أصدر الرئيس التونسي قيس سعيد أمراً رئاسياً، في 23 أغسطس 2021، يقضي بتمديد العمل بالتدابير الاستثنائية المتخذة بمقتضى الأمر الرئاسي عدد 80 لسنة 2021، والمتعلق بتعليق اختصاصات مجلس نواب الشعب وبرفع الحصانة البرلمانية عن كل أعضائه، وذلك حتى إشعار آخر. وجاء الإعلان عن تمديد هذه الإجراءات قبل يوم واحد فقط من انتهاء الفترة الزمنية المحددة للعمل بهذه الإجراءات، والمقررة دستورياً بشهر واحد فقط.
الحاجة لمزيد من الوقت:
يمكن تفسير إقدام الرئيس قيس سعيد على تمديد العمل بالإجراءات الاستثنائية التي سبق واتخذها في 25 يوليو الماضي، من خلال مجموعة من العوامل والأسباب، ومن أهمها ما يلي:
1- الحاجة لمزيد من الوقت: يأتي على رأس قائمة الأسباب التي دفعت الرئيس التونسي، قيس سعيد، لإصدار أوامره بتمديد العمل بالإجراءات الاستثنائية حتى إشعار آخر، هو حاجته للمزيد من الوقت الكافي لترتيب أفكاره والتأني في اختيار الشخصية التي سيقوم بتكليفها من أجل تشكيل حكومة جديدة تركز على مواجهة الأزمة الاقتصادية، وما لها من تداعيات بالغة على الأوضاع الاجتماعية والمعيشية داخل المجتمع.
وبالتالي فقد رأى سعيد خطورة التسرع في إنهاء فترة الإجراءات الاستثنائية الحالية حتى يضع أسساً ومعايير، من وجهة نظره، وباستشارة معاونيه داخل مؤسسة الرئاسة قبل استئناف العمل داخل مؤسسات الدولة، خاصة البرلمان، وتشير كلمة "حتى إشعار آخر" التي تضمنها القرار الرئاسي إلى احتمال أن تمتد هذه الإجراءات لشهور حتى يتمكن الرئيس سعيد من تحقيق الأهداف التي يسعى لتحقيقها من وراء فرضها، خاصة فيما يتعلق بمواصلة التحقيقات الخاصة بقضايا الفساد المالي والإداري والسياسي.
وتتطلب هذه التحقيقات فترات زمنية أطول تتجاوز الشهر الواحد، وقد يمتد الأمر لشهور حتى يتم إثبات الاتهامات الموجهة إلى أعضاء هذه الأحزاب، هذا إلى جانب رغبة الرئيس سعيد في مواصلة تطهير مؤسسات الدولة، لاسيما الأمنية من القيادات والمسؤولين التابعين لحركة النهضة، وذلك قبل العودة للعمل الطبيعي لمؤسسات الدولة بعد انتهاء الإجراءات الاستثنائية، في محاولة منه لتحقيق نوع من الاستقرار السياسي والأمني خلال الفترة القادمة، على أن تتفرغ الحكومة القادمة، عند تشكيلها، للملفات الاقتصادية والاجتماعية.
2- إحكام السيطرة على السلطة التنفيذية: يبدو أن الرئيس التونسي قيس سعيد يريد إحكام سيطرته على السلطة التنفيذية لتمكينه من تحقيق عدة أهداف، وعلى رأسها تحقيق نتائج إيجابية في التحقيقات الخاصة بملفات الفساد المالي والإداري والسياسي، فتمديد تجميد البرلمان ورفع الحصانة عن أعضائه كافة يساعده على تتبع أعضاء البرلمان كافة المتورطين في مثل هذه القضايا، خاصة أحزاب حركة النهضة وقلب تونس، حيث لاتزال التحقيقات الخاصة بتلقيهم تمويلات خارجية أثناء الانتخابات البرلمانية الأخيرة، قائمة.
ولعل قيام الرئيس سعيد بتعيين 9 مسؤولين أمنيين كبار، بينهم سامي اليحياوي، مديراً عاماً جديداً للمخابرات، ومراد حسين مديراً عاماً للأمن العمومي، كما تم تعيين مكرم عقيد مديراً عاماً للقطب الأمني لمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، قد يساعده في إحكام سيطرته على الأجهزة الأمنية ومنع محاولات الأحزاب السياسية اختراق وزارة الداخلية، بما يمكنه من بسط سيطرته على السلطة التنفيذية خلال الفترة القادمة.
3- تضييق الخناق على النهضة: من شأن تمديد القرارات الخاصة بتجميد البرلمان ورفع الحصانة عن أعضائه كافة، أن يزيد من الخناق المفروض على حركة النهضة، الذراع السياسية للإخوان المسلمين، وحلفائهم في الداخل والخارج، خاصة أن كل ما يشغل قيادات الحركة هو العودة للمشهد السياسي مرة أخرى.
ولعل استمرار تجميد البرلمان سيزيد من حالة الارتباك التي تعانيها الحركة في ظل تصاعد الخلافات والانشقاقات داخلها. ولعل قرار أمينها العام، راشد الغنوشي، في 23 أغسطس الجاري، بحل المكتب التنفيذي للحركة وإعفاء جميع أعضائه، خير دليل على ذلك.
