نشر الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" على مدار الأشهر الماضية عدة تغريدات على منصة وسيلة التواصل الاجتماعي "تويتر" يحاول فيها دفع منظمة أوبك التخلي عن سياستها الخاصة بوضع سقف لخفض الإنتاج، وذلك للحد من صعود الأسعار العالمية للنفط التي شهدت منذ بداية العام الجاري ارتفاعًا بأكثر من عشرة دولارات أمريكية للبرميل، وبما توازى معه ارتفاع في أسعار المشتقات النفطية (خاصة البنزين) في السوق الأمريكية.
وبعكس ما تصوره "ترامب"، فقد ترتب على هذه المحاولات حدوث ارتباك بأسواق النفط العالمية، حيث تضاربت توقعات المتعاملين في سوق النفط حول السياسات المحتملة لمنتجي النفط في المستقبل القريب، وبما أدى في نهاية المطاف إلى حدوث دورات صعود قصيرة الأمد لأسعار النفط. ومع ذلك، يبدو أن توظيف "ترامب" لتويتر نجح حتى الآن في تهيئة الرأي العام العالمي لضرورة تحرك أوبك لتعويض نقص المعروض النفطي في أعقاب تطبيق الجولة الثانية من العقوبات الأمريكية على إيران منذ 4 نوفمبر الجاري.
توظيف واسع:
اعتاد الساسة الأمريكيون استخدام منصات وسائل التواصل الاجتماعي على غرار "فيسبوك" و"تويتر" في مخاطبة الجماهير المحلية والدولية بشأن رؤاهم لمختلف القضايا الدولية والمحلية، ولعل الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" من أكثر الشخصيات الأمريكية التي تبنت هذا النهج، تاركًا صدى محليًّا ودوليًّا واسعًا لتغريداته، متخطيًا تأثيره في ذلك سلفه الرئيس الأمريكي الأسبق "باراك أوباما".
ومنذ توليه الرئاسة الأمريكية في يناير 2017، أثارت تغريدات "ترامب" جدلًا عالميًّا ومحليًّا واسعًا، حيث طرح رؤى صادمة لعلاقة الولايات المتحدة بالقوى الكبرى مثل الصين، ودول الجوار مثل كندا والمكسيك، وكذلك أيضًا بالنسبة للسياسات المحلية المتعلقة بالهجرة والبيئة وغيرها، فيما كان لمجريات وتطورات ديناميكيات أسواق النفط العالمية نصيب أيضًا من تغريداته.
وقد أثارت تغريداته حول أسعار النفط العالمية على الأخص جدلًا عالميًّا مماثلًا لباقي تغريداته، وهذا ما تكشفه أولى تغريداته حول هذا الموضوع التي نشرها في شهر إبريل الماضي، حيث عبر فيها عن تخوفه الشديد من منظمة الدول المصدرة للبترول "أوبك" باعتبارها المحرك الرئيسي لارتفاع الأسعار العالمية للنفط.
وقد نشر "ترامب" هذه التغريدة في 20 إبريل الماضي قائلًا: "يبدو أن أوبك تعيد الكرّة من جديد. في ظل الكميات القياسية من النفط في كل مكان، بما في ذلك السفن المحملة عن آخرها في البحر، أسعار النفط مرتفعة جدًّا، وهذا ليس جيدًا، ولن يكون مقبولًا".
شكل (1): التسلسل الزمني لتغريدات "ترامب" على موقع تويتر حول أسعار النفط
Source: Iran tells Trump his tweets raised oil, The Times, 6 July 2018.
ومن اللافت -في هذا السياق- قيام الكونجرس الأمريكي منذ مايو الماضي بعقد جلسات استماع للتعرف على فرص إحياء قانون منع التكتلات الاحتكارية لإنتاج وتصدير النفط "نوبك" والذي من شأنه تغيير قانون مكافحة الاحتكار الأمريكي ليسمح بمقاضاة كارتلات النفط بتهمة التواطؤ في تقييد إنتاج النفط أو الغاز أو تحديد أسعارهما، هذا في الوقت الذي يزيل فيه الحصانة السيادية التي تتمتع بها هذه الكارتلات بموجب القوانين الأمريكية.
اعتبارات عديدة:
يرى "ترامب" أن أسعار النفط التي ارتفعت إلى 15% منذ بداية العام سوف تشهد مزيدًا من الصعود في المستقبل القريب إن لم يقم بدفع أوبك لتغيير سياساتها، وهذا، بينما كان متوسط الأسعار العالمية للنفط في شهر يناير الماضي نحو 66 دولارًا للبرميل، ارتفعت بنهاية أكتوبر الماضي إلى أكثر قليلًا من 76 دولارًا للبرميل، وقد سجلت مستوى 85.45 دولارًا في الأول من أكتوبر الماضي، وهو أعلى مستوياتها على الإطلاق منذ نوفمبر عام 2014.
