تواجه اللجنة الدولية للصليب الأحمر في بؤر الصراعات المسلحة العربية حزمة من التحديات التي تؤثر على أداء مهامها الإغاثية. وتتمثل تلك التحديات، كما تعكسها خبراتها الميدانية، على مدى السنوات الثماني الماضية، في تعرض موظفي الإغاثة لأعمال الاختطاف والقتل على يد الميلشيات المسلحة أو التنظيمات الإرهابية، وضعف القدرة على تمييز الإرهابيين عن المواطنين العائدين من بؤر الصراعات، والذين يستحقون الحصول على الرعاية من اللجنة، والفجوة بين الاحتياجات الإنسانية والاستجابات الفعلية، والتشكيك في حيادية أعمال الإغاثة الإنسانية، وتقوية اقتصاديات الصراعات الداخلية، وظهور حالات فردية تسئ للمؤسسات الخيرية الإنسانية.
وتتعلق أنشطة اللجنة الدولية للصليب الأحمر، على نحو ما جاء في موقعها الإلكتروني على شبكة الإنترنت، بالاستجابة بشكل سريع وفعال للاحتياجات الإنسانية للأشخاص المتضررين من النزاعات المسلحة أو الكوارث الطبيعية الواقعة في منطقة نزاع، وذلك مع الأخذ في الاعتبار أن الطوارئ قد تقع على غير انتظار، وربما تتضاعف آثارها في الدول التي تمزقها الحرب. وتشير مناطق النزاع الأكثر كثافة، وخاصة في ليبيا واليمن وسوريا والعراق، إلى حزمة من التحديات التي تواجه بعثات اللجنة الدولية للصليب الأحمر، يمكن تناولها على النحو التالي:
معضلة الأمن:
1- تعرض الموظفين لأعمال الاختطاف: والتي تقوم بها الميلشيات المسلحة أو التنظيمات الإرهابية، لإجبارهم على العمل في مجال المساعدات اللوجستية والطبية، وهو ما حدث بالفعل لعدد من الموظفين في سوريا، لا سيما خلال سيطرة تنظيم "داعش" على مساحات واسعة من سوريا والعراق في الفترة (2013-2018)، وبقى مصير عدد من عمال الإغاثة والصحفيين ورجال الدين والأطباء والممرضين مجهولاً خاصة أن مقاتلي التنظيم حاولوا إخفاء ما تبقى من ذاكرة الرهائن، فضلاً عن إجراء عملية تبادل للمخطوفين بين التنظيمات الإرهابية مثل "هيئة تحرير الشام" (جبهة النصرة) و"داعش".
فقد نشرت اللجنة الدولية للصليب الأحمر نداءً عامًا، في 14 إبريل 2019، على حسابها الرسمي على الإنترنت، ناشدت فيه كل من لديه معلومات عن ثلاثة من موظفيها اختطفوا في سوريا منذ أكثر من خمس سنوات، وهم لويزا كافي مواطنة نيوزيلاندية كانت تعمل ممرضة في سوريا حتى تاريخ اختطافها، وعلاء رجب ونبيل بقدونس، وهما مواطنان سوريان كانا يعملان سائقين لدى اللجنة، وتمثلت مهمتهما في إيصال المساعدات الإنسانية إلى بعض المناطق المنكوبة في سوريا.
وأضاف بيان اللجنة: "إن لويزا كانت رهينة لدى تنظيم داعش خلال السنوات الماضية، وكانت على قيد الحياة حتى أواخر عام 2018، ولم تتمكن اللجنة الدولية من معرفة المزيد من المعلومات عن علاء ونبيل ولايزال مصيرهما مجهولاً"، وذلك على الرغم من نجاح ميلشيا "قوات سوريا الديمقراطية" المدعومة من تحالف تقوده واشنطن في السيطرة على آخر جيب لتنظيم "داعش" في مارس الماضي.
وفي هذا السياق، قال دومينيك شتيلهارت مدير عمليات اللجنة الدولية: "بعد سقوط آخر منطقة يسيطر عليها التنظيم، نخشى من تضاعف خطر فقدان أثر لويزا،.. كنا نأمل معرفة المزيد عن مكان وجودها وسلامتها"، منوهًا: "نحن نعيد إلى أذهان الجميع أن لويزا ضحية عملية اختطاف، ولأكثر من خمس سنوات أخذها خاطفوها رهينة"، وأضاف في نهاية حديثه: "إذا كان زملاؤنا لايزالوا محتجزين، فإننا ندعو إلى إطلاق سراحهم فورًا وبشكل غير مشروط".
