أخبار المركز
  • د. إبراهيم غالي يكتب: (الكابوس النووي القادم في آسيا والعالم)
  • د. محمود سلامة يكتب: (استجابة ثلاثية: بدائل تقليل الخسائر التعليمية في صراعات الشرق الأوسط)
  • مصطفى ربيع يكتب: (إخفاقات متكررة: هل تنجح استطلاعات الرأي في التنبؤ بالفائز بالرئاسة الأمريكية 2024؟)
  • د. رامز إبراهيم يكتب: (الحل الثالث: إشكاليات إعادة توطين اللاجئين بين التسييس وإزاحة الأعباء)
  • د. إيهاب خليفة يكتب: (التكنولوجيا العمياء: كيف وظفت إسرائيل الذكاء الاصطناعي في حرب غزة ولبنان؟)

الاتصال الاستراتيجي:

كيف تدير أوكرانيا حملة علاقاتها العامة؟

23 أغسطس، 2024


نجحت كييف، منذ بدء الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير عام 2022 -وفي إطار موازنة التفوق العسكري الروسي- في تدشين حملة علاقات عامة مكثفة وفعّالة؛ استهدفت في المقام الأول حشد الدعم الشعبي والرسمي من الدول الغربية، والتأثير في الرأي العام العالمي، وكذلك تأمين المساعدات العسكرية والاقتصادية اللازمة؛ وهو ما أظهر قوة عامل الاتصال الاستراتيجي في الحروب الحديثة، ذلك أن الاستخدام الأوكراني الفعّال للمنصات الإعلامية والرقمية، والقنوات الدبلوماسية المختلفة؛ ساعد كييف على تشكيل سردية خاصة عن الحرب لدى المسؤولين والجمهور الغربي؛ مما أثر في نهاية المطاف في ديناميكيات وسير الحرب بعد نحو عامين ونصف العام من بدايتها.

أبعاد متداخلة:

تمكنت أوكرانيا من إدارة حملتها للعلاقات العامة منذ عام 2022 بفعالية؛ لحشد الدعم الغربي خلال الحرب من خلال توظيف جملة من الأدوات؛ وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:

1. دور زيلينسكي: تأتي تحركات الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، في طليعة حملة العلاقات العامة الأوكرانية؛ إذ استغل خبراته في المجال الإعلامي لصياغة سردية قوية ومؤثرة حول الصراع معتمداً على تصدير ما يسميه "نضال" أوكرانيا من خلال خطاباته المتكررة للجمهور، والتي غالباً ما أُلقيت عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو التلفزيون، كما استخدم زيلينسكي تلك المنصات لمناشدة المجتمع الدولي بشكل مباشر، وتأطير ما تقوم به أوكرانيا كجزء أساسي من أجل الدفاع عن القيم الديمقراطية والغربية من مساعي الطمس الروسية. ومن ذلك المنطلق، استند الرئيس الأوكراني إلى المبادئ الديمقراطية المشتركة والضرورة الأخلاقية لدعم أوكرانيا، في جولاته المكوكية التي قام بها منذ بدء الحرب؛ إذ قام بعدة زيارات رئيسية إلى الولايات المتحدة، وعدد من الدول الأوروبية مثل: ألمانيا، وفرنسا، وإنجلترا، كما شارك كذلك في بعض قمم واجتماعات الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، لتأكيد حاجة كييف إلى المساعدات العسكرية والدعم الاقتصادي والسياسي الغربي في مواجهة روسيا؛ وهو ما يقابل عادةً بتعهدات غربية بزيادة المساعدات المالية والعسكرية. 

2. توظيف وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية: برز توظيف وسائل التواصل الاجتماعي في أوكرانيا كعنصر أساسي في استراتيجيتها للعلاقات العامة، فمن خلال الاستفادة من منصات مثل: تويتر، وفيسبوك، وتليغرام، تسعى كييف إلى تقديم تحديثات وروايات مباشرة عن سير الأحداث للجمهور داخلياً وخارجياً؛ وهو ما يضمن إبراز المنظور الأوكراني للحرب ومحطاتها؛ ومن ثم تحاول تعبئة حركات شعبية مؤيدة، وتعزز أصوات جماعات الشتات الأوكراني، بالإضافة إلى إبقاء الصراع محط الأنظار الدولية.

