تتحرك الدول العربية، ومعها دول كثيرة، لمواجهة التطرف وما ينتج عنه من إرهاب على أكثر من صعيد، فالمواجهة الأمنية والعسكرية، على سبيل المثال، حاضرة كخيار فرضته الطبيعة الشرسة للجماعات الإرهابية ضمن إدارة التوحش، غير أنه تجلّى لكل الأطراف الفاعلة أن ذلك الخيار لم يعد كافياً رغم ضرورة استمراريته، ومن هنا جاءت المعالجات الثقافية، إن جار التعبير، عبر الدراسات والأبحاث، ومحاولة وضع خطط استراتيجية للمواجهة المعرفية، تلاقت فيها خبرات بعض الأجهزة الأمنية مع تصورات وتوقعات الباحثين عبر نشاط مرجعي لمؤسسات بحثية كبرى، ومنها: مكتبة الإسكندرية، التي عقدت ما بين الثالث والخامس من يناير الجاري مؤتمراً بعنوان "صناعة التطرف.. قراءة في تدابير المواجهة الفكرية"، بمشاركة خبراء في مجالات التطرف والإرهاب وعلم الاجتماع والعلوم السياسية والإسلامية من 18 دولة عربية.
المؤتمر السابق الذكر هو الثاني، إذ سبق لمكتبة الإسكندرية أن عقدت السنة الماضية، وفي نفس التاريخ، مؤتمرا حول نفس الموضوع. وقد توسع مجال التناول بخصوص مواضيع التطرف من خلال طرح المؤتمر لثلاثة محاور رئيسية، هي: المعرفية، والثقافية ـ الدينية، والتشبيكية.
المخرجات المعرفية.. ابنة العصر
أول هذه المحاور هو المحور المعرفي، والذي انصب على دراسة اهتمام العلوم الاجتماعية بظاهرة التطرف، وتطوير مناهج البحث في الجامعات العربية لإيلاء أهمية لهذه النوعية من القضايا التي عادة ما تقع في مناطق التقاء علوم اجتماعية؛ مثل: علم السياسة، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، وغيرها، وذلك من خلال النظر في مخرجات مراكز البحوث، ونتائج الدراسات الجامعية، ووضع تصورات لتطوير المكون العلمي المعرفي في مواجهة التطرف.
وقد مثلت مسألة النظر في مخرجات مراكز البحوث مرجعيّة بدت أهم وأعمق من تلك المرجعيات الوهمية التي يستند إليها أهل التطرف، ناهيك عن زمانيتها كونها ابنة العصر، وهي بطبيعتها تلك تعدِّل من تصورات الحاضر القطري والقومي، بل وتسهم في الحاضر العالمي، بما قد يفجّر وعياً حضارياً، يستحضر ثقافة واعية مغيرة للأفكار وللأوعية التي تحملها، وللمناهج والأساليب التي يعول عليها من أجل إحداث تغيير شامل.. هنا تعمقت التجارب الوطنية العربية في مواجهة الإرهاب، على خلفية أحداث وقعت، ولاتزال، في عدد من الدول العربية، كشفت عنها أوراق بحثية شارك بها كل من: عمرو الشوبكي من مصر، وطاهر مسعود من الجزائر، ومحمود حداد من لبنان، ضمن جلسة ترأسها مصطفى الفقي، حملت عنوان" الثابت والمتغير في بنية حركات التطرف".
تلك الجلسة أثارت نقاشاً واسعاً، لأسباب عديدة، منها ما هو متعلق بالجانب التعريفي والغرق في بحور الاصطلاحات على حساب الفعل الناتج عن عملية التطرف، ومنها ما مثّل صراعاً ظاهرأً أو خفيّاً على أساس أيديولوجي انتهى دون إدراك أصحابه إلى تعميق التطرف بما كشف عن محاولات غير واعية للإقصاء وعدم الاعتراف بشرعية التنوع والاختلاف، إن على المستوى الإدراكي، أو على مستوى ردود الأفعال نتيجة عوامل اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية.
يضاف إلى هذا كله سبب آخر هو خصوصية كل دولة عربية لجهة إنتاج التطرف أو صناعته كما هو في عنوان المؤتمر، وكما شرحه مدير المكتبة إسماعيل سراج الدين، وتلك الخصوصية كشفت عن اختلاف في القراءة والدرس السوسيولوجي والموقف السياسي لفهم ظاهرة التطرف، إما دعوة للمصالحة تأسيساً على التجربة الجزائرية الماضية، أو رفضاً لها كما هو في الواقع المصري الراهن.
