أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

انتكاسة أوروبية:

التداعيات الإقليمية للانسحاب الفرنسي من مالي

16 فبراير، 2022


أشارت تقارير صحفية في مطلع فبراير 2022 إلى وجود تحركات فرنسية مكثفة في الوقت الراهن للإعلان عن الانسحاب الكامل من مالي. وقد ألمح التقرير إلى أن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، يستعد للإعلان عن انسحاب كامل القوات الفرنسية المشاركة في عملية "برخان" من باماكو، وذلك خلال القمة الأفريقية – الأوروبية التي ستستضيفها بروكسل في 17 فبراير الجاري. 

وأكد ذلك تصريحات وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لودريان، الذي أشار إلى أن الظروف لم تعد مواتية لاستمرار القوات الفرنسية في قتال الجماعات الإرهابية في مالي، وأن ماكرون قد طلب ضرورة إعادة هيكلة القوات الفرنسية في المنطقة.

سياق مأزوم

شهدت الأيام الأخيرة جملة من التطورات المتسارعة المتعلقة بالحضور الفرنسي والأوروبي في مالي، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:

1- توترات متصاعدة بين باماكو وباريس: تصاعد التوتر بشكل ملحوظ بين فرنسا ومالي، منذ وصول العقيد، عاصمي جويتا، للسلطة في أعقاب الانقلاب العسكري الأخير في باماكو، في مايو 2021. وتفاقمت هذه التوترات إثر تعاقد باماكو مع عناصر من مرتزقة فاجنر الروسية لدعم جهود الحكومة المالية في حفظ الأمن ومكافحة الجماعات الإرهابية أواخر العام الماضي، فضلاً عن مطالبتها باريس بمراجعة الاتفاقيات الدفاعية الثنائية بينهما، وقيامها بطرد السفير الفرنسي لديها في يناير 2022، على خلفية تصريحات لودريان، التي أعلن فيها أن المجلس العسكري الحاكم في مالي لا يتمتع بالشرعية.

ويضاف لذلك التصاعد المضطرد في حدة الرفض الداخلي من قبل شعوب دول الساحل للحضور الفرنسي، والذي عكسته التظاهرات المتكررة المناهضة لباريس، فضلاً عن تكرار محاولات المواطنين المحليين لقطع الطريق على القوافل العسكرية الفرنسية.

2- هيكلة الوجود الأوروبي في الساحل: أجرى وزراء دفاع 15 دولة أوروبية، في 28 يناير الماضي، مشاورات موسعة بشأن مستقبل التواجد الأوروبي في مالي، وذلك على خلفية مطالبة باماكو بمغادرة القوات الدنماركية المشاركة في عملية "تاكوبا" الأوروبية الأراضي المالية، واستجابة الدنمارك لذلك. 

وتستعد فرنسا إلى استقبال قمة باريس في 16 فبراير الجاري، والتي ستتضمن حضور قادة عدد من دول الساحل الأفريقي، منها تشاد والنيجر وموريتانيا، فضلاً عن مشاركة عدد من القوى الأوروبية، وبحضور الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، وذلك قبل يوم واحد من القمة الأفريقية – الأوروبية، والتي ستستضيفها بروكسل في 17 و18 فبراير الجاري. 

وستعمد باريس خلال هاتين القمتين إلى بحث مستقبل الترتيبات الأمنية الجديدة، خاصة أن تقارير تؤكد أن ماكرون سيعمد إلى استغلال القمة الأفريقية – الأوروبية للإعلان عن انتهاء مهام عملية "برخان" في مالي، وانسحاب القوات الفرنسية كافة من باماكو خلال فترة زمنية محددة، كما ستسعى باريس إلى التوصل إلى توافقات جماعية بشأن مستقبل الحضور الأوروبي في منطقة الساحل ككل. 

ارتدادات إقليمية

يلاحظ أن الانسحاب الفرنسي المتوقع من مالي سوف يترك العديد من الدلالات المهمة فيما يخص مستقبل الوجود الفرنسي والأوروبي في منطقة الساحل الأفريقي، والتي يمكن عرضها على النحو التالي:

1- نقل القوات الفرنسية إلى النيجر: تسعى باريس لإعادة هيكلة انتشارها في منطقة الساحل الأفريقي عقب سحب قواتها من مالي. ورجحت هذه التقديرات إلى أن النيجر ربما تمثل أحد أبرز البدائل المطروحة أمام باريس كبديل في المنطقة، خاصةً أن باريس تمتلك قاعدة في نيامي. وفي هذا السياق يبدو أن زيارة وزيرة الدفاع الفرنسية، فلورنس بارلي، إلى نيامي الأسبوع الماضي جاءت لبحث هذا الأمر مع رئيس النيجر، محمد بازوم.

ولكن، في المقابل، تبقى هناك تحديات قائمة ربما تعيق فكرة الوجود الفرنسي في النيجر، لعل أبرزها تنامي مشاعر الرفض الشعبي إزاء الحضور الفرنسي في نيامي، خاصةً بعد مقتل ثلاثة مدنيين خلال محاولة من قبل بعض المحتجين عرقلة طريق أحد القوافل العسكرية الفرنسية.