3. التعامل مع وسائل الإعلام الغربية: استهدفت أوكرانيا تسهيل وصول الصحفيين المرتبطين بالوكالات والمنصات الإعلامية البارزة حول العالم لتغطية الحرب من خطوطها الأمامية، حتى تضمن أن تكون تلك التغطية من منظور يسلط الضوء على "الصمود" الأوكراني أمام "العدوان" الروسي غير المبرر؛ وهو ما يجعل الرواية الأوكرانية للحرب أكثر ارتباطاً بالجمهور الغربي. علاوة على ذلك، تنظم أوكرانيا بين الحين والآخر مقابلات مع كبار المسؤولين، بما في ذلك الرئيس زيلينسكي، ووزير الخارجية دميتري كوليبا؛ يتم تحديد توقيتها بحيث تتزامن مع بعض المحطات المهمة في الصراع؛ مما يضمن وصول رسائل أوكرانيا إلى الجمهور الغربي؛ ومن ثم ضمان حشد التضامن والمساعدات الغربية بشكل مستمر.

4. أدوار مجموعات الضغط: تتفق العديد من التقديرات على وجود مجموعات ضغط بالولايات المتحدة تعمل على إقناع نواب الكونغرس بصورة مستمرة بمواصلة وتكثيف الدعم العسكري والمالي الأمريكي لكييف؛ إذ يقود تحركات تلك المجموعات بعض الشخصيات البارزة داخل المجتمع الأمريكي مثل: رجل الأعمال الأمريكي ريتشارد إيديلمان، وعضو جماعة الضغط في الحكومة الأوكرانية، دانييل فاجديتش، والمدير التنفيذي لشركة SKDKnickerbocker، ستيفن كروبين، ومؤسس شركة YourGlobalStrategy، شاي فرانكلين، المعروف بارتباطه بمنظمات يهودية وصهيونية.

وفي ذات السياق، استعانت أوكرانيا ببعض شركات الاستشارات والعلاقات العامة لمساعدتها على حشد التأييد الدولي والتأثير في الرأي العام العالمي خلال الحرب، ومنها على سبيل المثال:

• Edelman: أدت شركة Edelman، وهي شركة أمريكية رائدة في مجال العلاقات العامة، دوراً مهماً في دعم أوكرانيا من خلال الاستفادة من خبرتها الواسعة في الاتصالات الاستراتيجية والعلاقات الإعلامية؛ إذ ركزت على إدارة الحملات الإعلامية البارزة وتأمين التغطية الإعلامية المناسبة لتضخيم الرواية الأوكرانية، وذلك من خلال تنسيق الإحاطات الصحفية، وتسهيل المقابلات مع المسؤولين الأوكرانيين، وصياغة محتوى مؤثر يسلط الضوء على تداعيات الصراع وأثره السلبي على الأمن العالمي. كما صاغت الشركة، في بعض المناسبات، الخطابات والتصريحات العامة للقادة الأوكرانيين؛ بحيث تجعلها أكثر توافقاً مع القيم الديمقراطية الغربية.

• SKDKnickerbocker: هي شركة استشارية أمريكية بارزة في مجال الشؤون العامة والاستشارات السياسية، وتحظى بعلاقات وثيقة مع إدارة جو بايدن؛ وقد أدت دوراً حاسماً في دعم أوكرانيا من خلال مساعدة الحكومة الأوكرانية وحلفائها على صياغة ونشر الرسائل والسرديات المتعلقة بمجريات الحرب للجمهور الغربي، كما سلطت الشركة في حملاتها، الضوء على بعض الانتهاكات الحقوقية لعناصر من القوات الروسية؛ في إطار حشد الرأي العام ودعم الضغط الغربي على روسيا. عطفاً على ذلك، استفادت شركة SKDK من شبكتها الواسعة داخل الدوائر السياسية الأمريكية للضغط من أجل زيادة الدعم لأوكرانيا، وتأمين حزم مساعدات حاسمة والحفاظ على الدعم الحزبي لأوكرانيا في الكونغرس الأمريكي؛ بل أسهم نهجها في الحفاظ على جبهة غربية قوية وموحدة لدعم أوكرانيا ضد روسيا.

