أخبار المركز
  • د. أحمد أمل يكتب: (تهدئة مؤقتة أم ممتدة؟ فرص وتحديات نجاح اتفاق إنهاء الخلاف الصومالي الإثيوبي برعاية تركيا)
  • سعيد عكاشة يكتب: (كوابح التصعيد: هل يصمد اتفاق وقف النار بين إسرائيل ولبنان بعد رحيل الأسد؟)
  • نشوى عبد النبي تكتب: (السفن التجارية "النووية": الجهود الصينية والكورية الجنوبية لتطوير سفن حاويات صديقة للبيئة)
  • د. أيمن سمير يكتب: (بين التوحد والتفكك: المسارات المُحتملة للانتقال السوري في مرحلة ما بعد الأسد)
  • د. رشا مصطفى عوض تكتب: (صعود قياسي: التأثيرات الاقتصادية لأجندة ترامب للعملات المشفرة في آسيا)

نهج حذر:

هل تتوسع بكين على حساب واشنطن بالشرق الأوسط ؟

29 يناير، 2020


عرض: إيمان فخري - باحثة دكتوراه بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة

أصدرت الصين في عام 2015 قانونًا أمنيًّا جديدًا يكلف جيش التحرير الشعبي (PLA) بحماية المصالح الخارجية للبلاد والتي امتدت في جميع أنحاء العالم، وذلك لأن بكين "صمدت وازدادت ثراءً وأصبحت دولة قوية" وفقًا لما قاله الرئيس الصيني "شي جين بينج" في كلمته أمام المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني في عام 2017. 

وفي الوقت الذي يزداد فيه اهتمام الصين بالشرق الأوسط؛ يسعى الرئيس "دونالد ترامب" إلى تغيير أحد أهم ثوابت السياسة الأمريكية، من التركيز على "الحرب على الإرهاب" إلى التركيز على "تنافس القوى العظمى مع الصين وروسيا"، مما مثّل مؤشرًا قويًّا على رغبة واشنطن، التي تُعد القوة الدولية المهيمنة في الشرق الأوسط منذ عقود، في تبني استراتيجية للتقليل من تواجدها في المنطقة.

وفي هذا السياق، يطرح "هنريك ستيلهان هايم" و"ستيج ستينسلي" في مقالة بعنوان "الواقعية الصينية في الشرق الأوسط" نُشرت بمجلة "Survival" عدد ديسمبر ٢٠١٩ - يناير ٢٠٢٠، تساؤلًا رئيسيًّا مفاده: "هل سيزداد الوجود الصيني في الشرق الأوسط خاصة مع تضاؤل الوجود الأمريكي؟"، بمعنى آخر: هل ستنتهز الصين الفرصة لإقامة وجود عسكري مكثّف وبناء مزيدٍ من التحالفات مع دول المنطقة، مما سيؤدي في نهاية المطاف إلى أن تحل الصين محل الولايات المتحدة كالدولة الأكثر هيمنه على الشرق الأوسط؟. 

يتبنى كَاتِبَا المقال فرضية أن تقليل الولايات المتحدة لتواجدها في المنطقة سيقابله سعي بكين إلى توسيع نفوذها في المنطقة، ولكن بطريقة أقل توسعًا من الطريقة التي اتّبعتها واشنطن في السابق. ويشيران إلى أن بكين ستتبنى نهجًا سياسيًّا وأمنيًّا براجماتيًّا ستطبقه بشكل أكثر حذرًا من الولايات المتحدة أثناء توسعها في المنطقة. 

البراجماتية الصينية

لعبت الأيديولوجيا والقيم دورًا قويًّا في تشكيل توجهات السياسة الخارجية للولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية مرورًا باحتواء الاتحاد السوفيتي خلال الحرب الباردة والتدخل الإنساني في التسعينيات، وصولًا إلى الترويج العسكري للديمقراطية بعد هجمات 11 سبتمبر، وقد اتسمت سياستها في الشرق الأوسط بدعم إسرائيل.

 وفي المقابل، لا تركز الصين كثيرًا على عناصر كالثقافة أو الأيديولوجيا أو الاختلافات السياسية في علاقاتها مع الدول الأخرى، وهي على استعداد للتعامل مع أي نوع من الأنظمة والدول، طالما يخدم ذلك مصالحها. 

وقد ظلت السياسة الخارجية الصينية محكومة بمبدأ دينج شاو بينج "إخفاء قدراتك وقضاء وقتك". ولكن مع ازدياد قدرات بكين وقوتها، فقد تخلت عن هذا المبدأ، وبدأت تسعى إلى الهيمنة في آسيا والمحيط الهادي. كما تخلت الصين أيضًا عن تحفظها الدائم حول رغبتها في تشكيل النظام الدولي، حيث صرح الرئيس الصيني مؤخرًا بأن على الصين أن تقود "إصلاح نظام الحكم العالمي". 

