في ذكراها الـ70 يبدو وكأن نكبة فلسطين عادت في شكل مختلف. الرئيس الأميركي دونالد ترامب كسر المحرم السياسي للقدس. وبنيامين نتانياهو احتفل بنقل السفارة الأميركية. مع وطأة ما حدث، إلا أنه يبقى ضمن سياق الأحداث منذ بدايتها. تزامن مع الاحتفال إقدام القوات الإسرائيلية على قتل أكثر من 60 فلسطينياً على حدود غزة، كانوا يتظاهرون احتجاجاً على نقل السفارة. وليس في هذا جديداً. ردود الفعل العربية والإسلامية أيضاً لا جديد فيها منذ هزيمة 1967، خاصة بعد اتفاق كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل عام 1978. في صيف 1981 حصل شيء مشابه. بعد يوم من زيارة رئيس وزراء إسرائيل آنذاك، مناحيم بيغن، للسادات في القاهرة، قامت الطائرات الإسرائيلية بتدمير مفاعل أوزيراك العراقي. الاحتفال لا يمنع القتل، بل قد يكون مسوغاً له. والسلام لا يعني توقف الحرب. أنت بالفعل أمام حالة فريدة.
الموقف الإسرائيلي ثابت. لم يتغير قيد أنملة منذ 1948 وحتى الاحتفال بنقل السفارة الأميركية. ماذا عن الموقف الرسمي العربي؟ تغير كثيراً عما كان عليه. لكن هناك ما يؤشر إلى تغير في الموقف غير الرسمي، بأن النكبة بدأت في السنوات الأخيرة تأخذ صيغة الإشكالية بعدما كانت محصورة في صورة القضية المركزية. لا يزال هذا التحول محدوداً في أقلية أمام أغلبية كبيرة. لكنه مع ذلك تطور سياسي لافت. قد لا يكون له ما يبرره سياسياً، لكنه في الوقت نفسه نتيجة طبيعية لما وصل إليه الصراع حتى الآن. من الممكن إعادة بروز صيغة الإشكالية هذه إلى تمكن حالة الانكسار لدى البعض أمام هزائم عربية لا يبدو أن لها أفق. يتكامل ذلك مع استعصاء إمكانية التوصل إلى حل. أمام هذا الوضع يبدو أن شعوراً مكثفاً بالاستنزاف، ومن ثم بالتشاؤم، أخذ يفرض نفسه على رؤية البعض للقضية ولمسار الأحداث، وما يمكن أن تقود إليه. الاستنزاف على مختلف المستويات: مادية وسياسية وبشرية، بل وحتى عاطفية، في قضية تبدو بأنها باتت خاسرة. استمرار الاستنزاف في هذه الحالة لا ينتمي إلى منطق السياسة، ولا إلى منطق العقل.
ما هو الحل المقترح لهذه الحالة؟ ليس هناك حل. هناك تعبير عن إحباط، أو صيغة أخرى للتعبير عن المشكلة ذاتها.
الكاتب اللبناني حازم صاغية، كتب الأسبوع الماضي هنا، عن الموقع التاريخي لنكبة 48. هل هو في ماضي من دون مستقبل كما يقول الإسرائيليون؟ أم أنه يقع في مستقبل من دون ماض، كما يقول كثير من الفلسطينيين والعرب؟ هذا ملمح آخر للإشكالية من زاوية أخرى. وإذا ما حصرنا الموضوع على المستوى الرسمي، وهو المستوى الأبرز في صناعة تاريخ الحدث في هذا السياق، تبرز حقيقة مختلفة تهيمن على المشهد. وهي أن الدولة الإسرائيلية هي من يتمسك بنظرية أن النكبة ماض مطلق، ولا مستقبل له. كانت إسرائيل تختفي خلف العنتريات العربية ما قبل هزيمة حزيران، وحتى لاءات الخرطوم بعد الهزيمة مباشرة. الموقف الرسمي العربي أخذ يتغير مع الزمن وتزايد الضغوط. كانت بداية التغير متدرجة، وعلى استحياء أحياناً. مع ذلك وصل ذروته الأولى بزيارة الرئيس المصري أنور السادات إلى القدس عارضاً السلام على الإسرائيليين من على منبر الكنيسيت. ووصل ذروته الثانية باعتراف منظمة التحرير الفلسطينية عام 1982 بإسرائيل من دون اعتراف إسرائيلي مقابل بدولة فلسطينية، ثم اتفاق أوسلو الذي دفعته إسرائيل إلى الانهيار.
