أعلن مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، في 22 يوليو 2024، أن المجر لن تستضيف اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي القادم، المقرر عقده في أواخر أغسطس 2024، وذلك بعد زيارة رئيس الوزراء المجري، فيكتور أوربان، لروسيا أوائل شهر يوليو 2024؛ بعد أيام من تولي المجر الرئاسة الدورية لمجلس الاتحاد الأوروبي؛ وهو ما يُعد مؤشراً على تصاعد السخط الأوروبي إزاء السياسة الخارجية المجرية، والتي تشهد توجهاً نحو روسيا في ظل استمرار الحرب الروسية الأوكرانية.
أبعاد مُعقّدة:
يمكن الإشارة إلى أبرز الأبعاد المرتبطة بالخلاف الأخير بين المجر ودول الاتحاد الأوروبي، على النحو التالي:
1. استياء أوروبي: أدت زيارة الرئيس المجري فيكتور أوربان، والذي تتولى بلاده الرئاسة الدورية لمجلس الاتحاد الأوروبي، لروسيا إلى ردود أفعال أوروبية غاضبة ظهرت في عدد من التصريحات والتحركات لبعض القادة الأوروبيين، ومن أبرز تجلّيات ذلك:
أ. انتقاد رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، زيارة فيكتور أوربان إلى موسكو؛ إذ اعتبرت أن تلك الزيارة "لم تكن أكثر من مهمة استرضاء" وليست لها علاقة بأية محاولات سلام مزعومة.
ب. إشارة رئيس المجلس الأوروبي تشارلز ميشيل، إلى إن الرئاسة الدورية للمجلس -أي المجر- ليس لها أي دور في تمثيل الاتحاد على الساحة الدولية ولم تحصل على أي تفويض من المجلس الأوروبي للقيام بأية زيارات نيابة عن الاتحاد، كما أشار ميشيل، إلى أن الاتحاد الأوروبي سيظل داعماً لأوكرانيا في مواجهة روسيا.
ج. تأكيد المستشار الألماني أولاف شولتس أن المجلس الأوروبي يمثله في السياسة الخارجية رئيسه شارل ميشيل، وأن موقف الاتحاد الأوروبي تجاه الحرب الروسية الأوكرانية واضح فيما يتعلق بإدانة روسيا والدعم المطلق لأوكرانيا.
د. طلب المفوضية الأوروبية من مفوضيها عدم حضور اجتماعات الوزراء غير الرسمية خلال الرئاسة المجرية لمجلس الاتحاد الأوروبي، والاكتفاء بإرسال موظفين حكوميين إلى الاجتماعات.
ه. محاولة عضو البرلمان الأوروبي الإستوني، ريو تيراس، حشد الدعم في البرلمان الأوروبي لدعوة القيادة العليا للكتلة إلى تفعيل المادة 7 من معاهدة الاتحاد الأوروبي ضد المجر، والتي تتضمن تعليق حق المجر في التصويت على قرارات الاتحاد الأوروبي.
2. تعقد الخلافات: سلّطت زيارة أوربان لموسكو الضوء على الخلاف القائم بالفعل بين بودابست والاتحاد الأوروبي، والذي مر بعدة محطات، يمكن الإشارة إلى أبرزها على النحو التالي:
أ. بالنسبة لمواقف أوربان:
• استخدام أوربان حق النقض (الفيتو) ضد قرار بشأن برنامج للاتحاد الأوروبي طويل الأجل لمساعدة الميزانية الأوكرانية بقيمة 50 مليار يورو على مدار أربعة أعوام، وذلك خلال قمة الاتحاد الأوروبي في بروكسل في ديسمبر 2023، وقد عارض أوربان في ذات السياق، فكرة انضمام أوكرانيا للاتحاد الأوروبي.
• معارضة أوربان لسياسات الهجرة في الاتحاد الأوروبي، ولاسيما خلال أزمة الهجرة في أوروبا عام 2015؛ إذ انتقد رئيس الوزراء المجري نظام الحصص في الاتحاد الأوروبي بشأن إعادة توزيع طالبي اللجوء بين الدول الأعضاء؛ بحجة أنه ينتهك السيادة الوطنية ويهدد الهوية الثقافية الأوروبية، في معارضة واضحة ومباشرة للنهج الأكثر انفتاحاً الذي يتبناه الاتحاد الأوروبي في التعامل مع الأزمة.
