أخبار المركز
  • د. أحمد أمل يكتب: (تهدئة مؤقتة أم ممتدة؟ فرص وتحديات نجاح اتفاق إنهاء الخلاف الصومالي الإثيوبي برعاية تركيا)
  • سعيد عكاشة يكتب: (كوابح التصعيد: هل يصمد اتفاق وقف النار بين إسرائيل ولبنان بعد رحيل الأسد؟)
  • نشوى عبد النبي تكتب: (السفن التجارية "النووية": الجهود الصينية والكورية الجنوبية لتطوير سفن حاويات صديقة للبيئة)
  • د. أيمن سمير يكتب: (بين التوحد والتفكك: المسارات المُحتملة للانتقال السوري في مرحلة ما بعد الأسد)
  • د. رشا مصطفى عوض تكتب: (صعود قياسي: التأثيرات الاقتصادية لأجندة ترامب للعملات المشفرة في آسيا)

كلفة الاستقلالية:

هل تستطيع أوروبا بناء جيشها الموحد؟

26 نوفمبر، 2018


أثارت دعوة الرئيس الفرنسي "ماكرون" لإنشاء جيش أوروبي موحد جدلًا متصاعدًا في ظل انتقاد هذه الفكرة من جانب الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب"، ودعوته الدول الأوروبية إلى تحمل تكلفة الدفاع في إطار حلف الناتو. وتتمثل أهم دوافع إنشاء جيش أوروبي في: الإرباك السياسي من جانب الولايات المتحدة للتفاعلات الدولية، والتهديد المستمر بالتنصل من التزاماتها الدولية، وتصاعد التهديدات غير التقليدية التي تواجهها أوروبا.

استقلالية أوروبية: 

طالب الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" في نوفمبر 2018 بضرورة إنشاء جيش أوروبي لتمكين أوروبا من الدفاع عن نفسها بشكل مستقلٍّ عن الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما وصفه الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" بأنه "مهين للغاية"، خاصة أن الرئيس الفرنسي وضع الولايات المتحدة في سلة واحدة مع الصين وروسيا كمصادر للتهديدات المحتملة للتدخل في العملية الديمقراطية والأمن السيبراني للقارة الأوروبية.

فيما رحّب الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" باقتراح "ماكرون"، مشيرًا إلى "أن الفكرة ليست جديدة، ولكن الرئيس الفرنسي أعاد إحياءها، وأنه من المنطقي أن ترغب أوروبا في أن تكون مستقلة وذات سيادة في الأمن والدفاع". فيما أعلنت "أنجيلا ميركل" في خطاب لها أمام البرلمان الأوروبي في 13 نوفمبر الجاري: "علينا تطوير أدواتنا السياسية للعمل على مصلحة مواطنينا، ولكن علينا العمل على رؤية تواجد جيش أوروبي حقيقي"، مع التأكيد على أن هذه الفكرة لا تتعارض مع انتشار حلف الناتو في أوروبا.

ولعل هذا يعيد إلى الواجهة الجدل حول آليات تحقيق "الأمن الأوروبي" الذي غالبًا ما يبرز مع كل تحول يطرأ على الهيكل الدولي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى اليوم. حيث يرى فريق أنه يجب أن يكون للاتحاد الأوروبي مؤسساته الأمنية المستقلة، حيث لا يمكن بناء مشروع أوروبي مستقل بالارتكاز فقط على الجوانب الاقتصادية مع ارتباط الجوانب الأمنية بدوائر خارجية. فيما يرى فريق آخر أن الأمن الأوروبي لا يُمكن تحقيقه إلا بالمشاركة الأمريكية الفعّالة، وأنه في كل مرة يتم فيها تهديد الاستقرار الأوروبي (مثلما حدث أثناء الحرب الباردة، وأزمة تفكك يوغوسلافيا) تبرز الحاجة إلى الولايات المتحدة كركن أساسي لمعادلة الأمن الأوروبي.