على نفس السياق سارت جلسة "مقاربة العلوم الاجتماعية للتطرف في العالم العربي"، والتي أدارها سامح فوزي، وشارك فيها كل من: علي الكريمي (المغرب) وعبد الغني عماد (لبنان) ونصر عارف (مصر)، وفيها طغى الطرح المعرفي المؤسس على غيره من القضايا الأخرى، وتمَّ تعميق الرؤى خاصة في الورقة المقدمة من نصر عارف، كونها عملت على تصحيح المفاهيم وتدقيق المعلومات، إضافة إلى مساءلة كل الأطراف ليس من أجل تقديم إجابات نظرية تبقى رهينة الجدل والنقاش فقط، وإنما تتحول إلى عمل جادٍ وواعٍ من أجل التغيير، الأمر الذي كرّس مسألة هامة، وهي شرعيَّة العلماء ودورهم في التغيير، وفي احتضان الظواهر على حد تعبير نصر عارف.
نحو تكامل الأدوار الأمنية والدينية
المحور الثاني هو المحور الثقافي ـ الديني، وخٌصِّص للنظر في تطور ظاهرة التطرف، ونقد الخطابات الدينية المرتبطة به، والشهادات التي يمكن الاستعانة بها في هذا المجال، وذلك عبر عدد من الأوراق قدّمها عدد من الباحثين من أجيال مختلفة، ركزت على عدد من القضايا، طرحتها جلسات: نقد خطابات التطرف، والإعلام ومواجهة التطرف، والأمن القومي، والفضاء الرقمي والتطرف، والتعليم والتطرف، والإرهاب الداخلي في أوروبا (شارك فيها سعيد شحاته مصري مقيم في بريطانيا، وافتخار مالك من بريطانيا، وفرنشسكا بيانكانا من إيطاليا)، وشهادات عن كيفية مواجهة المرأة والشباب للتطرف.
وسأكتفي هنا بالتعليق على جلسة الأمن القومي ليس فقط لأهميتها، ولكن لأنها حملت طابعاً أمنياً إن على مستوى الباحثين أو المواضيع المطروحة، أو حتى بخصوص إدارة الجلسة والنقاش، وبدت أقرب إلى محاكمة المشاركين منها إلى الإصغاء لهم والاستفادة من معلوماتهم، وقد يعود السبب إلى أن المتدخلين يصنفون ضمن أجهزة الدول العربية حيث الاستعمال المشروع وغير المشروع للعنف، ولا يعتبرهم الحاضرون قوة ناعمة لدولهم رغم إدارتهم وإشرافهم على مراكز بحثية.
وقد شارك في جلسة الأمن القومي، كل من: اللواء مختار بن نصر (تونس)، واللواء محمد إبراهيم (مصر)، واللواء أنور عشقي (السعودية)، وأدار الجلسة اللواء محمد مجاهد الزيات (مصر)، ورغم أهمية الجلسة، فإنها أخذت طابعا محليا (قطريًّا)، حيث تناول كل باحث تجربة بلاده في مواجهة الإرهاب، ورؤيتها الأمنية له، والحالة الوحيدة، التي ركزت على البعد القومي جاءت في مداخلة أنور عشقي، لكنها اختصرت في التعاون المصري ـ السعودي في هذا المجال، مما جعل الطرح أقرب للتناول الخاص بالعلاقات الثنائية.
على العموم فإن المناقشات في هذا المحور، الثقافي ـ الديني، كشفت عن ضرورة إشراك المؤسسات الأمنية والدينية في النقاش الدائر حول صناعة التطرف، على أن تتخلصان من سطوتهما على باقي المؤسسات، وتعترفان بشرعية وجودهما من خلال شرعية وجود المؤسسات الأخرى، وتَعيا دورهما وتأثيرهما المباشر على المجتمع، لتتمكنا بعد ذلك من الدخول في شراكة مع كل القوى الفاعلة والمؤسسات الرسمية والشعبية لمواجهة التطرف.
