تُعوِّل الحكومة العراقية على التعاون مع أطراف خارجية جديدة مثل الشركات الأجنبية وبعض دول الجوار لمعالجة أزمة نقص الكهرباء لديها الممتدة منذ فترة طويلة. وفي الفترة الأخيرة، ظهرت بوادر للشراكة مع بعض الشركات الأجنبية، الأوروبية والأمريكية، لبناء محطات توليد جديدة، وإعادة تأهيل المحطات القديمة، كما لجأت بغداد في الوقت نفسه إلى بعض دول الجوار، مثل الأردن، لاستيراد الكهرباء جنبًا إلى جنب مع إيران، بيد أن الحصول على ثقة هؤلاء الشركاء وإحراز نتائج مثمرة من الاتفاقات المبرمة معهم يتطلب من الحكومة بذل جهود إضافية، خاصة فيما يتعلق بتعزيز كفاء قطاع الكهرباء وحشد الموارد المالية الذاتية والخارجية اللازمة لتنفيذ المشاريع الاستثمارية مستقبلاً.
نقص مستمر:
تضع الحكومة على قائمة أولوياتها إصلاح قطاع الكهرباء المتردي منذ فترة طويلة، حيث تواجه البلاد نقصًا كبيرًا في الكهرباء، ولا توفر الشركات المنتجة للطاقة التيار الكهربائي سوى لمدة لا تتجاوز 15 ساعة يوميًا. وعليه، يلجأ كثير من السكان للاعتماد على المولدات العاملة بالديزل للحصول على احتياجاتهم. وقد كان سوء خدمات الكهرباء من ضمن أسباب عديدة أدت لاندلاع احتجاجات شعبية على فترات متعددة، وآخرها الاحتجاجات الحالية.
ولدى العراق حاليًا طاقة قصوى لتوليد الكهرباء تتراوح ما بين 18 و19 ألف ميجاوات، إلا أنها غير كافية لتلبية كافة احتياجات البلاد، حيث أنه في فصل الصيف، تصل ذروة الطلب على الكهرباء إلى ما يتجاوز 24 ألف ميجاوات، مع العلم بأن الطلب على الكهرباء ينمو بمعدل سنوي يصل إلى 10%.
وفي ظل نقص الكهرباء المنتجة محليًا، تستورد العراق إمدادات إضافية من بعض الدول المجاورة مثل إيران، وبما قدره 1200 ميجاوات، فضلاً عن أن الأخيرة تزودها بما يتراوح بين 25 و28 مليون متر مكعب يوميًا من الغاز الطبيعي اللازم لتغذية ثلاث محطات كهرباء في بغداد بالوقود لتوليد ما يقرب من 5000 ميجاوات.
تحديات قائمة:
يواجه قطاع الكهرباء تحديات عديدة منذ فترة طويلة. يتمثل أولها، في تقادم البنية التحتية من محطات التوليد وشبكات التوزيع، حيث يتم توليد معظم الكهرباء بواسطة محطات التوربينات الغازية ومحطات التوربينات البخارية التي تستخدم الغاز الطبيعي أو الديزل كمصدر للوقود، ولم يتم تحديثها منذ سنوات طويلة. ومع تقادم البنية التحتية، يتم فقد أكثر من 40% من إجمالي الكهرباء المولدة في مرحلة التوزيع، وهو أعلى بكثير من المعدل العالمي الذي يتراوح بين 5 و15%.
فضلاً عن ذلك، تسببت المواجهات المسلحة بين القوات العراقية وتنظيم "داعش"، خلال السنوات الماضية، في تدمير كلي وجزئي لكثير من محطات التوليد في المحافظات الشمالية والغربية، وتتجاوز تكاليف إعادة بناءها 5.9 مليار دولار بحسب التقديرات الحكومية العراقية. وفي ظل هذه الأوضاع، تبدو المنظومة العراقية بحاجة ماسة إلى تحديث وإعادة بناء لسلسلة الإمدادات بما في ذلك التوليد والنقل والتوزيع.
ويتعلق ثانيها، بضعف الأداء المالي لشركات الكهرباء، وهو ما يرجع بشكل أساسي إلى أن تعريفة خدمات الكهرباء المنزلية والتجارية لا تعكس تكلفتها الحقيقية، حيث أنها لا تمثل سوى حوالي 10% من التكلفة التشغيلية لمحطات التوليد، فضلاً عن ضعف تحصيل فواتير الكهرباء من المستهلكين والتي لا يتجاوز معدلها 30% من قيمتها الإجمالية، على نحو يتسبب بدوره في تراجع الموارد المالية للشركات وتقويض قدرتها على دعم الإنفاق الاستثماري.
