أجرى وزير الدفاع الإسرائيلي بيني جانتس، في 30 أغسطس، محادثات مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس في رام الله بالضفة الغربية المحتلة، في لقاء نادر رسمي يعد الأول من نوعه لمسؤول حكومي إسرائيلي مع رئيس السلطة الفلسطينية منذ عام 2010. وقال مصدر فلسطيني إن المحادثات خصصت لمناقشة "القضايا الأمنية الروتينية" والاقتصاد. وقد حضر اللقاء رئيس مكتب تنسيق أعمال الحكومة في المناطق الفلسطينية غسان عليان والوزير الفلسطيني حسين الشيخ ورئيس المخابرات الفلسطينية ماجد فرج.
ملاحظات أساسية
ويكشف اللقاء بين الرئيس محمود عباس ووزير الدفاع الإسرائيلي بيني جانتس على تركيزهما على عدد من القضايا، وذلك مع استبعاد تناول أي قضايا تتعلق بمفاوضات السلام في الوقت الراهن، وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي:
1- التركيز على القضايا الأمنية: إن اللقاء بين عباس وجانتس ركز على القضايا الأمنية، والتي تستكمل الاتصالات واللقاءات الأمنية المتخصصة بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي طوال الأشهر الأخيرة.
2- تقديم تسهيلات للسلطة الفلسطينية: قدمت تل أبيب تسهيلات للسلطة الفلسطينية، والتي تتمثل في:
أ- منح الهوية الفلسطينية: تسوية الوضع القانوني لثلاثة آلاف فلسطيني لا يحملون الهوية الفلسطينية، بينهم سكان يعيشون في المغارات أو فلسطينيين من القطاع هربوا إلى السلطة الفلسطينية أو فلسطينيين يعيشون خارج البلاد منذ عشرات السنين وفقدوا مكانتهم.
ب- السماح للفلسطينيين بالبناء: منح جانتس الفلسطينيين ألف تصريح بناء في المناطق المصنفة "ج" في الضفة الغربية، والتي تخضع لسيطرة أمنية إسرائيلية، مع اشتراط أن يكون ذلك البناء في قرى وبلدات فلسطينية قائمة.
ج- تسهيلات مالية للسلطة الفلسطينية: ستقرض إسرائيل رام الله 155 مليون دولار (نصف مليار شيكل)، وستتم إعادتها ابتداء من يونيو القادم من أموال المقاصة التي تجبيها السلطة الفلسطينية.
كما ستصادق إسرائيل بمنح التصاريح لـ15 ألف عامل فلسطيني إضافي، وسيتم تحويل المصالح الفلسطينية التي تتعامل مع إسرائيل إلى طريقة الحسابات الرقمية، بطريقة توفر مدخولات للسلطة من الضرائب بقيمة 10 ملايين شيكل سنوياً".
3- استبعاد عملية السلام: أفاد مصدر مقرب من بينيت بأنه "لا عملية سلام جارية مع الفلسطينيين، ولن تحصل"، ويرجع ذلك إلى طبيعة الائتلاف الحاكم الإسرائيلي، والذي يضم تيارات متطرفة ترفض إجراء أي سلام مع الفلسطينيين، كما أن رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتانياهو، سوف يهاجم أي اتفاق من هذا النوع.
وقد وضح ذلك في هجوم عضو الكنيست الإسرائيلي، إتمار بن جفير، على لقاء جانتس وعباس واصفاً إياه بالفضيحة، كما هاجم حزب الصهيونية الدينية المحسوب على المستوطنين في الضفة الغربية اللقاء كذلك، حيث أكد في بيانه أن محاولة بينيت التقليل من أهمية اللقاء لن تنجح في إخفاء الحقيقة، وهي أن الحكومة الإسرائيلية تعيد أبو مازن إلى الواجهة من جديد بعد أن نجح اليمين الإسرائيلي على مدى سنوات في جعله شخصاً غير ذي صلة بالساحة السياسية.
تفسير الانفتاح الإسرائيلي:
تؤشر التسهيلات المقدمة من إسرائيل إلى السلطة الفلسطينية على وجود تحوّل لافت في سياستها تجاه السلطة الفلسطينية، وهو ما ستكون له انعكاسات على حماس، ويمكن توضيح ذلك في التالي:
1- تأثير واشنطن: جاء اللقاء بين عباس وجانتس بعد ساعات من عودة رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت من واشنطن ولقائه بالرئيس الأمريكي. فقد أفادت إذاعة الجيش الإسرائيلي بأن "الرئيس الأميركي جو بايدن طلب من رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت تقديم الدعم المالي للسلطة الفلسطينية وتقديم مساعدات إنسانية واقتصادية للفلسطينيين"، وذلك خلال اللقاء الذي جمعهما في البيت الأبيض، وهو ما وافق عليه بينيت. ومن المعروف أن الرئيس جو بايدن يؤيد خيار حلّ الدولتين، كما أعلن عن استئناف تقديم المساعدات للسلطة الفلسطينية.