دوافع التأسيس:

عادةً ما تطرح المقترحات الأوروبية لتحقيق الاستقلالية الأمنية في فترات ضعف الجانب الروسي وانشغاله بمشاكله الداخلية كالفترة التي تلت انهيار الاتحاد السوفياتي، بيد أن المقترح أتى هذه المرة بالتزامن مع تصاعد القوة الروسية، ولهذا المقترح عدد من الأسباب التي يمكن الإشارة إليها فيما يلي: 

1- تحولات السياسة الأمريكية: تزايدت مخاوف الحلفاء الأوروبيين للولايات المتحدة الأمريكية مع وصول "ترامب" إلى سدة الرئاسة، لا سيما أنه بنى حملته الانتخابية على مجموعة من الأفكار التي قد تُهدد استقرارهم، مثل اعتبار أن مصدر المشكلات التي تواجهها أمريكا هي انخراطها في قيادة العالم (global leadership)، بالإضافة إلى التلويح بالانسحاب من الناتو، مع تأكيده لاحقًا على أن تأمين الحماية العسكرية مرتبط فقط بالحلفاء الذين يدفعون أكثر، وأنه على الولايات المتحدة أن تتخلص من الركّاب المجانيين Free Riders))، وهو ما رفضه الرئيس الفرنسي "ماكرون"، مصرِّحا لشبكة "سي إن إن" في نوفمبر 2018 بأن "على أوروبا أن تبني استقلالية دفاعها عوضًا عن شراء الأسلحة من الولايات المتحدة، وإذا أردنا زيادة موازناتنا فالغرض بناء استقلاليتنا".

كما ذكرت صحيفة "الجارديان" في مقال منشور بتاريخ نوفمبر 2018، أن هناك تقريرًا أعده كلٌّ من "برنار كازنوف" رئيس الوزراء الفرنسي السابق، والأمين السابق لحلف الناتو، خلصا فيه إلى أن "ترامب" يحمل توجهات عدائية تجاه أوروبا، وأن على بريطانيا وفرنسا تعزيز تعاونهما، مؤكدين على أن السياسة الأمريكية لا يمكن التنبؤ بها حاليًّا.

2- التهديدات غير التقليدية: تتباين الرؤى بين أوروبا والولايات المتحدة حول آليّات مواجهة التهديدات غير التقليدية، لا سيما وأن بعض هذه التهديدات لا تؤثر على أمن الولايات المتحدة بشكل مباشر مثل أزمة اللاجئين، وبالتالي تسعى أوروبا لمواجهة هذه التهديدات وفقًا لمصالحها، حيث تقوم الخطة الأوروبية على بناء مراكز أمنية لاستقبال طالبي اللجوء في الدول الأوروبية التي يصلون إليها لتسهيل عملية عودتهم فور انتهاء الأزمات في دولهم، بالإضافة إلى التسريع بالحل السياسي في سوريا.

وعلى الرغم من إعلان وكالة الاتحاد الأوروبي للاجئين في فبراير 2018 عن انخفاض عدد الأشخاص الذين يسعون للحصول على الحماية الدولية في أوروبا عام 2017 بنسبة النصف تقريبًا مقارنة بعام 2016، إلا أن هناك بعض الكتابات التي تحذر من احتمال حدوث موجة جديدة من الهجرة من إفريقيا مثل الكاتب "ستيفن سميث" الذي حذر في كتابه المعنون "الاندفاع إلى أوروبا" (La ruée vers l'Europe) الصادر في فبراير 2018، من هجرة غير مسبوقة من إفريقيا نحو أوروبا، حيث سيزداد عدد سكان إفريقيا إلى 2.4 مليار نسمة خلال الثلاثين عامًا المقبلة، وهو ما سيؤدي إلى الضغط على الموارد، وازدياد الهجرة إلى مناطق مختلفة من العالم بما فيها الدول الأوروبية، ووفقًا لبعض الحسابات التي عرضها الكتاب هناك احتمالات بأن يصبح 25% من سكان أوروبا من أصل إفريقي.