وإذا كانت المؤسسات الدينية والعسكرية قد فرضت وجودها بحكم القوة والقانون والحاجة، فإن المؤسسات الدينية لاتزال متخلفة عن ذلك، وهو ما أفقدها دورها، الذي لا يمكن أن يلغى، مهما كانت هجمة القوى الأخرى، لكن يمكن أن يأخذ عنوة من الجماعات الإرهابية كما هي الحال اليوم، لذا عليها أن تعمل على قيام شراكة عملية ومباشرة مع المؤسسات الأخرى، وذلك لأمرين، الأول: حتى لا تظل بمعزل على الفعل السياسي الذي تقوم به الدولة المدنية، وهذا يساعد على تكسير الحواجز والجدارن العازلة بين ما هو ديني وما هو مدني داخل الدولة الوطنية، والأمر الثاني، أن المؤسسات الدينية في كل الدول العربية عليها أن تتقدم الصفوف لمحاربة جماعات الغلو والتطرف والإرهاب، وإلا يصبح وجودها والعدم شيئاً واحداً، وتقدمها للصفوف، ليس اختياراً تفضيلياً، ولكنه ضرورة تتطلبها المرحلة.
الحاجة للشراكة والتشبيك والثقافة الجامعة
المحور الثالث يأخذنا بعيداً في التحليل، فإذا أردنا مواجهة التطرف يمكن القول إن هناك ثلاثة قضايا جوهرية، أولها أن الحرب ضد التطرف والإرهاب هي بالأساس حرب المؤسسات الدينية، لاسترجاع دورها الذي ضاع منها، أو تخلت عنه أو أخذ منها بالإكراه، سواء من الجماعات أو من الأنظمة الفاشلة والمستبدة.
وثانياً أنه لا يمكن لنا الانتصار على التطرف ونحن لا نعترف بدور المؤسسات الدينية، أو نريدها أن تخضع الديني للسياسي، أو تظل باختيارها أسيرة ثقافة التبرير، التي أعطت للحكام ما ليس حقهم وبذلك ضلّت وأضلّت، ومؤتمر مكتبة الإسكندرية كشف عن حاجة جميع الأطراف المعنية إلى شراكة، ومتابعة نشوء وارتقاء الجماعات الإرهابية، وأيضاً إلى تثوير الخطاب الديني، وربّما يُبشر ذلك بصياغة لوعي مشترك، قد يُرجَّح كفة الإصلاح ضمن رؤية شاملة تواصل الجهود الطيبة التي بدأت منذ عصر النهضة، الذي لم يكتمل.
وثالثها: أنه لا يمكن للمواجهة أن تثمر إيجابياً دون "التشبيك"، فهنا استعرض المؤتمر خطوات إقامة شبكة عربية للمراكز البحثية العاملة في مجالات دراسة فكر التيارات المتطرفة، ومناقشة أنشطة شاركت فيها مكتبة الإسكندرية في جامعات أكسفورد والمغرب والأردن، ومدارسة نتائج أبحاث ومؤتمرات تبنَّت سياسة المواجهة عبر العمل الأكاديمي، كما هو الأمر في البحرين والسعودية وغيرهما، وهذا يعتبر شراكة معرفيّة على أساس قومي، ليس لأننا نواجه عدواً مشتركاً في دولنا العربية فحسب، وإنما لأنّ الثقافة التي تجمعنا واحدة، وجماعات التطرف عن غير قصد منها، جمعتنا، ودفعتنا إلى الإقرار بأن الخطر واحد، على الرغم من اختلافنا البيِّن حول أساليب التصدي المتعددة والمتباينة لهذا الخطر المفجع، كما ذكرت سابقاً.
إن إقامة شبكة عربية للمراكز البحثية في مجالات دراسة فكر التيارات المتطرّفة يعدًّ خطوة وحدوية على مستوى الفكر، ولذا علينا أن نجاهر بكل حرية بنظرتنا للخروج من أزمتنا الراهنة، ويمكن لنا التنسيق مع السياسيين والأمنيين وقادة الجيوش على مستوى البحوث والمعلومات دون أن يتحوّل ذلك إلى نوع من التبعية أو الخضوع، والبداية اليوم من هذا النشاط الثقافي الذي تقوم به مكتبة الإسكندرية، وهو يتزامن مع الحروب التي تقوم بها الجيوش العربية على أكثر من صعيد.