أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

عقابية أم تعاونية؟:

الناتو واستراتيجية التعامل مع التهديد الروسي

04 مايو، 2015


إعداد: باسم راشد

لاشك أن أحد أهم وأصعب التحديات التي تواجه حلف شمال الأطلنطي "الناتو" هو التحدي الروسي، في ظل ما تقوم به السياسة الخارجية الروسية من تصرفات تؤرق الدول الأعضاء في الحلف. ولم تكن الأزمة الروسية الأوكرانية الأخيرة سوى حلقة في سلسلة من السلوكيات التي يتبعها "الدب الروسي" في هذه المنطقة من العالم، والتي تفرض على حلف الناتو ضرورة البحث عن أساليب مختلفة غير العقوبات الاقتصادية لمواجهة هذا الخطر الروسي المتزايد.

حول هذه القضية، نشرت مؤسسة راند RAND Cooperation دراسة تحت عنوان: "حلف الناتو يحتاج إلى استراتيجية شاملة للتعامل مع روسيا"، لعدد من الباحثين بالمؤسسة، وهم "أولجا أوليكرOlga Oliker، مايكل ماكنيرني Michael J. McNerney، ولين ديفيس Lynn E. Davis" والذين اتفقوا جميعاً على ضرورة وجود استراتيجية شاملة للتعامل مع هذا التمدد الروسي، بدلاً من التعامل مع هذا الأمر بشكل منفرد وجزئي.

وقد طرح الكُتَّاب في هذا الإطار استراتيجيتين متعارضتين؛ الأولى هي "استراتيجية العقاب والانفصال"، أما الثانية فهي "استراتيجية المرونة والارتباط"، مع التطرق إلى وضع القوات العسكرية الأمريكية في كل استراتيجية، وكذلك طبيعة المخاطر التي تحتويها أيٍ منهما.

استراتيجية "العقاب والانفصال"

تهدف تلك الاستراتيجية في المقام الأول إلى ردع أي عدوان مستقبلي قد تقوم به روسيا على إحدى الدول المجاورة لها، حتى لو لم تكن من دول حلف الناو، بل وإيفاد رسالة إلى موسكو مفادها أن حلف الناتو قادر على الرد بقوة، وإن بلغ الأمر الرد العسكري؛ وذلك عن طريق عدد من خطوات، لعل أبرزها:ـ

1 ـ تقوية القدرات العسكرية الدفاعية لدول الناتو، وكذلك التهديد بالعقوبات على روسيا.

2 ـ دعوة دول الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو إلى الانفصال عن روسيا، ووقف علاقات التعاون في العديد من المجالات كوسيلة عقابية إضافية.

3 ـ اتخاذ الناتو بعض السياسات دون مراعاة لمصالح وأهداف روسيا في المنطقة، مع اتباع سياسات أخرى من شأنها إضعاف المصالح الروسية سياسياً واقتصادياً مثل الاستمرار في سياسة العقوبات الاقتصادية التي تهدف إلى تدمير الاقتصاد الروسي.

4 ـ تقديم الدعم السياسي والعسكري والاقتصادي القوي لأوكرانيا، لتقويتها وتقليل اعتمادها على موسكو.

5 ـ ضرورة إبراز احتمالية استخدام القوة من جانب دول حلف الناتو إذا تعرضت إحدى دوله لاعتداء. ويشير الكُتَّاب إلى أن العبء الأكبر يقع على القوات العسكرية الأمريكية في هذا الصدد، إلى جانب دول التحالف لردع أي عدوان روسي.

وضع القوات العسكرية الأمريكية في تلك الاستراتيجية:

يشير الكُتَّاب إلى أن تلك الاستراتيجية تتضمن بالضرورة زيادة القوات العسكرية الأمريكية في أوروبا بشكل عام، وذلك خلال عدة طرق على النحو التالي:ـ

1 ـ أن تزيد دول الناتو والشركاء الراغبون مستوى أنشطتهم العسكرية في الإقليم، مع التركيز على التعاون مع القوات العسكرية الأمريكية لطمأنة الدول الأوروبية من أي تهديد روسي. ومن ناحية أخرى تقوم القوات الأمريكية بقيادة عملية التوسع في الأنشطة العسكرية مع دول الناتو فيما يتعلق بالتخطيط المشترك وتبادل المعلومات وزيارات السفن المتكررة.

2 ـ زيادة القوات العسكرية الأمريكية في الإقليم بهدف الاستجابة بفعالية إلى أي عدوان روسي محتمل على دول البلطيق أو بولندا، بحيث تتمركز تلك القوات في دولة مثل بولندا تجنباً لإضاعة مزيد من الوقت والمجهود في عملية نقل الجنود والمعدات من الولايات المتحدة، كما يمكن للناتو أن يضع قوات جوية وبحرية إضافية حول البحر الأسود استعداداً لأي عدوان.