3- دعم مصالح فرنسا: يرى "ماكرون" أن أوروبا القوية تخدم مصالح فرنسا، وهي ذات الرؤية التي يروج لها بعض الساسة الفرنسيين مثل وزير الخارجية الفرنسية السابق "هوبيرت فيدرين" في تبريره لضرورة بقاء فرنسا في قيادة حلف شمال الأطلسي بعد تكليفه من قبل الرئيس الفرنسي "فرنسوا هولاند" بوضع تقرير حول تبعات استمرار فرنسا في حلف الناتو، وقد قدم شرحًا مفصلًا لرؤيته في مقال نشرته صحيفة "العالم الدبلوماسي" le monde diplomatique)) في أبريل 2013 تحت عنوان "حلف الناتو: أرض نفوذ لفرنسا"L'otan: terrain d'influence pour la France، مشيرًا إلى أن النتائج الإيجابية للاستمرار في حلف الناتو تفوق المخاطر، لا سيما إذا تم رفع قدرات فرنسا وأوروبا.

4- إلغاء المعاهدات الدولية: تصاعد قيام الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" بإلغاء العديد من المعاهدات الدولية وتهديده بالانسحاب من بعضها للضغوط على بعض الدول، ويمكن أن يتأثر الأمن الأوروبي في حال انسحابه من هذه المعاهدات. فعلى سبيل المثال، يلوح الرئيس "ترامب" بالانسحاب من معاهدة الصواريخ متوسطة المدى، وفي حال حدوث مواجهات نووية فإن الأراضي الأوروبية ستكون هي المكان الأبرز الذي ستقع فيه مثل هذه المواجهات.

اعتراض أمريكي:

إذا كانت الولايات المتحدة تعارض الأعباء المادية والعسكرية المترتبة على قيامها بتأمين حلفائها، فإنه من المفترض أن ترحب بقرار إنشاء جيش أوروبي، لأنه سيزيح عن كاهل اقتصادها هذه الأعباء، بيد أن الرئيس الأمريكي وإدارته أعلنوا معارضتهم لهذه الخطوة، وقد ترجع أسباب المعارضة إلى ما يلي: 

1- تمويل حلف الناتو: تُعتبر الولايات المتحدة الدولة الأكبر مساهمة تاريخيًّا في نفقات الحلف، إذ بلغت هذه المساهمات ما يقدر بحوالي 686 مليار دولار خلال عام 2017، وهو ما يشكل نسبة 71% من إجمالي ما أنفقه باقي الأعضاء، وذلك بحسب تقرير صادر عن حلف الناتو في يوليو 2018. ويرى الرئيس "ترامب" أن هذا الحلف يتمحور حول هدف أساسي وهو حماية الأمن الأوروبي، وبالتالي فإنه يجب على الدول الأعضاء من أوروبا زيادة إنفاقها العسكري حتى يصل إلى عتبة الـ2% من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي، ولم يَفِ بهذا الحد سوى الولايات المتحدة وبريطانيا وإستونيا واليونان وبولندا، وبالتالي فإن الولايات المتحدة لديها تساؤلات حول كيفية تمويل جيش أوروبي مستقل في حين أن معظم الدول الأوروبية تشكو من زيادة مساهمتها المالية في الناتو، وقد تأتي مساهماتهم المالية في الجيش الجديد على حساب تمويل الناتو.

2- تهديد النفوذ الأمريكي: يرى بعض المحللين أنه كان يجب حل حلف الناتو مع انتهاء الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفيتي وانهيار حلف وارسو، بيد أن الولايات المتحدة تهدف للإبقاء على حلف الناتو بهدف زيادة نفوذها في أوروبا. وفي هذا السياق، تحاول الولايات المتحدة محاصرة أي محاولة للاستقلال عنها داخل الاتحاد الأوروبي، وهو ما حدث سابقًا حين عارضت كل من ألمانيا وفرنسا قرار الحرب على العراق، فاتجهت الولايات المتحدة لمحاصرتهم أوروبيًّا مع الادعاء الأمريكي بأن هناك أوروبا قديمة وأخرى حديثة، وأن مركز الثقل بدأ يتجه نحو شرق القارة الأوروبية، ويبدو أن هذا الأسلوب لا تزال تتبعه الولايات المتحدة، حيث سارع رئيس الوزراء الهولندي "مارك روته" إلى معارضة فكرة الجيش الأوروبي، واعتبار أن الناتو هو حجر الزاوية في الأمن الأوروبي، فيما يبدو وكأنه صدى لتصريحات الولايات المتحدة.