2- التهدئة مع الفلسطينيين: تتحرك حكومة بينيت في الملف الفلسطيني من خلال اعتماد سياسة تقوم على التهدئة، ومنع الاستفزازات الأمنية عبر التوصل لتفاهمات مباشرة مع حماس في مقابل موافقة إسرائيل على إدخال المساعدات الاقتصادية لها، فضلاً عن تجنب إقامة أي مستوطنات جديدة، وهو ما يساهم في النهاية لتفرغ الحكومة الإسرائيلية لملف إيران النووي.
3- الانفتاح على السلطة: أكد عباس أن هدف الاجتماع هو بناء ثقة متبادلة والحفاظ على المصالح الإسرائيلية والعلاقات المهمة مع السلطة الفلسطينية، والتي يؤمن بأنه تجب تقويتها، كما أكد الوزير الإسرائيلي، وبلا شك، أنه "كلما كانت السلطة الفلسطينية قوية أكثر، حماس ستكون أضعف، وكلما زادت سيطرة السلطة الفلسطينية، فإنه سيكون لدينا مزيد من الأمن ونحن سنضطر للعمل بصورة أقل".
كما أكد جانتس أنه تطرق إلى "وسائل تطوير الأمن والوضع الاقتصادي في الضفة الغربية وغزة"، وهو ما يعني أن إسرائيل قد تتجه للتعامل مع قطاع غزة عبر السلطة الفلسطينية، وهو ما يؤشر على وجود تغيرات جوهرية في السياسة الإسرائيلية، والتي كانت في السابق تستند إلى توظيف الانقسام الفلسطيني بين السلطة الفلسطينية، وحماس، فضلاً عن التعامل المباشر مع حماس، والتوصل معها لتوافقات ثنائية لتهدئة الأوضاع في القطاع.
ورحب رئيس لجنة الدستور والقانون عضو الكنيست عن حزب "العمل" جلعاد كاريب باجتماع جانتس وعباس، داعياً إلى عقد اجتماعات منتظمة بين أعلى المستويات في الحكومة الإسرائيلية والسلطة الفلسطينية. وهجام الحكومة السابقة برئاسة بنيامين نتنياهو، والتي وفقاً له، فضلت تعزيز موقف حركة حماس على الحوار مع السلطة الفلسطينية، وأنه يجب على الحكومة الحالية أن تُغير نهجها وأن تؤدي إلى تعزيز الاقتصاد والأمن مع السلطة الفلسطينية بشكل كبير. كما أكد وزير الإعلام الإسرائيلي، يوعاز هنديل، للإذاعة الإسرائيلية أن من مصلحة إسرائيل تعزيز الاقتصاد الفلسطيني وإضعاف حماس.
ولعل انفتاح إسرائيل على السلطة الفلسطينية هو ما أقلق حماس، ولذلك سارعت بالهجوم على "اجتماع عباس – جانتس"، حيث أكد الناطق باسم حماس، حازم قاسم، إن مثل هذه اللقاءات استمرار لوهم قيادة السلطة في رام الله بإمكانية إنجاز أي شيء للشعب الفلسطيني عبر مسار التسوية الفاشل، بل واعتبرت إن هذا السلوك يعمق الانقسام الفلسطيني، وتضعف الموقف الرافض للتطبيع، وذلك على الرغم من إعلان حماس قبولها بإقامة دولة فلسطينية واحدة على حدود عام 1967.
كما أن إسرائيل أقرت في 1 سبتمبر، سلسلة من الإجراءات لتخفيف حصارها على قطاع غزة، عبر فتح معبر كرم أبو سالم أمام الواردات، فضلاً عن سماح المسؤولين الإسرائيليين باستيراد مواد البناء الأساسية اللازمة لإعادة بناء قطاع غزة بعد حرب مايو الماضية، وهو ما جاء استجابة للضغوط التي مارستها حماس ضد إسرائيل، سواء عبر إطلاق بالونات حارقة على إسرائيل، أو تنظيم سلسلة من التظاهرات العنيفة في بعض الأحيان على طول السياج الحدودي مع إسرائيل، وهو ما يثير الاستغراب من موقف حماس المناهض للسلطة، خاصة أن السياسة الإسرائيلية الأخيرة تخفف من معاناة الفلسطينيين في الضفة والقطاع على حد سواء.
وفي الختام، يمكن القول إن مجمل هذه التطورات تكشف عن أن الانفتاح الإسرائيلي على السلطة الفلسطينية، بما يمهد لتخفيف العقوبات الاقتصادية الإسرائيلية السابقة عنها، فضلاً عن أنه يكشف عن نجاح واشنطن في ممارسة ضغوط على الحكومة الإسرائيلية، بما يساهم في النهاية في تخفيف التوتر في الأراضي الفلسطينية المحتلة، في الضفة والقطاع، ويمهد الطريق أمام مفاوضات التسوية السلمية، خاصة أنه من المتوقع أن تقدم إدارة بايدن مبادرة جديدة للتسوية السياسية بين الجانبين.