ومع ذلك، وعلى الرغم من ولع الصين الجديد بالانضمام للمنظمات الدولية، فإنها لا تسمح لذلك بأن يعيق تحقيق مصالحها الاقتصادية أو الأمنية. وأوضح مثال على ذلك هو أنها رغم قبولها عدم الانتشار النووي، إلا أنها مستمرة في مساعدة باكستان لتعزيز ترسانتها النووية لموازنه نفوذ غريمتها التاريخية (الهند).

المصالح في الشرق الأوسط

على الرغم من أن الشرق الأوسط يعد منطقة بعيدة جغرافيًّا عن الصين، وتاريخيًّا لم تبد اهتمامًا بها؛ إلا أن القادة الصينيين أدركوا أهميتها الاستراتيجية. ويمكن استقراء ثلاثة عوامل تُحرِّك وتحكم السياسة الصينية تجاه المنطقة. يتعلق العامل الأول بأمن الطاقة، ففي عام 2017، تفوقت الصين على الولايات المتحدة كأكبر مستورد للنفط في العالم (تستورد الصين 65٪ من احتياجاتها من النفط)، وبينما يتزايد الإنتاج المحلي للولايات المتحدة من النفط فإن إنتاج بكين المحلي يتراجع، ومن المتوقع أنه بحلول عام 2030 ستزداد نسبة النفط الذي تستورده الصين إلى 80٪ من إجمالي احتياجاتها النفطية. 

ومن الجدير بالذكر أن الصين تعتمد اعتمادًا كبيرًا على واردات النفط من الشرق الأوسط، وعلى الرغم من محاولات تنويع المصادر النفطية، إلا أنه لا يزال ما يقرب من نصف واردات بكين من النفط يأتي من المنطقة. لذلك فإنها ستعاني بشكل أكبر من الولايات المتحدة إذا تم قطع إمدادات النفط في الشرق الأوسط. وبناء عليه، فإن الصين تحرص على استقرار الأوضاع في المنطقة بشكل أكبر من الولايات المتحدة، وذلك في ضوء رغبتها في الحفاظ على تدفق النفط. 

أما العامل الثاني فهو الاستثمارات الصينية الكثيفة في المنطقة، والتي تمثل دافعًا إضافيًّا للصين للحفاظ على الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط، فتتركز الاستثمارات الصينية بنسبة 80% في قطاع الطاقة، كما أن بكين لديها استثمارات ضخمة في مشروعات البنية التحتية في العراق وليبيا وإيران. 

وتضخ الشركات الصينية في الدول العربية استثمارات ضخمة في مجالات كالنقل والعقارات، كما تتعاون بكين مع إسرائيل في مجال التكنولوجيا الزراعية والصناعات التقنية والطبية. ومن المتوقع أن يزداد عدد المشروعات التي تنفذها الصين في المنطقة في ظل مبادرة "الحزام والطريق". ورغم عدم وجود إحصائيات رسمية حول عدد الصينيين في الشرق الأوسط، إلا أن المحللين يقدرون عددهم بحوالي 550 ألف صيني.

أما العامل الثالث فيتعلق بأن الشرق الأوسط كان لفترة طويلة بمثابة أداة لتشتيت الولايات المتحدة عن بسط نفوذها بشكل أكبر في آسيا والمحيط الهادي، وقد صرح Qu Xing رئيس معهد الصين للدراسات الدولية بأن استمرار المشكلات في الشرق الأوسط يخدم مصالح الصين من خلال تشتيت الولايات المتحدة عن قضية صعود قوى جديدة تنافسها في النظام الدولي.

نهج حذر

وصف "أندرو سكوبيل" و"أليريزا نادر" الصين بأنها "تنين حذر" في الشرق الأوسط، مشيرين إلى ترددها في تولي دور أمني أكبر في المنطقة. وعلى الرغم من أن بكين أصبحت أكثر استعدادًا إلى حدٍّ ما لتعزيز مكانتها في المنطقة وذلك بعد إصدار ورقة السياسة العربية عام 2016، إلا أن مقاربتها للمنطقة لا تزال حذرة للغاية. وتتألف استراتيجية الصين في الشرق الأوسط من أربعة عناصر رئيسية:

 أولًا- سعت الصين إلى تطوير والحفاظ على علاقات جيدة مع جميع دول المنطقة الرئيسية، بما في ذلك إيران وإسرائيل والسعودية وتركيا. وبخلاف الولايات المتحدة، تبدي بكين مرونه كبيرة في التعامل مع كافة الأنظمة المختلفة لدول المنطقة. وخير دليل على ذلك هو تمتع الصين بعلاقات متوازنة بين المتنافِسَيْن الرئيسِيَّيْن في المنطقة، وهما السعودية وإيران، فضلًا عن دعمها الرسمي لقيام دولة فلسطين على حدود ما قبل عام 1967، وفي الوقت ذاته تتمتع بعلاقات متميزة مع إسرائيل. 