• YourGlobalStrategy: هي شركة استشارات استراتيجية، معروفة بتحكم الدوائر اليهودية بها، وتعمل بشكل نشط في دعم أوكرانيا من خلال التشبيك مع المسؤولين الأوكرانيين؛ لتعزيز وإعادة توجيه تحركاتهم الدبلوماسية، كما أن الشركة توفر مساحة فعّالة لإشراك المجتمعات اليهودية وإسرائيل في دعم أوكرانيا. بالإضافة إلى ذلك، أدت YourGlobalStrategy دوراً رئيسياً في تشجيع القادة والمجتمعات اليهودية في الولايات المتحدة وأوروبا على تقديم الدعم السياسي والعسكري لأوكرانيا؛ ومن ثم تعزيز مكانة أوكرانيا على الساحة العالمية، كما نسقت الشركة مع بعض المنظمات ووكالات الإغاثة اليهودية لتوفير الغذاء، والإمدادات الطبية، والمساعدات المالية، للنازحين –ولاسيما الأوكران اليهود- بسبب الحرب.

• BGR Group: هي شركة رائدة في مجال الضغط والعلاقات العامة ومقرها واشنطن؛ وقد أدت دوراً مهماً في دعم أوكرانيا من خلال الدعوة إلى زيادة المساعدات الأمريكية والدولية داخل الكونغرس في ظل استمرار الحرب، كما عملت الشركة بشكل وثيق مع ممثلي الحكومة الأوكرانية والمنظمات المتحالفة لضمان بقاء احتياجات أوكرانيا أولوية لصناع السياسات في الولايات المتحدة، وذلك عبر تنسيق التواصل الإعلامي، وتنظيم وتسهيل الاجتماعات رفيعة المستوى بين المسؤولين الأوكرانيين والأمريكيين. 

مكاسب أوكرانية:

حققت حملة العلاقات العامة التي أطلقتها أوكرانيا منذ بدء الحرب جملة من المكاسب؛ مكنتها من تعزيز قدرتها على الصمود أمام التفوق والضغط العسكري الروسي المستمر، لعل من أبرزها الآتي:

1. كان لحملة العلاقات العامة الأوكرانية دور بارز في تأمين الدعم العسكري الواسع من الدول الغربية لكييف، وهو ما شمل الأسلحة الغربية المتطورة، والتدريب وتبادل المعلومات الاستخباراتية، والدعم اللوجستي، وقد قدمت الولايات المتحدة، وأعضاء الناتو، والاتحاد الأوروبي مليارات الدولارات في شكل مساعدات عسكرية، تضمنت الصواريخ المضادة للدبابات، وأنظمة الدفاع الجوي، والطائرات المسيرة، والمدفعية، كما قدمت المؤسسات المالية الدولية، إلى جانب الحكومات الغربية، مليارات الدولارات في شكل مساعدات اقتصادية وقروض ومنح لمساعدة أوكرانيا في إدارة الضغوط الاقتصادية الناجمة عن الحرب.

وفي ذلك الإطار، تشير أحدث إحصائيات لمعهد "كايل" للاقتصاد العالمي، إلى أن الولايات المتحدة تظل أكبر مزود للمساعدات لأوكرانيا، بإجمالي مخصصات يبلغ 75.1 مليار يورو، مدفوعة إلى حد كبير بمساعداتها العسكرية البالغة 51.6 مليار يورو، تليها ألمانيا (14.7 مليار يورو)، والمملكة المتحدة (13.1 مليار يورو)، واليابان (9.1 مليار يورو)، وكندا (7.2 مليار يورو). وبشكلٍ عام، خصصت أوروبا -أي مؤسسات الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء وكذلك المملكة المتحدة والنرويج وأيسلندا وسويسرا- ما مجموعه 110.2 مليار يورو، نصفها تقريباً (51.5 مليار يورو) للمساعدات العسكرية.

2. سلطت حملة العلاقات العامة الأوكرانية، الضوء على الأزمة الإنسانية في أوكرانيا؛ مما أدى إلى تدفق هائل للمساعدات الإنسانية من الحكومات الغربية، والمنظمات غير الحكومية، والمنظمات الدولية، وقد ضمنت الحملة الأوكرانية حصول اللاجئين الأوكرانيين على الدعم والحماية في البلدان الأوروبية المضيفة، والتي عرضت على الأوكرانيين اللجوء وتقديم الخدمات الاجتماعية وبرامج التكامل.