3 ـ تواجد القوات العسكرية الأمريكية في دول البلطيق كأداة ردع لأي عدوان روسي، حيث إن هذا التواجد في الدول المجاورة لروسيا سيجعل من الواضح أن أي اعتداء روسي على تلك الدول يعني احتمالية الدخول في مواجهة مباشرة مع واشنطن، وهو ما يختلف عن النقطة السابقة التي ترتبط بالاستجابة حال وقوع العدوان لا الردع.

مخاطر استراتيجية العقاب والانفصال:

تنطوي تلك الاستراتيجية على عدة مخاطر طبقاً لماً أشار إليه الكُتَّاب، لعل أهمها:ـ

1 ـ على الرغم من أن قدرات الناتو العسكرية أقوى من القدرات الروسية، فإن قدرة موسكو على تجميع قواتها على الحدود وتهديد جيرانها أسهل من تجميع قوات الناتو للاستجابة أو الرد على هذا العدوان.

2 ـ في حالة فشل الردع في تلك الاستراتيجية، فهذا معناه أن الناتو يجب أن يستمر في سياسته العقابية العسكرية ضد موسكو، وهو ما قد يزيد من مخاطر الاستجابة الروسية، خاصة في ظل امتلاك روسيا لأسلحة نووية وقدرتها على التصعيد بما قد يهدد أوروبا بأكملها.

3 ـ محدودية تأمين الدول غير الأعضاء في الناتو، لاسيما في ظل معارضة بعض الدول داخل التحالف لهذا الأمر، ناهيك عن أن الدول التي قد تشملها تلك الحماية قد تثير بنفسها توترات مع روسيا بما يهدد الجميع.

4 ـ الاقتصار على الأدوات العسكرية دون غيرها لردع روسيا، دون النظر إلى أي أدوات أخرى يمكن استخدامها، يعني أنه في حالة إثارة القلاقل وعدم الاستقرار في إحدى الدول، فلن يكون التحالف قادراً على المواجهة، وهو ما حدث من الجانب الروسي في شبه جزيرة القرم وفي شرق أوكرانيا، فيما يتعلق بإثارة الاضطرابات من الناحية الاقتصادية والاجتماعية قبل العسكرية.

5 ـ تكلفة الاستراتيجية تمثل خطراً آخراً في ظل حالة الجمود التي تسيطر على الكونجرس الأمريكي تجاه دعم السلاح والإنفاق العسكري في الدول الأخرى.

6 ـ صعوبة استمرار تلك الاستراتيجية طوال الوقت، لأن بعض الدول قد ترفض أي استراتيجية من شأنها أن تغلق كل أبواب التعاون والتواصل مع روسيا، نظراً لطبيعة العلاقات فيما بينها.

استراتيجية "المرونة والارتباط"

تسعى تلك الاستراتيجية إلى تشجيع التكامل السياسي والاقتصادي بين دول الناتو والاتحاد الأوروبي وخلق دوافع للإصلاح الديمقراطي لمعالجة الضعف الداخلي في تلك الدول، وطمأنة الحلفاء والشركاء الجدد، وإيجاد طرق للتعاون مع روسيا.

وتفترض هذه الاستراتيجية أنه بمرور الوقت ستتغير السياسات الروسية تجاه دول الجوار إذا وجدت إصلاحات ديمقراطية بداخلها، بما قد يساهم في أن يرسل الناتو رسالة لموسكو مفادها أن جهودها لزعزعة الاستقرار وإثارة الاضطرابات داخل تلك الدول ستبوء بالفشل، لأن تلك الدول ليست هشة من الداخل، وبالتالي لن تحقق السياسات الروسية الخارجية الهدف المرغوب منها.

وطبقاً لتلك الاستراتيجية أيضاً سوف تستمر سياسة العقوبات الاقتصادية المفروضة على موسكو طالما استمر السلوك الروسي غير مقبول بالنسبة لتلك الدول، لكن لن يكون الهدف منها تدمير الاقتصاد الروسي.

ويشير الكُتَّاب إلى أن البُعد الأكثر أهمية في هذه الاستراتيجية هو أنها ستفتح الباب دائماً للتعاون مع روسيا أينما ووقتما كانت الأخيرة مستعدة لذلك. ويجب أن يبدأ هذا التعاون باتخاذ بعض الخطوات العملية لتقليل حدة التوتر بين الطرفين وبناء معايير وإجراءات للثقة حول الأزمة الأوكرانية؛ كأن يتم إنشاء نظام تبادل معلومات بين الناتو وروسيا وأوكرانيا حول التطورات في شرق أوكرانيا، ومناقشة الخيارات التي ترضي جميع الأطراف. كما يمكن أن يمتد هذا الأمر إلى جورجيا ومولدوفا وكل المناطق التي توجد بها نزاعات سياسية أو عسكرية.