تمثلت الذروة القصوى التي وصل إليها الموقف العربي في مبادرة السلام التي تبنتها جميع الدول العربية عام 2002 في قمة بيروت. وفيها عرض للاعتراف بإسرائيل والتطبيع الكامل معها مقابل اعترافها بحق الفلسطينيين. لكن إسرائيل رفضت حتى الاعتراف بالمبادرة والتفاوض حولها. بعبارة أخرى، تحول الموقف العربي من موقف لا يرى في النكبة إلا مستقبلاً من دون إسرائيل، إلى موقف يرى أن فيها مستقبل للفلسطينيين والإسرائيليين معا. في المقابل بقي الموقف الإسرائيلي، خاصة الرسمي، كما كان عليه قبل 1948.
لماذا تغير الموقف العربي؟ وبقي الموقف الإسرائيلي على حــــاله؟ اصطــــدم الموقف العربي بالتفوق الإسرائيلي، وبالدعم الدولي الكبير والثابت لإسرائيل. لكنه تغير أيضاً بسبب اعتراف غير معلن بحالة عربية تجمــــع ضعفاً، وانقسامات وصراعات لا تنتهي بين الدول، وداخل كثير من هــــذه الدول. لم يتغير موقف إسرائيل لأنها الطرف المنتصــــر الذي يتمتع بدعم دولي، ويرى أن عبئ التنازل يقع بكامله على الطرف الآخر. هذا صحيح. لكنه ليس كل شيء. بحسب آفي شلايم (بريطاني من أصل إسرائيلي وأستـــاذ العلاقات الدولية في جامعة أوكسفورد البـــريطانية) يعود الموقف الإسرائيلي الحالي في الصراع بجـــــذوره إلى عشرينات القرن الماضي، فيما كان يعرف بـ «الجـــدار الحديدي». وهو مصطلح استخدمه وكتب عنه باستفاضة آنذاك زئيف جابوتنسكي، أو الأب الروحي لليكــــود. وقـــــد اختار شلايم هذا الاسم (الجدار الحديدي) عنواناً لكتابه عن تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي.
واضح أن الموقف العربي هو ألأضعف والأكثر ارتباكاً وإرباكاً. يريد أن يتمسك بالقضية، لكنه لا يستطيع تحقيق نتائج فيها. ما يزيد الإرباك أن العرب لا يواجهون فقط الرؤية الصفرية الإسرائيلية. باتوا يواجهون ابتزازاً إقليمياً باستخدام ورقة فلسطين من قبل بعض دول الجوار، وتحديداً إيران، وبدرجة أقل تركيا. وهذا طبيعيي. الضعف أوجد فراغاً يحاول الآخرون ملْأه لصالحهم. هنا بدأت تظهر نغمة أن العدو الإيراني أخطر من العدو الإسرائيلي. وهي رؤية تمثل ذروة الشعور بالانكسار والارتباك معاً. يقول المنطق بأن المفاضلة لا تكون بين الأعداء، وإنما بين الحلفاء والأصدقاء. فحيث تعبر الأولى عن رتباك مشوب بسذاجة سياسية بأن هذا العدو أفضل أو أقل ضرراً، فإن الثانية تعبر عن منطق السياسة وروحها.
الآن، ضع التمسك الإسرائيلي بالحل الصفري للصراع، مع العجز والارتباك العربيين، وانحياز الموقف الدولي لإسرائيل، تكون أمام حالة فريدة تنطوي على مخاطر كبيرة. وهي من الحالات القليلة التي تتشابك فيها المواقف الإقليمية والدولية على هذا النحو، ولأكثر من قرن الآن، بما يؤكد فرادة الحالة وأنها لا تخص الفلسطينيين وحدهم. هي قضية تتعلق بمصالح وتوازنات إقليمية ودولية. اعتبارها إشكالية عربية هو نوع من اليأس والهروب إلى أمام. وهذا لا يفيد في شيء. لسبب بسيط، وهو أن تقرير مثل هذا المصير لا يقتصر على العرب وحدهم.
*نقلا عن صحيفة الحياة