدارة الاختلاف. فالظروف التي فرضت على الطرفين التحالف في مرحلة ما بعد اغتيال رفيق الحريري بدأت تشهد تغيراً، وصارت لكل طرف مصالح مغايرة للطرف الآخر.
فعلى سبيل المثال، هناك تباعد بين حزب الله وجبران باسيل رئيس التيار الوطني الحر، الذي بدأ ترتيبات خوض معركة رئاسة الجمهورية، وهو ما فرض عليه تعزيز تفاهماته مع تيار المستقبل بزعامة سعد الحريري، غير أن الأخير رفض ذلك، ويعمل باسيل في المرحلة الحالية على دعم وتحسين علاقته برئيس مجلس النواب نبيه بري، فضلاً عن محاولته تطبيع علاقاته مع الولايات المتحدة الأمريكية التي تفرض إجراءات عقابية ضد حزب الله.
غير أن حزب الله لا يفضل الدخول في سجال معلن مع جبران باسيل، مع الوضع في الاعتبار أنه يسجل ما لديه من المآخذ على التحول الذي ينتهجه التيار الوطني الحر في ظل قيادة باسيل له، والذي أظهره أيضاً النائب في التيار الوطني محمد أسود حينما قال: "إن هناك استحالة في الجمع بين البندقية والجوع"، وسبقه زميل له في التيار ناجي حايك بالترويج لمصلحة "دعم الفيدرالية السياسية". وقد عبر الإثنان عن أطروحاتهما الخلافية على شاشة محطة "أو تي في" الناطقة باسم التيار.
سلطوية رئاسية
5- تعزيز هيمنة الرئيس على مفاصل الحزب الحاكم ومؤسسات الدولة: ويبدو ذلك جلياً في الحالة التركية، حيث يسعى الرئيس رجب طيب أردوغان للتخلص من خصومه داخل حزب العدالة والتنمية، وهو ما أدى إلى خروج رئيس الوزراء الأسبق أحمد داوود أوغلو ونائب رئيس الوزراء الأسبق علي بابا جان. ويخطط حزب العدالة والتنمية بالتعاون مع حليفه حزب الحركة القومية، لطرح تعديلات على قانونى الانتخابات والأحزاب السياسية على البرلمان خلال شهر يونيو الجاري بهدف عرقلة حزبى الديمقراطية والتقدم والمستقبل اللذين أسسهما أوغلو وبابا جان، وهو ما يصب في الحاصل الأخير في ترسيخ أقدام أردوغان في الحكم.
تحالفات هشة:
خلاصة القول، إن الائتلافات بين الأحزاب والتيارات والجماعات والأجنحة والمجالس الحاكمة، في الحالات السابق ذكرها، تعاني من هشاشة كبيرة، على نحو يضعف مناعتها أمام المشكلات الداخلية أو الأزمات الخارجية، لأن هذه التحالفات صيغت على أساس توافقات مؤقتة، وبمجرد أن تتغير الأوضاع، تختلف مصالح وتظهر طموحات مغايرة لأطراف تلك التحالفات، وتصبح الحاجة ملحة لتحالفات جديدة.