أخبار المركز
  • يشارك مركز "المستقبل" في الدورة الـ33 لمعرض أبوظبي الدولي للكتاب في الفترة (29 إبريل - 5 مايو 2024)، وجناحه رقم C39 في القاعة 9
  • مركز "المستقبل" يصدر العدد 36 من دورية "اتجاهات الأحداث"
  • صدور العدد السادس من "التقرير الاستراتيجي" بعنوان "حالة الإقليم: التفاعلات الرئيسية في منطقة الشرق الأوسط 2024"
  • محمد خلفان الصوافي يكتب: (منتدى الخليج وأوروبا.. دبلوماسية جماعية للتهدئة الإقليمية)
  • معالي نبيل فهمي يكتب: (تأملات حول فشل جهود السلام الفلسطينية الإسرائيلية)

صراع التقنيات:

الآثار المزدوجة لتقييد الاستثمار الأمريكي في تكنولوجيا الصين

21 أغسطس، 2023


وقّع الرئيس الأمريكي، جو بايدن، يوم 9 أغسطس الجاري، أمراً تنفيذياً يتم بموجبه حظر الاستثمارات الأمريكية في الشركات الصينية في ثلاثة قطاعات تكنولوجية شديدة الحساسية والدقة؛ وهي (أشباه الموصلات والإلكترونيات الدقيقة، وتقنيات المعلومات الكمية، وبعض أنظمة الذكاء الاصطناعي). وبموجب هذا الأمر التنفيذي، سيُطلب من الشركات الأمريكية أيضاً الكشف عن الاستثمارات التي تقوم بها في الصين في قطاعات التكنولوجيا الفائقة، وهو ما يمنح الحكومة الأمريكية السلطة لفحص المعاملات الأجنبية من قِبل الشركات الخاصة، ما يمثل توسعاً غير مسبوق في الرقابة الحكومية على شركات القطاع الخاص. 

دوافع التقييد: 

يأتي هذا الأمر التنفيذي الأمريكي في إطار تطبيق استراتيجية "ساحة صغيرة، وسور مرتفع" (small yard and high fence) التي اعتمدت عليها إدارة بايدن، وتعني أن يتم التركيز فقط على قطاعات محددة لتقييد التعاون بشأنها مع الصين؛ وهي القطاعات التي يمثل تطويرها تهديداً للأمن القومي الأمريكي. وفيما عدا هذه المجالات، فإن واشنطن مُستعدة لتطوير العلاقات الاقتصادية مع بكين، بما يسمح للجانبين بحصاد المنافع بشكل متبادل. وفي هذا السياق، يمكن تمييز عدد من الدوافع لتقييد الاستثمارات الأمريكية في شركات تكنولوجية صينية، كالتالي:

1- الحد من قدرة الصين على تصميم وتطوير الرقائق الإلكترونية: تُعد أشباه الموصلات والرقائق الإلكترونية مكوناً رئيسياً لجميع الصناعات الإلكترونية تقريباً، بدءاً من الهواتف وأجهزة الكمبيوتر والساعات، إلى وحدات التحكم في الألعاب والمُعدات الصناعية، وصولاً إلى السيارات والطائرات المدنية والعسكرية، وغيرها. ومن ثم، فإن الولايات المتحدة والصين تُدركان أهمية الرقائق الإلكترونية في تعزيز مكانتهما ولاسيما على الصعيد الاقتصادي. ففي عام 2020، أنفقت الصين 350 مليار دولار لاستيراد رقائق إلكترونية، وهو أكثر من المبلغ الذي أنفقته بكين لاستيراد النفط. وتشتري الصين 60% من إنتاج الرقائق في العالم، ومن ثم فإنها تشعر أنها تعتمد على مورد لا يمكنها التحكم به، وقد تجلى الشعور بالخطر حيال هذا الأمر في تصريح نائب رئيس مجلس الدولة الصيني، ليو هي، في مايو 2021، بأن "الابتكار التكنولوجي ليس مهماً فقط من أجل النمو.. إنها مسألة تتحكم في بقائنا على قيد الحياة".