وينصرف ثالثها، إلى نقص إنتاج الوقود اللازم لتشغيل المحطات محليًا. وبالنسبة للغاز الطبيعي الذي يعتبر الوقود الرئيسي لتوليد الكهرباء في البلاد بجانب الديزل، فتنتج العراق منه كميات تقدر بنحو 13 مليار متر مكعب ومعظمه مصاحب لحقول النفط، في حين أن استهلاكها منه بلغ 17 مليار متر مكعب في العام نفسه، بما يعني أن هناك فجوة قدرها 4 مليار متر مكعب، مع العلم بأن هناك كميات كبيرة من الغاز المصاحب يتم حرقها وقد قدرت بنحو 17.8 مليار متر مكعب في العام الماضي طبقًا للبنك الدولي، مما يمثل هدرًا اقتصاديًا كبيرًا إلى جانب أضراره البيئية.
ويتصل رابعها، بنقص التمويل اللازم لإعادة بناء وتأهيل المنظومة الكهربائية في البلاد في ظل الضائقة المالية التي تعاني منها، لا سيما مع انخفاض عائدات النفط منذ عام 2014. وتشير التقديرات الحكومية إلى أن إصلاح وتحديث شبكة الكهرباء يحتاج لاستثمارات لا تقل عن 30 مليار دولار، في حين أنه خصص في ميزانية عام 2019 ما نحو 3.3 مليار دولار فقط لدعم البنية التحتية للمنظومة الكهربائية.
خيارات مختلفة:
من أجل التعامل مع أزمة الكهرباء في المدى القصير، تتطلع الحكومة لاستيراد الكهرباء من بعض الدول المجاورة، مثل الأردن وتركيا ودول مجلس التعاون الخليجي. ومن المقرر أن يتم ربط الشبكة الكهربائية العراقية بالمنظومة الكهربائية الخليجية في عام 2020، ويلي ذلك ربطها بالمنظومة الأردنية بحلول عام 2021. وسيوفر ذلك للعراق إمدادات من الكهرباء تقترب من 1000 ميجاوات. كما تجري بغداد مباحثات أيضًا مع تركيا لإعادة إحياء ربطها بالشبكة الكهربائية التركية بما يوفر لها دعمًا إضافيًا.
وعلى جانب آخر، لا يبدو أن العراق على استعداد للتخلي عن إمدادات الكهرباء أو الغاز الإيرانية، وهو ما أكده وزير النفط ثامر الغضبان، في 11 سبتمبر الفائت، بقوله أن العراق ستواصل استيراد الغاز من إيران وذلك على الرغم من الضغوط الأمريكية لوقفه، بما يمثل أمرًا حيويًا بالنسبة للقطاع، حيث تُؤمِّن الإمدادات الإيرانية أكثر من ربع احتياجات البلاد من الكهرباء.
وتتطلع الحكومة أيضًا للتعاون مع بعض الشركات الأجنبية لإنشاء محطات جديدة وإجراء أعمال الصيانة اللازمة للمحطات القائمة. وفي هذا السياق، وقعت، في أكتوبر 2018، خارطة طريق لمدة تصل إلى خمس سنوات مع شركتى "جنرال إلكتريك" الأمريكية و"سيمنس" الألمانية لإعادة تأهيل قطاع الكهرباء. وقد قدمت الأخيرة عرضًا لإضافة طاقة إنتاجية قدرها 11 جيجاوات من الكهرباء على مدى أربع سنوات، بينما عرضت الأولى خطة منافسة لتوليد الطاقة بقوة 14 جيجاوات. وعلى الحكومة في الفترة المقبلة المفاضلة بين هذين العرضين أو المزج بينهما طبقًا للجدوى الاقتصادية للمشاريع المقدمة مع الأخذ في الاعتبار عوامل جيوسياسية أخرى.
وكخطوة، على ما يبدو، نحو تنفيذ العرضين السابقين، من المقرر أن تبدأ شركة "سيمنس" و"أوراسكوم كونستراكشون" قريبًا في إعادة بناء محطتين للكهرباء في بيجي بطاقة إنتاجية مجمعة تبلغ 1.6 جيجاوات بموجب اتفاقية مع الحكومة في سبتمبر الماضي، وهو ما بمكن أن يساهم جزئيًا في إعادة بناء المنظومة الكهربائية في شمال العراق.
بيد أن استكمال عملية إعادة بناء وإصلاح قطاع الكهرباء يتطلب من الحكومة جهودًا إضافية، منها دعم الكفاءة الإدارية بالقطاع، بجانب حشد الموارد المالية من البنوك والمؤسسات المالية الدولية والإقليمية ودول الجوار لتوفير التمويل اللازم للمشاريع الاستثمارية في المستقبل.