فقد حاول الغنوشي تصوير هذا الأمر على أنه استجابة لمطالب الأعضاء بتصحيح الأوضاع الداخلية، خاصة مناشدة 49 عضواً من أعضاء الحركة بإقالة رئيس مجلس شورى الحركة عبدالكريم الهاروني، ومطالبتهم بإجراء إصلاحات هيكلية داخل الحركة، إلا أنه من الواضح أن الغنوشي يسعى من هذه الخطوة لتعزيز مركزه في النهضة، وضمان البقاء في منصب رئيس الحركة إلى أجل غير مسمى، والالتفاف على الأصوات الداخلية التي تطالب بإقالته.
4- استمرار الدعم العربي لسعيد: تحظى إجراءات الرئيس التونسي، قيس سعيد، بدعم عربي كبير، متمثلاً في الدعم السعودي والجزائري، حيث سبقت الإعلان عن تمديد هذه الإجراءات زيارة وزير الخارجية الجزائري، رمطان لعمامرة، للمرة الثالثة خلال شهر واحد فقط لتونس والتقى الرئيس سعيد لتسليمه رسالة من نظيره الجزائري عبدالمجيد تبون للتأكيد على الدعم الجزائري للإجراءات التي يقوم بها الرئيس التونسي من أجل الحفاظ على استقرار البلاد سياسياً وأمنياً.
ومن جهة أخرى، تواصل الرياض اتصالاتها بالرئيس سعيد لتأكيد دعمها القرارات والإجراءات كافة التي يقوم بها، خاصة فيما يتعلق بتجميد عمل البرلمان لمنع حركة النهضة من الرجوع للسلطة، وذلك على خلفية التحفظات السعودية على مواقف وممارسات الإخوان المسلمين في تونس، والتأكيد السعودي على دعم الاقتصاد التونسي للخروج من أزمته الحالية، الأمر الذي يمنح الرئيس التونسي نوعاً من الشرعية الخارجية لمواصلة ما بدأه من إجراءات وقرارات تصحيحية.
5- الانشغال الدولي بتطورات أفغانستان: أدت تطورات الأوضاع السياسية الراهنة في أفغانستان إلى انشغال القوى الإقليمية والدولية عن مستجدات الأزمة السياسية داخل تونس، وبالتالي تخفيف حدة الضغوط الخارجية على الرئيس سعيد مقارنة بما كانت عليه قبل ذلك، خاصة الموقف الأمريكي الذي يصر على سرعة إعادة البرلمان للعمل، تحت زعم الحفاظ على التجربة الديمقراطية في البلاد.
كما تبدي واشنطن مخاوف من إجراءات مكافحة الفساد، خاصة المنع من السفر، وتوقيف المسؤولين السابقين ورجال الأعمال وبعض القضاة، وفرض الإقامة الجبرية، وغيرها من الإجراءات، إذ تتخوف واشنطن من أن تؤدي هذه الخطوات إلى إقصاء تيار النهضة سياسياً إذا ما تمت إدانة مسؤوليه في عدد من القضايا، والتي يأتي على رأسها، الحصول على دعم أجنبي.
مسارات محتملة:
وفقاً للمعطيات الراهنة، فإن هناك بعض الخيارات المحتملة بشأن مستقبل الأوضاع السياسية في البلاد في ظل تمديد العمل بالإجراءات الاستثنائية، وذلك كما يلي:
1- تمديد مؤقت: يرجح هذا السيناريو أن يقوم الرئيس التونسي بتمديد فترة العمل بالإجراءات الاستثنائية لمدة شهر إضافي فقط، على أن يقوم خلال هذه الفترة بتكليف أحد الشخصيات التي تحظى بثقة الرئيس، من أجل تشكيل حكومة جديدة، وذلك استجابة لمطالب الشعب والأحزاب والقوى السياسية التي تضغط عليه منذ إعلانه الأول عن هذه الإجراءات في يوليو الماضي للإسراع في وضع حد لحالة الفراغ السياسي.
2- إطالة أمد الوضع الاستثنائي: يرجح هذا السيناريو أن تمتد فترة الإجراءات الاستثنائية إلى أجل غير مسمى، وذلك استناداً إلى نص القرار الرئاسي الصادر عن الرئيس سعيد الذي لم يضع وقتاً محدداً لهذه الإجراءات، خاصة أن الأسباب التي دفعته لاتخاذ هذه الإجراءات لا تزال قائمة، وتحديداً مكافحة الفساد وتطهير مؤسسات الدولة من أنصار الحركة ومؤيديها، وهو ما يتطلب وقتاً أطول من شهر، وحتى يتحقق ذلك سيواصل رئيس الدولة إدارته للسلطة التنفيذية، بما فيها الأجهزة الأمنية، مع احتمال تكليف أحد الشخصيات لتشكيل حكومة تصريف أعمال، مع التوقع بأن تنتهي هذه الفترة بالدعوة لإجراء انتخابات برلمانية مبكرة.
وفي الختام، فإن تمديد الإجراءات الاستثنائية كان خطوة متوقعة، وإن كان استمرار الغموض حول خريطة الطريق التي يطالب الشعب التونسي الرئيس بالإفصاح عنها، في غير صالح الرئيس، حيث من المتوقع أن تزداد الضغوط الداخلية من قبل الأحزاب والقوى السياسية والاجتماعية على الرئيس سعيد خلال الفترة القادمة من أجل الإسراع نحو وضع حد لحالة الفراغ السياسي واستئناف العمل الديمقراطي وتشكيل الحكومة الجديدة، وإلا سيواجه اتهامات بتقويض الديمقراطية وتعطيل الحياة السياسية في البلاد.