وفي هذا الإطار، يأتي الأمر التنفيذي لحظر الاستثمارات الأمريكية في الشركات الصينية التي تطور برمجيات لتصميم الرقائق والأدوات اللازمة لتصنيعها، بهدف تضييق الخناق بشكل أكبر على إمكانات بكين لتطوير صناعة الرقائق بشكل محلي، حيث إن توطينها لصناعة الرقائق الإلكترونية سيسهم في تحقيق طفرة اقتصادية وصناعية وعسكرية في الصين قد تُرجح كفتها على حساب الولايات المتحدة.

وقد انعكس ذلك في رسالة بايدن للكونغرس الأمريكي، حيث وصف الأمر التنفيذي بأنه بمثابة إعلان حالة الطوارئ على الصعيد الوطني، وأرجع السبب الرئيسي لإصداره إلى الرغبة في منع إسهام رؤوس الأموال الأمريكية في تطوير تقنيات قد يتم استخدامها لدعم القدرات الاستخباراتية والعسكرية للجيش الصيني.

2- حث مزيد من الدول على تقييد الاستثمارات في الصين: يمثل إقرار الولايات المتحدة للأمر التنفيذي حافزاً لبعض من حلفائها الأوروبيين لاتخاذ خطوات مماثلة. فعلى سبيل المثال، تدرس ألمانيا وبريطانيا سُبل تقييد الاستثمارات الخاصة بهما في الصين. وفي يونيو الماضي، صرحت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، بأنه سيتم تطوير قواعد استثمار جديدة بحلول نهاية هذا العام، وأضافت: "نحن بحاجة إلى ضمان عدم إساءة استخدام رؤوس أموال الشركات الأوروبية ومعرفتها وخبراتها وأبحاثها من قِبل الدول المعنية بالتطبيقات العسكرية". وهذا ما قد يُعد مؤشراً على وجود دعم أوروبي للتوجه الأمريكي بتقييد الاستثمارات في المجالات التكنولوجية عالية الدقة بالصين. ومع ذلك، فإن بعض الحلفاء الآخرين المُقربين من واشنطن، ومنهم اليابان، قد أبدوا رفضهم لهذا النهج، مؤكدين عدم نيتهم مراجعة التشريعات التي تحكم استثماراتهم في الصين.

3- الرصد الدقيق لمسار تدفق الاستثمارات الأمريكية في الصين: سيعمل هذا القرار على دعم قدرة الإدارة الأمريكية على رصد وتحليل تدفق الاستثمارات في التقنيات الدقيقة بالصين، وهو ما من شأنه سد الثغرات التي خلفتها ضوابط التصدير التي اتبعتها الولايات المتحدة، والتي تم بموجبها تقييد صادرات التقنيات الحساسة، ولكن ليس الاستثمارات في الشركات التي تستخدم هذه التقنيات. فعلى سبيل المثال، ذكرت صحيفة (The Post)، في أواخر عام 2021، أن بنك "غولدمان ساكس" (Goldman Sachs) قام بضخ استثمارات في شركة (Fourth paradigm) الصينية في مجال الذكاء الاصطناعي والتي اتضح فيما بعد أنها فازت بعقد غير مُعلن مع الجيش الصيني. وفي مارس الماضي، تم وضع هذه الشركة ضمن قائمة الشركات المحظورة التي يمنع تصدير التكنولوجيا الأمريكية إليها. وهذا المثال يُعد أحد الدوافع الرئيسية لإصدار الأمر التنفيذي الأمريكي والعمل على سد الفجوات القانونية التي يمكن من خلالها لبكين الاستفادة من رؤوس الأموال الأمريكية.  

4- الحد من قدرة الصين على محاكاة الخبرات الإدارية الأمريكية: لا يقتصر الهدف من الأمر التنفيذي على تحجيم قدرة بكين على الوصول إلى التكنولوجيا المتقدمة واستخدامها لأغراض عسكرية وحسب، بل يهدف أيضاً إلى الحد من قدرتها على التعرف إلى الخبرات الإدارية لبناء مؤسسات وشركات ناجحة. إذ استفادت الصين، على مدار عقود، من وجود شركاتها في وادي السيليكون بالولايات المتحدة، وانتقلت الخبرات والمهارات الإدارية إلى الشركات الناشئة في الصين، مما أسهم في تطوير أدائها.  