ومن ناحية أخرى، أشارت بعض التقارير الغربية إلى أن هناك غموض قائم بشأن مصير القوات الفرنسية التي سيتم انسحابها من مالي، خاصةً أن حوالي نصف عدد القوات الفرنسية الموجودة في منطقة الساحل الأفريقي تتمركز داخل مالي، وبالتالي تحتاج باريس إلى إيجاد مكان آخر لإعادة تموضع قواتها المنسحبة من باماكو، مع ضمان الحفاظ على كفاءتها التشغيلية، وهو ما قد يجعل فكرة نقل هذه القوات الفرنسية كافة إلى النيجر أمراً غير ممكن.

2- تأكيد باريس الاستمرار في الساحل: أعلنت باريس مواصلة وجودها في منطقة الساحل الأفريقي للمشاركة في عملية مكافحة الإرهاب هناك، مع العمل على توسيع دعمها لدول المنطقة، بما يتضمن الدول المجاورة لخليج غينيا، وهو ما أكدته تصريحات وزير الخارجية الفرنسي، والذي أكد على أن باريس لا ترغب في الانسحاب من المنطقة، لكنها ستعمل على إعادة هيكلة قواتها في المنطقة.

3- إعادة توجيه قوة تاكوبا: أشار تقرير صادر عن وكالة "رويترز" إلى أن الانسحاب الفرنسي من مالي يعني بأن قوة "تاكوبا" الأوروبية ستغادر أيضاً مالي، خاصة بعد التصاعد الملحوظ في النفوذ الروسي داخل مالي، بيد أن التقرير ألمح إلى وجود تحركات فرنسية مكثفة لإقناع حلفائها الأوروبيين للاستمرار في الساحل الأفريقي لدعم دول غرب أفريقيا، خاصة دول خليج غينيا، في ظل القلق المتنامي من احتمالات انتشار المجموعات الإرهابية بفعل الحدود الهشة التي يسهل اختراقها، لاسيما في ساحل العاج وغانا وتوجو وبنين. 

وتلقى الخطة الفرنسية معارضة من بعض الدول الأوروبية بالنظر إلى أن باماكو تبقى البؤرة الأفضل للتمركز بالنسبة للقوات الأوروبية، باعتبار أنها تمثل مركزاً للجماعات الإرهابية، والتي تنتقل منها لكثير من دول المنطقة. ولعل هذا ما عكسته تصريحات وزيرة الدفاع الإسبانية، مارجريتا روبلز، والتي أكدت أن الوجود الأوروبي في مالي يبقي أمراً ضرورياً للحيلولة دون تكرار تجربة أفغانستان، وتجنب إفساح المجال أمام روسيا لتعزيز نفوذها هناك. 

ويعكس ما سبق بوضوح مدى التباين الراهن في الموقف الأوروبي، خاصة بين الدول التي تمثل خط المواجهة الأول لتدفقات الهجرة، على غرار إسبانيا وإيطاليا، فيما لا يزال الموقف الألماني يتسم بالتردد حتى الآن، الأمر الذي ربما يقوض تطلعات ماكرون في تشكيل سياسة خارجية وأمنية ودفاعية أوروبية أكثر استقلالية عن الولايات المتحدة، فضلاً عن ارتدادات ذلك المحتملة على مستقبل الحضور الأوروبي في منطقة الساحل، في ظل تصاعد حدة التنافس مع روسيا حول مناطق النفوذ في المنطقة.

4- انعكاسات أمنية محتملة: حذرت وزيرة الدفاع الإسبانية من إمكانية تكرار سيناريو أفغانستان في مالي، كما سبقت الإشارة، إذ إن الانسحاب المفاجئ للقوات الفرنسية سيفرز فراغاً كبيراً يمكن أن تستغله الجماعات الإرهابية في تعزيز حضورها وتوسيع رقعة انتشارها، خاصةً حال قيام القوى الأوروبية بحسب قواتها هي الأخرى من مالي، بل أن هناك بعض التقديرات أشارت إلى أن باريس ربما تعمل على الإسراع في خطوة الانسحاب الكامل من باماكو لمحاولة خلق فراغ متعمد في مالي من أجل إثارة حالة من الاضطرابات الداخلية للضغط على السلطة الحاكمة هناك.

وفي لمقابل، تراهن السلطات في مالي على التواجد الروسي، وأنه بإمكانه ملء هذا الفراغ، بل ومساعدة باماكو على مكافحة الإرهاب بفاعلية أكبر، على نحو قد لا يكفل تحقيق الاستقرار وحسب، بل أنه يمكن أن يقدم نموذجاً بديلاً للدور الفرنسي خصوصاً، والأوروبي عموماً، وهو ما يهدد الوجود الغربي في الساحل الأفريقي، خاصة إذا اتجهت الدول الأخرى للاقتداء بالتجربة المالية.  

وفي الختام، ثمة حالة من الضبابية التي باتت تخيم على المشهد الراهن في مالي، في ظل صعوبة استمرار القوات الفرنسية المتمركزة في باماكو، وفي الوقت ذاته ترتبط عملية خروج هذه القوات بارتدادات عديدة على مستقبل النفوذ الفرنسي والأوروبي في المنطقة، لذا فحتى وإن أعلن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في القمة الأفريقية – الأوروبية المقبلة عن انسحاب كافة القوات الفرنسية من مالي، فإن باريس ستعمد إلى استمرار المشاورات مع حلفائها الأوروبيين للتوصل إلى ترتيبات جماعية تحقق مصالحها في المنطقة.