3- تطويق التهديد الروسي: يشير كتاب "خطة مارشال: فجر الحرب الباردة" The Marshall Plan : Dawn of the cold war، إلى أن الولايات المتحدة لم تمول أوروبا الغربية عبر مشروع مارشال بهدف مساعدة الدول الأوروبية، وإنما جاء ذلك لمنعها من السقوط تحت سيطرة المد الشيوعي، وهو ما كان يعطي فرصة للعدو السوفيتي بالتفوق عليها. وانطلاقًا من نفس المبدأ فإن دعم دول البلطيق حاليًّا وبولندا سيساهم في تطويق روسيا، وبالتالي فإن وصول أوروبا إلى مرحلة الاستقلال الذاتي أمنيًّا ودفاعيًّا سيُهدد المخطط الأمريكي الذي يهدف للسيطرة على أوروبا وتطويق روسيا.

مسارات المستقبل:

على الرغم من العقبات الكبيرة التي تعترض تنفيذ اقتراح إنشاء جيش أوروبي قوي، من حيث التمويل والتدريب وإيجاد عقيدة عسكرية مشتركة وقيادة واحدة؛ إلا أن الدول الأوروبية سوف تعتمد على الخطوات المقرة مسبقًا داخل الاتحاد الأوروبي، بدءًا من معاهدة ماستريخت عام 1991 التي نصت على وضع سياسة أمنية ودفاعية مشتركة، وصولًا إلى إقرار مبادرة التدخل الأوروبية في عام 2018 التي وافقت عليها 9 دول أوروبية، والتي تقضي بإنشاء قوة مختلطة للتدخل العسكري حتى خارج الحدود الأوروبية.

وسيتركز العمل في السنوات القادمة على تطوير فكرة إنشاء الجيش الأوروبي، والتي كان قد طرحها مسبقًا "جان كلود يونكر" رئيس المفوضية الأوروبية بعد عملية ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، وغالبًا ستتولى فرنسا قيادة هذه المبادرة مع ألمانيا مع العمل على توسيعها تدريجيًّا.

من جانب آخر، يرى بعض المحللين أن "ترامب" يتخوف من نظام دولي تعددي، حيث إنه لا يحقق مصالح الولايات المتحدة بحسب رؤيته، وهو ما أدى لزيادة النزعة الأحادية لديه، مما دفع "جوزيف ناي" إلى التصريح بأنه لا يخاف على النظام الدولي من الصعود الصيني بقدر خوفه عليه من صعود "ترامب". لذا قد يؤدي تلويح أوروبا ببناء جيش أوروبي لفتح حوار مع الولايات المتحدة لتخفيف نزعتها الأحادية، وتطوير حلف الناتو بحيث يراعي المصالح الأوروبية، ويتم إتاحة دور أكبر لأوروبا في عالم متعدد، وذلك على خلاف الرغبة الأمريكية الحالية في التعامل معها كتابع.

ويبدو أن الولايات المتحدة تتجه لخيار التفاوض، وهو ما يتضح من تصريح السفير الأمريكي لدى الاتحاد الأوروبي "جوردون سوندلاند" خلال جلسة الاستماع للجنة الشئون الخارجية: "هذا موضوع في غاية الحساسية بالنسبة لنا. نحن نضمن دائمًا إرسال عشرات المليارات من الدولارات سنويًّا إلى أوروبا لحماية أوروبا من روسيا والقوى غير الصديقة الأخرى، مع الأخذ في الاعتبار جميع مشاكلنا، على الرغم من أن هذه الأموال يمكن أن تذهب إلى احتياجات الولايات المتحدة الداخلية. طالما أن الاتحاد الأوروبي يرغب في إعلان درجة معينة من قدراته الذاتية في الدفاع عن النفس، لذلك نأمل أن يتم هذا بالاتفاق الكامل مع حلف الناتو، وكإضافة، وليس بديلًا عن حلف الناتو".