• انتقاد أوربان، في العديد من المناسبات، للعقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي على روسيا على خلفية الحرب الروسية الأوكرانية؛ إذ اعتبرها غير فعالة وتضر بالاقتصادات الأوروبية، بما في ذلك اقتصاد المجر، كما دعا أوربان مراراً إلى اتباع نهج أكثر واقعية في التعامل مع العلاقات مع روسيا.
ب. بالنسبة لمواقف الاتحاد الأوروبي:
• فرض الاتحاد الأوروبي قيوداً على صرف الأموال المُخصصة للمجر من صندوق "أموال التعافي ما بعد كوفيد"، وذلك لحين تلبية الحكومة المجرية نحو 27 شرطاً فرضتها بروكسل وتغطّي مجالات مثل: استقلال القضاء، ومكافحة الفساد، وقوانين الشراء.
• إثارة الاتحاد الأوروبي مخاوف بشأن إساءة استخدام حزم التمويل والمساعدات التي يضخّها الاتحاد الأوروبي داخل المجر، وفي ذلك الشأن، أجرى المكتب الأوروبي لمكافحة الاحتيال (OLAF) تحقيقات وجدت مخالفات في استخدام أموال الاتحاد الأوروبي من قبل المسؤولين في المجر.
• إطلاق المفوضية الأوروبية العديد من التدابير القانونية ضد المجر على مدار السنوات القليلة الماضية، بسبب بعض الإجراءات والتعديلات القانونية التي تم اعتبارها تعارض قوانين الاتحاد الأوروبي، وكذلك القيم الأساسية في الاتحاد، والتي تشمل الديمقراطية، والحق في المحاكمة العادلة، بالإضافة لقواعد حماية البيانات والسوق الداخلية، وتشمل تلك الإجراءات المجرية قضايا كاللجوء والهجرة.
مُحفزات مُتداخلة:
يمكن فهم تحركات أوربان الراغبة في تحسين العلاقات مع روسيا، ووقف الدعم الأوروبي لأوكرانيا في ضوء الدوافع التالية:
1. دوافع فردية: قد يرغب أوربان في تثبيت نموذج أوروبي جذّاب يحظى بقبول الجانب الروسي في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الروسية الأوكرانية، وبذلك يضمن عدم استبعاد بودابست من أية ترتيبات أو مُناقشات أمنية بعد الحرب -أو حتى أية مُحادثات محتملة بشأن وقف إطلاق النار- وهو ما قد يحفزه فوز المرشح الجمهوري، دونالد ترامب، بالانتخابات الرئاسية الأمريكية، ولاسيما أنه قد أعلن أنه سيوقف الحرب خلال 24 ساعة حال فوزه بالانتخابات المقبلة.
2. البُعد الاقتصادي: إذ تُعد روسيا سوقاً مهمة للصادرات المجرية، بما في ذلك المنتجات الزراعية والأدوية، فحفاظ أوربان على علاقات جيدة مع روسيا في ظل القطيعة الأوروبية مع موسكو، يضمن للشركات المجرية الوصول إلى السوق الروسية الكبيرة والمتنامية، كما أن المجر تعتمد بشكل كبير على الغاز الطبيعي الروسي من خلال العقود طويلة الأمد المبرمة مع شركة "غازبروم" الروسية، كل ذلك يتوافق مع الرغبة المجرية في توسيع تعاونها مع روسيا في قطاع الطاقة النووية والبناء على الانخراط الروسي القائم بالفعل في ذلك القطاع في المجر عن طريق محطة "باكس" للطاقة النووية، وهي الوحيدة في المجر.
3. دوافع سياسية: فتعزيز العلاقات مع روسيا يسمح لأوربان بتأكيد سيادة المجر واستقلالها، ومواجهة ما يعتبره نفوذاً أو ضغوطاً غير مُبررة من الاتحاد الأوروبي على السياسات الداخلية المجرية، وفي ذلك السياق، قد ينظر أوربان إلى تطوير العلاقات المجرية الروسية كجزء من استراتيجية أوسع لتنويع علاقات المجر الدبلوماسية، والحد من الاعتماد المفرط على أية كتلة أو دولة بعينها. كما أن تعزيز التعاون الثنائي بين البلدين يتماشى مع توجه الحكومتيْن في الترويج للأجندة القومية والمقاومة الليبرالية الغربية.