تأثيرات سلبية:

انتقد الجمهوريون الأمر التنفيذي بشأن الصين؛ لأنه استهدف مجالات محددة ولم يتضمن حظراً للاستثمارات الأمريكية في مجالات واسعة بالصين. وعلى الرغم من أن هذا القرار سيدخل حيز التنفيذ العام المقبل؛ فإنه سيؤدي إلى تغذية التوترات بين أكبر اقتصادين في العالم. ويمكن استقراء أهم تداعيات ذلك القرار فيما يلي:

1- تعميق الخلافات بين واشنطن وبكين: شهدت الأشهر الماضية جهوداً من الجانبين الأمريكي والصيني لإضفاء طابع دبلوماسي وتعاوني على العلاقات الثنائية، مما مثّل فرصة – ولو بشكل ظاهري - لإبطاء وتيرة الصراع المُحتدم بين الجانبين، حيث انعكس ذلك بشكل جلي في زيارة كل من وزيري الخارجية والخزانة الأمريكيين لبكين في يونيو ويوليو الماضيين.

وعلى النقيض، يأتي إصدار هذا الأمر التنفيذي ليضع مزيداً من العقبات والضغوط أمام استكمال المسارات الدبلوماسية بين واشنطن وبكين. فبالرغم من تأكيد المسؤولين الأمريكيين أن الهدف من القرار هو معالجة مخاطر تتعلق بالأمن القومي الأمريكي، وليس العمل نحو تكريس الفصل بين الاقتصاد الأمريكي والصيني؛ فقد عكس رد الفعل الرسمي الصيني رؤيته لهذا القرار كمؤشر واضح على رغبة الولايات المتحدة في عرقلة جهود التنمية الصينية. إذ قال المتحدث باسم السفارة الصينية في واشنطن إن بلاده "تشعر بخيبة أمل كبيرة" من هذه الخطوة، مضيفاً أن تلك القيود "ستقوض بشكل خطر مصالح الشركات والمستثمرين الصينيين والأمريكيين". في حين اتهمت وزارة التجارة الصينية الولايات المتحدة بتعطيل الصناعة العالمية وسلاسل التوريد. كما وصف متحدث باسم وزارة الخارجية الصينية الأمر التنفيذي الأمريكي بأنه بمثابة "إكراه اقتصادي صارخ وتسلط تكنولوجي".

2- التأثير في النمو التكنولوجي الصيني: تحرص بكين على تعزيز الصناعات عالية التقنية وذات القيمة المضافة الأعلى كمحرك أساسي للنمو الاقتصادي. وبالتالي فإن القرار الأمريكي قد يؤثر بالسلب في قدرتها على التطوير التكنولوجي في المدى الطويل، خاصة أن المجالات التي يمكن وقف التعاون الاستثماري بشأنها قد يتم توسيعها مع مرور الوقت لتشمل المزيد، ولاسيما في حالة صعود رئيس ينتمي للحزب الجمهوري لسدة الرئاسة الأمريكية خلال الانتخابات القادمة المُقررة في نوفمبر 2024. 

وعلى الرغم من أن بكين تتأهب منذ سنوات لقيام واشنطن باتخاذ مثل هذه القرارات، حيث سعت إلى تعزيز قدراتها المحلية في التقنيات التكنولوجية الدقيقة ولاسيما الرقائق الإلكترونية؛ فإن الطريق لا يزال طويلاً أمامها لتطوير قدراتها محلياً لتصنيع الرقائق المُتقدمة، خاصة في ظل تقييد الصادرات والاستثمارات الغربية في الصين في المجالات المتعلقة بالتقنيات الدقيقة. 

3- وجود حالة من عدم اليقين بين الشركات الأمريكية والصينية: قد يعزى ذلك إلى أن التفاصيل حول اللوائح والمُتطلبات المُحددة لحظر الاستثمارات الأمريكية لا تزال غير محددة. وبالرغم من أن الحكومة الأمريكية قد تستثني بعض الصفقات، فإن ذلك لن يُقلل من وتيرة القلق الذي يسود أوساط الشركات الأمريكية في الصين والتي تبلغ أكثر من 70 ألف شركة. 