وعلى الصعيد السوري، احتفظت بكين بدور مستتر في الأزمة، فعلى الرغم من استخدامها حق الفيتو مع روسيا لحماية نظام الأسد في مجلس الأمن، إلا أن بكين كانت لها جهود وساطة حذرة، وتجنبت الخوض في المستنقع السوري الذي امتصّ معظم اللاعبين الآخرين في الشرق الأوسط وذلك رغم وجود مقاتلين من الإيغور في سوريا، مما عزز من صورتها كممثل خارجي "محايد" في الشرق الأوسط.

ثانيًا- سعت الصين إلى تجنب تحدي المصالح الأمريكية في المنطقة، وامتنعت عمومًا عن استفزاز واشنطن، فمعارضتها للسياسات الأمريكية في الملف النووي الإيراني وحرب العراق كانت بشكل هادئ، وبدون أن يشوبها أي نبرة تحدٍّ أو استفزاز. 

ويرى الخبراء الصينيون أن انسحاب الولايات المتحدة بالكامل من المنطقة لن يخدم مصالح الصين، فالصين أصبحت " free rider"، حيث تستفيد من الأمن الذي يفرضه وجود الولايات المتحدة في المنطقة لتعزيز وجودها الاقتصادي في الشرق الأوسط.

ثالثًا- بينما تسعى الصين إلى تعزيز وجودها العسكري في الشرق الأوسط، فإنها تفعل ذلك دون الدخول بشكل مباشر في أية صراعات، بل تقوم بذلك من خلال تعزيز قوتها الداخلية، فقد عززت بكين بشكل كبير من قوتها العسكرية البحرية التي تلعب دورًا رئيسيًّا في حماية المصالح الصينية في الخارج.

ويرى الكاتبان أنه على الرغم من أن قدرة الصين على إبراز واستعراض قوتها في الشرق الأوسط لا تزال محدودة، إلا أنه من المرجح أن يتغير هذا الوضع مع تعزيز إمكانيات جيش التحرير الشعبي الصيني، وانعكس ذلك على ازدياد عمليات الجيش الصيني في المنطقة، ومنها المشاركة في جهود مكافحة القرصنة في خليج عدن وعمليات الأمم المتحدة لحفظ السلام. 

وتجلت قدرة الصين العسكرية بشكل كبير في عمليات الإجلاء التي قام بها الجيش الصيني للمواطنين الصينيين العالقين في ليبيا عام 2011. كما افتتحت بكين أول قاعدة عسكرية خارجية لها في جيبوتي في صيف عام 2017 مما سيسهل العمليات البحرية الصينية في الشرق الأوسط وإفريقيا، بالإضافة إلى زيادة قدرة الصين على جمع المعلومات الاستخباراتية.

علاوة على ذلك، فإن الصين مصدر مهم لتوريد الأسلحة في الشرق الأوسط. وعلى عكس الولايات المتحدة، يبدو أن الجيش الصيني مصمم على تجنب إقامة أي تحالفات واضحة في المنطقة حتى على صعيد تصدير الأسلحة، فبكين على استعداد لتزويد كافة الأطراف المتنازعة في المنطقة بالأسلحة، لأن المهم لدى الصين هو إقامة تحالفات متوازنة، وكذلك اختبار مدى دقة وفعالية أنظمتها الدفاعية وأسلحتها التي يتم تصديرها للمنطقة.

رابعًا- تُفضل الصين النفوذ الاقتصادي على النفوذ العسكري لتعزيز تواجدها في الشرق الأوسط، وتستغل الصين مبادرة "الحزام والطريق" لتحقيق ذلك، ففي ورقة السياسة العربية أكدت بكين أهمية التعاون في مجال الاستثمار والتجارة. وأبرزت الورقة كذلك رغبتها في تقديم المساعدات والقروض للدول العربية. وفي يوليو 2018، تعهدت الصين بتقديم 20 مليار دولار كقروض تجارية للدول العربية. 