مشكلة الفرز:
2- ضعف القدرة على تمييز الإرهابيين عن المواطنين العائدين من بؤر الصراعات: يستحق المواطنون العائدون الحصول على الرعاية من قبل اللجنة، وهو ما ينطبق على العراقيين القادمين من سوريا بعد فرارهم من آخر جيب لتنظيم "داعش"، والذين وصلوا إلى مخيم الهول في شمال شرق سوريا، بناءً على اتفاق مع بغداد. وفي هذا السياق، قال فابريزيو كاربوني المدير الإقليمي لمنطقة الشرق الأوسط في اللجنة الدولية، في 12 مارس الماضي: "يوجد عدد كبير من أصل عراقي بين من وصلوا إلى مخيم الهول. الأرقام ليست رسمية لكننا نتحدث على الأرجح عن حوالي 20 ألف شخص، بينهم نساء وأطفال".
وأضاف كاربوني: "عبرت الحكومة العراقية عن رغبتها في عودة هؤلاء، لكن من الواضح أن الوضع ينطوي على تحديات. هؤلاء الناس يعتبرون تهديدًا أمنيًا، وهذا بالتالي يعني أنه سيتعين عليهم المرور عبر عملية فحص"، وأضاف: "لا أعلم بموعد رسمي لعملية الانتقال الضخمة، لكنها على حد فهمنا، مسألة أسابيع أو شهور". وهنا، قالت اللجنة الدولية: "إن معظم هؤلاء مدنيون على الأرجح، لكن قد يكون بينهم مقاتلون"، على نحو يشير إلى أن اتباع النهج الإنساني لا يبرر تجاهل التهديدات الأمنية أو البعد السياسي لهذه الدعوة.
ويمتد هذا الخطر إلى ما يطلق عليه "أشبال الخلافة"، حيث أعلنت اللجنة أنها ترغب في السماح بعودة مئات من أطفال تنظيم "داعش" الأجانب في سوريا إلى دولهم الأصلية (ما بين 30 إلى 40 دولة) وفق ما أوردته وكالة الصحافة الفرنسية في 2 إبريل الجاري. وهنا تشير أغلب التقديرات إلى أنه يتم احتجاز حوالي عشرة آلاف امرأة وطفل أجنبي لهم علاقات مع مقاتلي "داعش" الأجانب في منطقة منفصلة عن المخيم، حيث يمثل الأطفال دون سن 12 ثلثي هذه المجموعة.
الاحتياجات الجديدة:
3- الفجوة بين الاحتياجات الإنسانية والاستجابات الفعلية: وهو ما أشار إليه رئيس اللجنة بيتر مورير، في 19 أغسطس 2018، بعد نجاح نظام الأسد في استعادة الكثير من المناطق التي كانت تحت سيطرة التنظيمات الإرهابية وقوى المعارضة المسلحة، خاصة خلال الأعوام الثلاث الماضية، حيث قال: "إن الوضع على الأرض قد تغير بعد عودة الأقاليم الكبيرة لسيطرة الحكومة وفي الوقت نفسه لم يتحسن الوضع الإنساني بالسرعة التي يتغير بها الوضع العسكري، ولم يتسن للمنظمات الإنسانية الوصول بسرعة كافية لتلبية الاحتياجات المتزايدة"، مشيرًا إلى أن "التغييرات على الأرض أدت إلى ظهور هذه الاحتياجات الجديدة".
وسبق أن حذر مورير، في 2 مايو 2018، من خطورة الوضع في سوريا الذي وصل إلى "الحافة"، قائلاً: "الأطراف الفاعلة إما أن تتفق على إنهاء الحرب، أو تنشب مواجهات مسلحة جديدة أخطر من التي حصلت في الماضي"، مضيفًا: "إن وجود دول كبرى في سوريا يجعل الوضع في هذا البلد والمنطقة مضطربًا بسبب تضارب مصالح هذه الدول".
تسييس المساعدات:
4- التشكيك في حيادية أعمال الإغاثة الإنسانية: يشير اتجاه في الأدبيات إلى أن المساعدات الإنسانية المقدمة من المنظمات غير الحكومية إلى مناطق الصراعات تمثل وجهًا للمصالح السياسية للمانحين، في حين يوجد اتجاه مقابل مفاده أنه ليس هناك تناقض في اجتماع الهدف السياسي والدافع الإنساني، إذ أن المساعدات الإغاثية عملية معقدة تتداخل فيها الاعتبارات السياسية والقيم الإنسانية.