وإذا سارت تلك الاستراتيجية كما مُخطط لها، برغم عدم واقعيتها نظراً للنزاع الحالي حول أوكرانيا، فإنها ستتيح الفرصة لأوروبا بما فيها روسيا أن تبني نظاماً للسلام الدائم في الإقليم بما يحافظ على المصالح الروسية من ناحية، ويضمن أمن واستقرار جيرانها من ناحية أخرى.

وضع القوات العسكرية الأمريكية في تلك الاستراتيجية:

تساهم عناصر "مبادرة الطمأنينة الأوروبية" التي أعلنها الرئيس أوباما في تنفيذ تلك الاستراتيجية بشكل فعَّال، بما قد يساعد في تخفيض التواجد العسكري الأمريكي، مع التركيز على تحسين البنية الأساسية والأنشطة التعاونية بين القوات العسكرية، وذلك من خلال الآتي:ـ

1 ـ الاستفادة من خبرات الولايات المتحدة في تقوية وتحسين قدرات دول الناتو على مواجهة التهديدات غير التقليدية مثل التهديدات السيبرانية والاستخباراتية، وتحسين بنية نقل الطاقة للمدنيين.

2 ـ تنمية وتعزيز أنشطة التعاون الأمني بين الولايات المتحدة وبين دول الناتو مثل اختبارات بناء قدرات الشركاء، والتي تتضمن تدريب وتسليح وتعليم القوات العسكرية، مع مراعاة خصوصية كل دولة وطبيعة ظروفها السياسية والاقتصادية. كما سيتبنى المسؤولون الأمريكيون في هذه الاستراتيجية مزيداً من الأنشطة التعاونية المختلفة بطرق مبتكرة، بما يتزامن مع التهديدات المتغيرة التي يواجهها الإقليم.

مخاطر استراتيجية المرونة والارتباط:

تكمن أبرز المخاطر التي تواجه تلك الاستراتيجية فيما يلي:

1 ـ صعوبة وتعقيد مهمة تقليل هشاشة دول الناتو وشركائها، فضلاً عن أمدها الطويل، لأنها تتطلب من ناحية تغييرات سياسية صعبة أبرزها تحسين أوضاع الأقليات الروسية في استونيا ولاتفيا، ومن ناحية ثانية تحتاج الأدوات العسكرية وغير العسكرية إلى تكامل وتعاون العديد من المؤسسات داخل وبين الدول وبعضها البعض، ومن ناحية ثالثة تحتاج إلى مصادر تمويل جديدة.

2 ـ احتمالية أن تكون الخطوات التي تتخدها الولايات المتحدة داخل الناتو غير كافية لطمأنة الدول الأعضاء الآخرين.

3 ـ أما الخطر الأكبر الذي يواجه تلك الاستراتيجية هو اعتمادها بشكل أساسي على رد الفعل الروسي، إذ قد يرى الجانب الروسي جهود الناتو لتقليل هشاشة الدول الأعضاء بالتزامن مع العقوبات الاقتصادية بمثابة عدوان في حد ذاته، وبالتالي يرفض التعاون وهو ما قد يهدم أساس تلك الاستراتيجية تماماً.

خاتمة

أوضح الكُتَّاب المشاركون في إعداد تلك الدراسة ميلهم إلى تبني استراتيجية "المرونة والارتباط"، والتي من شأنها أن تحقق نتائج ملموسة في المستقبل، لأنها تضمن تحجيم السلوك الروسي الخارجي إلى حد ما، مؤكدين أنه إذا ثبُت فشل تلك الاستراتيجية، فإنه يمكن اتباع استراتيجية "العقاب والانفصال".

أما في حالة تبني "استراتيجية العقاب والانفصال" أولاً، فسيكون من غير المنطقي اتباع "استراتيجية الارتباط"، لأنها ستثبت قوة روسيا في هذه الحالة، ومن المرجح أنها لن تقبل بها؛ مؤكدين على أن "استراتيجية الارتباط"  بُنيت على قيم حلف الناتو، وعلى رفض اعتبار روسيا خصم في "مباراة صفرية"، وهو ما قد يمهد الطريق لتحقيق الأمن الأوروبي وتعزيز قيم الليبرالية والديمقراطية داخل كل أوروبا بما فيها روسيا.

* عرض مُوجز لدراسة تحت عنوان: "حلف الناتو يحتاج إلى استراتيجية شاملة للتعامل مع روسيا"، والمنشورة عام 2015 عن مؤسسة "راند" الأمريكية.

المصدر:       

Olga Oliker, Michael J. McNerney and Lynn E. Davis, NATO Needs a Comprehensive Strategy for Russia (USA, RAND Corporation, 2015).