الخلاصة أن استعداد الصين للتعامل مع كافة حكومات الشرق الأوسط، والامتناع عن محاولة نشر قيمها أو أيديولوجيتها في المنطقة؛ خير دليلٍ على ضبط النفس العملي لبكين في الشرق الأوسط، ومحاولة خلق صورة مختلفة تمامًا لها عن تلك الصورة النمطية للولايات المتحدة.

فرص استمرار البراجماتية الصينية

يجادل بعض الخبراء بأن سياسة الصين البراجماتية في الشرق الأوسط غير قابلة للاستمرار وذلك في ضوء تنامي مصالحها الجوهرية في المنطقة، ووفقًا لوجهة النظر هذه، سيكون من الصعب على بكين أن تظل على الحياد في كل الأحداث التي تموج بها المنطقة، وبالتالي سيتعين عليها أن تختار طرفًا لتسانده وذلك على حساب طرف آخر بالتأكيد، فيرى بعض الخبراء أنه مع الوقت سيتعين على الصين دعم طرف واحد في ظل تصاعد التنافس السعودي الإيراني.

ولكن يرى فريق آخر أن اتساع المشاركة الاقتصادية الصينية في الشرق الأوسط قد يعزز النفوذ الصيني في المنطقة إلى الحد الذي تكون فيه بكين قادرة على تحمل أي ضغوط للانحياز. 

وفي الوقت نفسه، من غير المرجح أن تتحدى الصين الهيمنة العسكرية الأمريكية في الشرق الأوسط في أي وقت قريب. علاوة على ذلك، فعلى الرغم من أن بكين قد تخطط لفتح قواعد عسكرية أخرى بخلاف قاعدة جيبوتي، إلا أن ذلك لن يكون كافيًا لدعم أي عمليات بحرية صينية واسعة في الشرق الأوسط، وذلك لامتلاك الولايات المتحدة شبكة قواعد ومرافق عسكرية واسعة في المنطقة.

ومن الجدير بالذكر أنه حتى لو قامت الولايات المتحدة بنقل قواعدها العسكرية خارج المنطقة، فإنه من المرجح أن يتم نشر معظم هذه القواعد في المحيط الهادي، وبالتالي ستكون واشنطن قادرة على تحجيم النفوذ البحري الصيني في منطقة المحيط الهادي وهي المنطقة التي تعتبرها بكين منطقة نفوذ حيوية بالنسبه لها.

ويؤكد الكاتبان أن الصين ليست لديها نية حقيقية لتحدي الولايات المتحدة عسكريًّا في الشرق الأوسط، حيث يفضل صانعو السياسات الصينيون أن تظل واشنطن غارقة في الشرق الأوسط بدلًا من التركيز على آسيا، كما أن الوجود العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط لا يستنزف الموارد العسكرية الأمريكية فحسب، بل يعمل على منع نشوب الصراعات الإقليمية التي قد تهدد تدفق النفط إلى الصين، خاصة في ظل التعطش المتزايد للنفط في بكين.

وختامًا، يرى الكاتبان أنه من غير المرجّح أن تقوم الصين بتغيير سياستها في الشرق الأوسط، والأرجح أنها ستظل مصممة على الحفاظ على علاقات متوازنة مع جميع اللاعبين الرئيسيين، وذلك لتنأى بنفسها عن الصراعات في المنطقة. وفي هذا السياق، من المرجّح ألا تسعى إلى تحدي الولايات المتحدة عسكريًّا، بل ستظل تعمل على تعزيز وجودها الاقتصادي، والذي سيعمل على تعزيز نفوذها الإقليمي في المنطقة.

وقد طرح الكاتبان سيناريو واحدًا لإمكانية حدوث تحولات في السياسة الصينية تجاه الشرق الأوسط وذلك حال تعرض المصالح الصينية بالمنطقة لهجوم إرهابي، مما سيدفع صانعي السياسات الصينية إلى تبني سياسة جديدة هناك، وحال حدوث هذا الهجوم من المتوقع أن تختار بكين ردًّا عسكريًّا سريعَا لا يشمل توريطها في المنطقة بشكل أكبر، وقد يشمل هذا الرد استخدام قوات العمليات الخاصة لتنفيذ بعض العمليات أو استخدام الأسلحة الدقيقة لتوجيه ضربات ضد الجماعات أو الحكومات التي تعتبر مسئولة عن الهجوم، إذ من المستبعد تمامًا قيام الصين بشن أي هجوم بري، ويُعزَى ذلك بالتأكيد لعدم رغبتها في تكرار الأخطاء الأمريكية في العراق وأفغانستان.

المصدر:

Henrik Stålhane Hiim & Stig Stenslie, China’s Realism in the Middle East, Survival, vol. 61 no. 6, December 2019–January 2020, pp. 153–166