وفي هذا السياق، تثار شكوك حول علاقة اللجنة الدولية بنظام الأسد في سوريا والتي مكنتها من التعاون مع الهلال الأحمر السوري والسماح لها بالوصول إلى المناطق التي كان يصعب الوصول إليها مثل الغوطة الشرقية، وتزويدها بخدمات الرعاية الصحية والمياه النظيفة والطعام. وهنا زعمت بعض قوى المعارضة السورية أن اللجنة تعمل على تعزيز بقاء بشار الأسد في الحكم بعد انحراف مسار المساعدات الإنسانية وتحولها إلى مصدر لدعم أحد أطراف الصراع.
وهنا، أشار بيتر مورير، في حواره مع مجلة "فورين بوليسي" في 30 مارس 2018، إلى أن "هذه المساعدات سيكون من المستحيل تسليمها دون العمل مع النظام.. ونحن ندرك أن النتيجة غير كاملة.. ولكن علينا أيضًا أن نحترم حقائق القوى الموجودة على الأرض". ولعل ذلك يتفق مع اتجاه رئيسي في الأدبيات يشير إلى أن أطراف الصراع تخشى من أن تكون المنظمات الإغاثية الإنسانية شاهد عيان على انتهاكاتها لحقوق الإنسان، وهو ما ينطبق على أطباء بلا حدود التي ترفض الصمت، في حين تلتزم به اللجنة الدولية حتى تتمكن من إيصال المساعدات.
اقتصاد موازي:
5- تقوية اقتصاديات الصراعات الداخلية: تؤدي المساعدات التي تقدمها اللجنة الدولية مع غيرها من المنظمات الإغاثية الدولية والإقليمية والمحلية، وفقًا لبعض الاتجاهات، إلى أضرار بالغة، في بعض الأحيان، بالمنتجين المحليين للسلع وخاصة الغذائية منها، على نحو يساهم في الدخول ضمن آليات اقتصاد الحرب. فهذه المنظمات تقوم بتأجير أماكن لتخزين المساعدات والوقود والسلع الاستراتيجية الرئيسية لسد العجز في الإغاثة، أو ما يطلق عليه "الكفاءة الإغاثية"، ومن ثم، تنشأ شريحة تعيش على خدمة هذه المنظمات وتسمى بـ"أثرياء الحرب" الذين تتولد لديهم مصلحة في استمرار الصراع.
تشويه السمعة:
6- ظهور حالات فردية تسئ للمؤسسات الخيرية الإنسانية: على نحو يساعد في الانحراف عن مسار عمل المنظمات الإغاثية، حيث انضمت اللجنة الدولية إلى قائمة المؤسسات الخيرية الشهيرة التي كشفت عن حالات سوء سلوك جنسي بين موظفيها. وفي هذا السياق، قال المدير العام للجنة، في تصريحات لفرانس برس في 25 فبراير 2018: "إن 21 من الموظفين استقالوا أو أقيلوا منذ عام 2015 بعد خرقهم لسياسة المنظمة عن طريق الدفع مقابل خدمات جنسية"، موضحًا أنه "بسبب الطبيعة غير المركزية للمنظمة الإغاثية مترامية الأطراف، والتي يعمل لديها أكثر من 17 ألف موظف بأرجاء العالم، من الممكن أن تكون حوادث أخرى وقعت ولم يبلغ عنها أو لم يتم التعامل معها بالشكل المناسب".
إشكاليات ضاغطة:
خلاصة القول، إن هناك تحديات عديدة تواجه عمل اللجنة الدولية للصليب الأحمر في بؤر الصراعات المسلحة العربية، منها ضعف الأمن وتعدد الأطراف المتحاربة التي تشمل القوات الحكومية والعديد من الجماعات المعارضة المسلحة وتنامي الاحتياجات الملحة في المناطق المأهولة بالسكان والتي أدى فيها الصراع إلى تعطيل الخدمات الأساسية من إمدادات طبية ومساعدات غذائية على نحو تسبب في حدوث فجوة بين الاحتياجات الإنسانية والاستجابة الفعلية، بخلاف المعوقات البيروقراطية والمشكلات اللوجستية التي تؤدي إلى التأخير المتكرر في إيصال المساعدات.