أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

"برخان" نموذجًا:

تقييم العقيدة الفرنسية لمكافحة التمرد في الساحل الافريقي

16 ديسمبر، 2020


عرض: محمد محمود السيد - باحث في العلوم السياسية

تثير العمليات العسكرية الفرنسية في منطقة الساحل بإفريقيا العديد من الانتقادات والأسئلة، والتي بدورها تستعيد إرث الجيش الفرنسي من العمليات الاستعمارية ومكافحة “التمرد”(*) منذ القرن التاسع عشر وحتى انتهاء الحرب البادرة. وقد تأسس هذا الإرث على مقاربات تركز على التغلغل داخل المجتمعات اعتمادًا على الإجراءات الاقتصادية والنفسية والسياسية، والتي تهدف إلى تعزيز شرعية النظام السياسي الاستعماري، وليس التركيز فقط على الإجراءات العسكرية.

فبعد انتهاء حرب التحرير الجزائرية عام 1962، حافظ الفرنسيون على بعض هذه الممارسات مع التكيف ببطء مع السياق السياسي لعصر "ما بعد الاستعمار". ومن المفترض أن تمثل "عملية برخان" -التي بدأت في عام 2014 في منطقة الساحل الإفريقي- تلك العقيدة الجديدة، بمعنى أن الجيش الفرنسي يقتصر عمله على التركيز على الأمن فقط، في انتظار أن يقوم الآخرون بالعمل السياسي. ولكن في الواقع، فإن الممارسات العسكرية في هذا السياق تُعد –في حد ذاتها- تدخلًا سياسيًا.

لذلك، رأى العديد من المحللين أن فرنسا تقترب من إفريقيا من خلال عدسة استعمارية (جديدة)، وليس كما تدعي الحكومة الفرنسية، مجرد الدفاع عن الدول الصديقة من الإرهابيين الإسلاميين. ويؤكد منتقدو التدخلات الفرنسية في إفريقيا على الاستمرارية بين السياسات والممارسات الاستعمارية والاستعمارية الجديدة. ناهيك عن أن النهج الفرنسي تجاه منطقة الساحل مُفرِط في التسلح، بما يحاكي النمط الأمريكي في مكافحة الإرهاب (وهو نمط لم يثبت نجاعته في تجارب عدة)، وكأن "عملية برخان" تتبع مسار الحرب الأمريكية في أفغانستان.

ورغم هذه الآراء والاستنتاجات، فإن قضية التدخل العسكري الفرنسي في منطقة الساحل وتطور العقيدة الفرنسية هي قضية مركبة، تحتاج إلى دراسة تاريخية وتحليل شامل، وهذا ما اتبعه "مايكل شوركين"، كبير علماء السياسة في مؤسسة راند، في ورقته البحثية المنشورة في مجلةTexas National Security Review، بعنوان: "حرب فرنسا في منطقة الساحل وتطور عقيدة مكافحة “التمرد”". وحاولت هذه الورقة استكشاف عقيدة وممارسات الجيش الفرنسي لمكافحة “التمرد” عبر مراحل تطورها منذ القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا، ودراسة الاستراتيجية الفرنسية في منطقة الساحل، وتحديدًا عملية برخان.

أفغانستان ومراجعة عقيدة مكافحة “التمرد”

كانت عمليات مكافحة “التمرد” موضوعًا محظورًا في الجيش الفرنسي بعد حرب الجزائر. ومع ذلك، فإن المشاركة الفرنسية في عمليات حفظ السلام والاستقرار في إفريقيا والبلقان خلال التسعينيات شجعت على تطور الأفكار المتعلقة بعمليات مكافحة “التمرد”.

فقد تدخلت القوات الفرنسية في إفريقيا والبلقان كمُحكِّمين ومسؤولين عن تطبيق السلام، وهي العمليات التي غالبًا ما تتضمن حماية الناس من النهب. ومع ذلك، فإن إجراءاتهم التكتيكية كانت مماثلة -إلى حد كبير- للحقبة الاستعمارية أو حروب إنهاء الاستعمار، حيث واصل الجيش الفرنسي القيام بأنشطة المساعدة والتنمية التي كانت ذات يوم جزءًا من عقيدته، ولكن مع الفارق بأن ممارسات التسعينيات لم تكن مُسيَّسة.

التحول حدث مع تدخل القوات الفرنسية في أفغانستان ضمن حلف الناتو، وما ترتب عليه من متطلبات عملياتية، ممّا دفع الفرنسيين إلى إزالة الغبار عن منشورات "العصر الجزائري" بشأن مكافحة “التمرد” وتحديثها في ضوء الابتكارات الأمريكية والبريطانية. فظهرت وثيقة "عقيدة مكافحة “التمرد”" الفرنسية عام 2009، وتمت كتابتها بنفس الروح المتمحورة حول السكان، حيث العمل على تأمين مسرح العمليات من خلال العمل بين السكان، لأن هزيمة المتمردين تتم من خلال فصلهم عن السكان وتجفيف منابع الدعم عنهم.

في أفغانستان، طبّقت القوات الفرنسية مجموعة متنوعة من الأساليب، بدلًا من عقيدة واحدة. أحد أسباب ذلك هو حقيقة أن المهمة العسكرية الفرنسية في أفغانستان تطورت بشكل كبير بمرور الوقت، ونفّذ الجيش الفرنسي عمليات في مقاطعة كابيسا لم يكن مُخططًا لها فعليًّا. لذلك سُمح للقادة الميدانيين بالتكيف على النحو الذي يرونه مناسبًا، بغض النظر عن العقيدة الرسمية المنشورة، وهو أمر يعود إلى التراث الاستعماري.