وعلى صعيد الشركات الصينية، انقسم رد الفعل بين القلق إزاء الأمر التنفيذي الأمريكي؛ لأنه سيعوق تدفق الأموال إلى بعض الشركات الصينية، وبين اتجاه آخر قلل من أهمية هذا القرار على اعتبار أن المحرك الرئيسي للشركات الصينية والأمريكية هو الربح، ومن ثم فإن الطرفين سيجدان طريقة للتعاون وتحقيق الأرباح. 

4- سعي الشركات الصينية لتأمين مصادر تمويل بديلة: بسبب التأثيرات المُستمرة لعمليات الإغلاق الصارمة التي اتبعتها بكين خلال جائحة "كورونا"، فضلاً عن عزوف عدد من الشركات الغربية ولاسيما الأمريكية عن الاستثمار في الصين بسبب احتدام التنافس الأمريكي الصيني وزيادة التوترات بين الجانبين؛ سجل رأس المال الاستثماري الأمريكي في الصين العام الماضي أدنى مستوى له في 10 سنوات، وبلغ 1.3 مليار دولار فقط، وذلك بانخفاض كبير عن ذروته التي بلغت 14.4 مليار دولار عام 2018. 

وهذا قد يكون مؤشراً على أن قرار الحظر الأمريكي لن يكون له تأثير ملموس في الاستثمارات الأمريكية المتناقصة بالفعل في الصين. لكن في كل الأحول، فإن بكين سيتعين عليها البحث عن مصادر تمويل جديدة لتعويض هذا التراجع، خصوصاً في حالة اتباع دول أوروبية ذات النهج الأمريكي. ومن المُرجح أن تلجأ الصين إلى الشرق الأوسط، ولاسيما دول الخليج، لمحاولة سد هذا العجز، وقد يتم ذلك من خلال تدشين مشروعات بحثية مشتركة ترتكز على تطوير التقنيات المتعلقة بالرقائق الإلكترونية وتطبيقات الذكاء الاصطناعي للأغراض السلمية. 

تطبيق حذر:

إن تحديد نطاق تداعيات الأمر التنفيذي لتقييد الاستثمارات الأمريكية في شركات تكنولوجية صينية، سوف يتوقف على السُبل التي سيتم الاعتماد عليها لتنفيذه، حيث يتعين على الإدارة الأمريكية التعامل بشكل حذر مع آلية تطبيقه؛ لأنه بمثابة سلاح ذو حدين، فهو يهدف إلى تحجيم قدرة بكين على تطوير تقنيات دقيقة ومتقدمة من خلال استغلال رؤوس الأموال الأمريكية، إلا أن عدم انخراط الشركات الأمريكية في مجالات التقنيات الحساسة بالصين قد يكون له أثار سلبية تتعلق بحجب بعض المعلومات المهمة التي قد تسهم في معرفة الإدارة الأمريكية لمدى التقدم التكنولوجي الذي وصلت أو تسعى إليه بكين. 

كما يتعين على واشنطن عند تطبيق الأمر التنفيذي، الأخذ في الاعتبار أهمية عدم التوسع في مجالات الحظر، وذلك حتى لا تثير حفيظة الشركات الأمريكية التي تسعى في نهاية الأمر إلى تحقيق الأرباح واستغلال سوق ضخمة مثل الصين.

ختاماً، تدرك الولايات المتحدة والصين أن التقنيات الحساسة هي مفتاح المستقبل، وأن الدولة التي ستحقق التفوق النسبي في هذه المجالات ستكون المُسيطرة على المشهد الاقتصادي العالمي. لذا فإنه من المؤكد أن الأمر التنفيذي بحظر الاستثمارات الأمريكية في التقنيات الدقيقة بالصين لن يكون الفصل الأخير في مضمار التنافس الأمريكي الصيني على الصعيد التكنولوجي، ولكنه بداية لاحتدام التنافس على المدى القصير ووصوله إلى حد الصراع على المديين المتوسط والطويل.