3. نجحت حملة العلاقات العامة الأوكرانية في إبقاء الصراع في دائرة الضوء والاهتمام العالمية، من خلال ضمان التغطية الإعلامية المستمرة له على الرغم من طول أمده، وتداخله مع العديد من الصراعات والتطورات الاقتصادية، والسياسية، والأمنية التي شهدها العالم منذ عام 2022 وحتى الآن.

4. عززت الحملة الأوكرانية، وما تضمنته من نجاحات في حشد تأييد غربي واسع، معنويات الشعب الأوكراني وعززت شرعية مواجهة أوكرانيا للقوات الروسية من أجل أهداف السيادة والاستقلال، كما ساعد الدعم الغربي الذي تم حشده من خلال حملة العلاقات العامة أيضاً على تعزيز الهوية الوطنية الأوكرانية؛ إذ تنامى لدى أوكرانيا الشعور بأنها رمز عصري للمقاومة.

دلالات الحملة الأوكرانية:

تعكس حملة العلاقات العامة الأوكرانية وفاعليتها في حشد التأييد والدعم الغربي لها، جملة من الدلالات التي تتصل في جزء منها بشكل وطريقة إدارة وتسيير الحروب الحديثة؛ وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي: 

1. قوة الاتصالات الاستراتيجية: أبرزت حملة العلاقات العامة الأوكرانية، مدى أهمية الاتصالات الاستراتيجية كعنصر حاسم في الحرب الحديثة، ذلك أن القدرة على تشكيل السرديات، والتأثير في الرأي العام، وحشد الدعم الخارجي، أضحت مهمة بقدر أهمية الاستراتيجيات والتكتيكات العسكرية التقليدية، وهو ما أرسى كيفية استخدام الاتصالات والعلاقات بشكل فعال في حالات الصراع لتكملة الجهود العسكرية وتحقيق الأهداف الاستراتيجية.

2. عولمة سرديات الحرب: أظهرت التحركات الأوكرانية، كيفية عولمة سرديات الحرب من خلال الوسائط الرقمية ومنصات التواصل الاجتماعي؛ إذ إن قدرة أوكرانيا على الترويج لمحنتها وحشد الدعم الغربي الواسع أثبتت أنه في العصر الرقمي الحالي، لا تقتصر الصراعات على مواقعها الجغرافية ولكن يمكن خوضها على جبهات متعددة يكون لها ارتدادات وتأثيرات واضحة في الساحة العالمية. 

3. دور القيادة في الاتصال أثناء الأزمات: أبرز دور الرئيس زيلينسكي في حملة العلاقات العامة، التأثير الذي يمكن أن تحدثه القيادة القادرة على التواصل في أثناء الأزمات؛ إذ أدت نداءاته المباشرة وخطاباته العاطفية وحضوره الإعلامي المستمر إلى إضفاء الطابع الإنساني على الصراع، وجعل القضية الأوكرانية قضية شخصية للقطاعات الغربية الواسعة.

4. تأثير الرأي العام في السياسة الدولية: أظهرت حملة أوكرانيا -ولاسيما في المراحل الأولى من الحرب- مدى فعالية الرأي العام المحشد في التأثير في سياسة الحكومات؛ إذ أن التأثير في الرأي العام الغربي قد أدى بصورة أو بأخرى إلى الحفاظ على ديمومة الدعم السياسي والعسكري الغربي لأوكرانيا؛ مما يؤكد قوة المشاعر العامة في تشكيل قرارات السياسة الخارجية.

على الرغم من فاعلية حملة العلاقات العامة الأوكرانية منذ فبراير 2022 حتى الآن؛ فإن قدرتها على الحفاظ على الدعم الغربي المالي والعسكري وسط ما يتوارد بين الحين والآخر حول تراجع الزخم الغربي بشأن الدعم السخي لأوكرانيا؛ سوف تتوقف على تكييف أوكرانيا لروايتها باستمرار؛ بحيث تتوافق مع المشاعر العامة والسياسة المتغيرة داخل الأوساط الغربية، ولاسيما مع قرب إجراء الانتخابات الرئاسية الأمريكية واحتمالات فوز دونالد ترامب، كما سيتعين على كييف إبراز نجاحات واختراقات ميدانية مؤثرة في مسار الحرب؛ بحيث تقتنع الدول الغربية بأن حزم المساعدات الضخمة تُحدث فرقاً حقيقياً على أرض الواقع.