وبحسب ما يتصور "ترامب" في تغريداته، تُعد أوبك العامل الأساسي في صعود الأسعار العالمية للنفط في الفترة الماضية، حيث تتمسك المنظمة بالشراكة مع المنتجين المستقلين وعلى رأسهم روسيا بسياسة خفض سقف الإنتاج، وذلك على الرغم من قيامها منذ يونيو الماضي بتقليص خفض الإنتاج من 2.2 مليون برميل يوميًّا إلى 1.2 مليون برميل. وتبدو هذه السياسة غير مبررة من وجهة نظر "ترامب"، خاصة أن الأسواق الدولية تعاني من نقص في إمدادات النفط القادمة من إيران وفنزويلا.
إذن، لابد لمنظمة أوبك -وفق "ترامب"- التحرك نحو زيادة المعروض العالمي من النفط للحفاظ على استقرار الأسعار. لكن من جانب آخر، اعتبر كثير من المراقبين هذه الرؤية اعترافًا من قبل "ترامب" بأن منظمة أوبك لا تزال اللاعب الأقوى في تحقيق توازن الأسواق العالمية للنفط، مشككًا -في الوقت نفسه- في دور الإنتاج الصخري الأمريكي في بلوغ هذا التوازن، أو على أقل تقدير في تحقيق مبدأ "استقلالية الطاقة الأمريكية" الذي طرحه منذ توليه الرئاسة الأمريكية.
شكل (2): تطور متوسط الأسعار العالمية للنفط (دولار/ البرميل)
المصدر: البنك الدولي
وبالنظر إلى دوافع "ترامب" لهذه الانتقادات، يبدو أنه متخوف على الأرجح من تأثر المستهلك الأمريكي بهذه الزيادات المتوالية لأسعار النفط، فمنذ بداية العام الجاري وحتى نهاية أكتوبر الماضي زادت أسعار البنزين بنسبة 12.3% بالغة نحو 2.73 دولار للجالون (3.75 لترات)، وهذا -وفق "ترامب"- لا يؤثر على رفاهية المستهلك الأمريكي فحسب، وإنما يؤثر بشدة على حظوظ الحزب الجمهوري في نيل حصة أكبر في انتخابات التجديد النصفي للكونجرس الأمريكي التي تجرى في نوفمبر الجاري.
العامل النفسي:
أدت تغريدات "ترامب" على مدار الأشهر الماضية إلى إرباك أسواق النفط العالمية بحسب كثير من المراقبين، وهذا ما أيده وزير الطاقة الروسي "ألكسندر نوفاك" في أكتوبر الماضي، مسببة نوعًا من تضارب الرؤى وعدم اليقين لدى المتعاملين في السوق بخصوص السياسات المستقبلية لمنتجي أوبك في الأجل المنظور. وبنهاية المطاف، انعكس ذلك في عشوائية وتخبط قرارات المستهلكين والمستثمرين في أسواق النفط العالمية، وبما خلق دورات قصيرة الأجل لارتفاع أسعار النفط العالمية بدلًا من تراجعها، وكان مجموعها زيادة في أسعار النفط بنحو 10 دولارات حتى أكتوبر الماضي، وفق "حسين كاظمبور أردبيلي" محافظ إيران لدى أوبك.
جدول (1): الزيادة أو النقصان في أسعار النفط بعد تغريدات "ترامب" (دولار/ البرميل)*
* الأسعار تعكس جلسات النفط خلال نفس يوم تغريدات "ترامب"
المصدر: إعداد الباحث من مصادر مختلفة
ولكن بطبيعة الحال، لا يمكن إغفال التأثير القوي لمحركات أخرى، مثل المخاوف العالمية من تراجع الإمدادات بسبب تراجع الإنتاج الفنزويلي، والتوترات في ليبيا، والضغط الأمريكي للحد من الصادرات الإيرانية، والتي لعبت دورًا جوهريًّا في خلق ضغوط تصاعدية على الأسعار في الفترة الماضية. كما أن نطاق تأثير تغريدات "ترامب" على أسواق النفط يظل هامشيًّا، حيث تتأثر الأسواق بمجموعة من العوامل الموضوعية الأخرى، على غرار المعروض والطلب العالمي على النفط والمخزونات وغيرها.
ولكن من الأهمية الإشارة إلى أنه لأول مرة في تاريخ الرؤساء الأمريكيين تحتل تغريدات تويتر موقعًا جوهريًّا ضمن مزيج الأدوات السياسية والدبلوماسية التي تستخدمها الإدارة الأمريكية لتحقيق مصالحها النفطية. وبلا شك، فإن هذه التغريدات لعبت في نهاية المطاف دورًا نفسيًّا مؤثرًا -ولو محدودًا- في تهيئة الأجواء لدفع أوبك إلى زيادة طاقتها الإنتاجية بالفترة المقبلة لتعويض نقص الإمدادات الإيرانية، وذلك بالتزامن مع الجهود الدبلوماسية والسياسية التي تقودها الإدارة الأمريكية في الآونة الأخيرة لتحقيق نفس الغرض، وهذا ما اتضحت مؤشراته الأولية في قيام منظمة أوبك بزيادة إنتاجها من 390 ألف برميل يوميًّا إلى 33.31 مليون برميل يوميًّا مقارنة بشهر سبتمبر الماضي، وهو أعلى مستوى لإجمالي إنتاج أوبك منذ ديسمبر 2016