4. المسألة الأوكرانية: من الواضح أن أوربان يخشى من انضمام أوكرانيا للاتحاد الأوروبي؛ إذ إن ذلك سيعني تقليص الدعم الأوروبي المخصص لدول وسط أوروبا، وما سيتضمنه ذلك من ارتدادات تتعلق بالسياسة الزراعية المشتركة "باك" التي تمثل أكبر موازنة في الاتحاد الأوروبي في ظل التوسع الأوروبي نحو الشرق حال انضمام أوكرانيا للاتحاد، كما أن ضم أوكرانيا، أكبر بلد زراعي في أوروبا؛ سيؤدي إلى إعادة توزيع أوراق الدعم الزراعية لكل بلد؛ ومن ثم حصول كييف على بعض المنح والامتيازات المالية نتيجة إمكاناتها وقدراتها الزراعية.
5. البُعد الجيوسياسي: وهو نهج نابع من فهم عملي لموقع المجر الجغرافي؛ باعتبارها دولة غير ساحلية في أوروبا الوسطى؛ وهو ما يتطلب الحفاظ على علاقات جيدة مع محيطها الجغرافي والاستراتيجي بما يشمل روسيا بطبيعة الحال.
سيناريوهات مُحتملة:
تحمل المرحلة الراهنة من الخلاف بين الاتحاد الأوروبي والمجر، جملة من السيناريوهات المحتملة، التي تتصل بحدود التحرك الأوروبي إزاء الخلاف، وذلك من ناحية، ومن ناحية أخرى، رد الفعل المجري على أي تصعيد أوروبي؛ وهو ما يمكن إجماله في ثلاثة سيناريوهات رئيسية كالتالي:
1. السيناريو الأول: يرتبط بإمكانية تصعيد الاتحاد الأوروبي عقوباته ضد المجر، وربما حجب المزيد من الأموال وفرض عقوبات أكثر صرامة على عدم الامتثال لقوانين الاتحاد الأوروبي؛ مما قد يؤدي إلى زيادة عزلة المجر داخل الاتحاد الأوروبي، وهو سيناريو يظل مرتبطاً بمستوى العلاقات الروسية المجرية خلال الفترة المقبلة، وطريقة تعاطي أوربان مع تصاعد الضغوط الأوروبية تجاهه.
2. السيناريو الثاني: قد يسعى أوربان، في إطار مواجهة أية ضغوط أو عواقب اقتصادية مُحتملة من الجانب الأوروبي، إلى إعادة النظر في المقاربة المجرية مع الاتحاد الأوروبي، واختيار الحلول الوسط بشأن قضايا رئيسية مثل: استقلال القضاء، والفساد، وملف التمويل الأوروبي لبودابست، وذلك لإظهار حسن النية للأوروبيين، وفي الوقت ذاته الحفاظ على علاقات مع الجانب الروسي تحكمها المحددات الاقتصادية والجيوستراتيجية.
3. السيناريو الثالث: وهو السيناريو الأكثر تشاؤماً؛ إذ ينصرف إلى تعقد الخلافات بين الطرفين إلى مستوى غير قابل للتسوية؛ ومن ثم تتحول المجر بشكل واضح نحو التحالفات الشرقية؛ مما يعزز علاقاتها مع روسيا والصين بما يشمل الجوانب الاقتصادية والسياسية، وبذلك سيؤدي هذا السيناريو إلى تقلص الدور المجري داخل الإطار الأوروبي، بل وربما الخروج من الاتحاد الأوروبي اعتماداً على أوجه وأطر الدعم التي ستقدمها دول مثل: الصين وروسيا للمجر في تلك الحالة.
وفي التقدير، يمكن ترجيح أن يعمد أوربان، في ظل التصريحات الأوروبية الرسمية المتزامنة والضاغطة، إلى إعادة تقييم مقاربته تجاه الاتحاد الأوروبي خلال الفترة القصيرة المقبلة؛ بحيث تشمل تحسباً في التوجه نحو روسيا، وكذا تلبية بعض الشروط الأوروبية المتعلقة بالسياسة الداخلية للحكومة المجرية؛ وبذلك يضمن أن تتراجع حدّة التجاذبات والخلافات الأخيرة واستباق أية محاولات أوروبية لاستخدام سياسة "العصا والجزرة" مع بلاده؛ وهو نهج عملي بالأساس تدفع نحو تحقيقه رغبة أوربان في الحفاظ على رئاسته الدورية لمجلس الاتحاد الأوروبي دون أزمات تحيطها؛ واستغلال ذلك لتحقيق أكبر قدر ممكن من المكتسبات السياسية والاقتصادية لصالح بلاده، بالإضافة إلى رغبته في الحفاظ على بعض المكتسبات -حتى لو كانت رمزية- التي حققها جراء جولته الأخيرة، التي تضمنت زيارة روسيا، والصين، والولايات المتحدة، ومحاولة البناء عليها في أية محطات أو ترتيبات مستقبلية.