لم يسعَ الفرنسيون إلى ممارسة أي نوع من السيطرة على الحكومة الأفغانية، وكان تركيزهم مُنصبًا على العمل مع قوات الأمن الأفغانية، والمشاركة في برنامج التوجيه العملياتي وفريق الاتصال التابع لحلف الناتو. ولكن جاء الكمين المُميت للمشاة الفرنسيين في "وادي أوزبين" بأفغانستان في عام 2008، والذي أودى بحياة تسعة جنود، كنقطة تحول في النهج الفرنسي في أفغانستان. فقد اتخذ الجيش الفرنسي شعارًا جديدًا: "لا خطوة واحدة بدون دعم"، فنشرت فرنسا المزيد من عناصر الدعم، من المروحيات إلى مدافع الهاوتزر، وأمرت وحداتها بالاستفادة الكاملة من جميع أشكال الدعم المختلفة التي يوفرها الجيش الأمريكي. وبمعنى أوضح "محاكاة النمط الأمريكي في مكافحة “التمرد”".

عقيدة مكافحة “التمرد” الفرنسية الحالية

أنهى الجيش الفرنسي انتشاره في أفغانستان في أواخر عام 2012. وما لبث أن أصدر، في أبريل 2013، وثيقة جديدة بعنوان: "مكافحة “التمرد”"، وقد كان نصًّا أكثر ثراءً يعكس تأملًا أعمق في حقائق عمليات ما بعد الاستعمار، والآثار المترتبة على "قوات التدخل" العاملة في دولة مضيفة ذات سيادة. ولكن الأهمية الحقيقية لهذه الوثيقة أنها جاءت بعد التجربة الفرنسية في أفغانستان، وإبان أنشطتها في مالي ومنطقة الساحل الإفريقي.

ويبدو أن الوثيقة دفعت في اتجاه التخلي عن الاستراتيجية التاريخية للجيش الفرنسي، وهي استراتيجية "بقعة الزيت"، والتي كانت تعتمد على فكرة التوسع والانتشار التدريجي المتركز على نواة ومحاور صلبة، بحيث يُحرَم المتمردون من أماكن تمركزهم ودعم السكان لهم تدريجيًا. وسبب التخلي عن هذه الاستراتيجية هو أنها كانت الأنسب للحقبة الاستعمارية وأغراض الغزو والتوسع العسكري، بجانب أنها تحتاج إلى عدد ضخم من القوات البرية، وهو ما لم يعد متوافرًا حاليًّا.

وتحدثت الوثيقة عن أن عمليات مكافحة “التمرد” يجب أن تتأسس على هدف سياسي واضح يرتكز على مشروع "عقد اجتماعي جديد" في الدولة مسرح العمليات، وذلك من أجل منافسة مشروع “التمرد”. وعلى ذلك، يجب أن تكون الدولة المضيفة هي صاحبة الرؤية التي توجِّه العمل السياسي، بما يفرض على القوات الفرنسية دعم -وفي بعض الأحيان: تعزيز- شرعية السلطات العامة، ولا سيما تلك التابعة لقوات الأمن المحلية، من خلال اغتنام كل فرصة لتحسين قدراتها، وتعزيز أخلاقياتها، وجعلها أكثر مسؤولية، ورفع قيمتها في نظر السكان؛ بجانب تعزيز وضمان حماية النخب المحلية الموالية (بشرط أن تكون أمثلة جيدة)، لأنها تشكل البديل السياسي الذي تُقدِّمه حكومة السكان الأصليين.

ولكن، تتجاهل العقيدة الفرنسية حقيقة أن التدخل الدولي -بحكم التعريف- يُقوِّض شرعية الدولة المضيفة الهشة بالفعل، ويجعل التوترات بينها وبين القوات الأجنبية أمرًا لا مفر منه تقريبًا. لذلك، ليس من المفاجئ أن يُركِّز المحتجون الماليون على قضية السيادة الوطنية في مواجهة القوات الفرنسية.

عملية "برخان" والاستراتيجية الفرنسية الجديدة

في يناير 2013، تدخلت فرنسا عسكريًا في مالي لمواجهة تمرد الميليشيات الإسلامية في الشمال، فيما عُرف بـ"عملية سرفال"، حيث تم نشر حوالي 4000 جندي. ولكن سرعان ما بدأ الإسلاميون الذين نجوا من سرفال في شن حرب هجينة ضد القوات الفرنسية والمالية والأمم المتحدة. والحرب الهجينة هي استراتيجية عسكرية تجمع بين الحرب التقليدية والحرب غير النظامية، وغالبًا ما تكون مُرهِقة للجيوش النظامية، وتحتاج إلى تكتيكات متطورة لمواجهتها والتغلب عليها.

ثم انطلقت "عملية برخان" المفتوحة في 1 أغسطس 2014، والتي تضم منطقة عملياتها منطقة الساحل بأكملها تقريبًا، من موريتانيا إلى تشاد. وقد ضمت العملية في البداية 3500 جندي، لكن هذا العدد ارتفع ببطء، ووصل إلى 5100 جندي في أوائل عام 2020. واعتبارًا من 7 أكتوبر 2020، تم دعمهم بسبع طائرات مقاتلة وثلاث طائرات مُسيَّرة مسلحة من طراز ريبر و22 مروحية. وتتلقى برخان دعمًا من بعض الدول الأوروبية، وعلى الأخص في شكل طائرات هليكوبتر، فضلًا عن الدعم اللوجستي والاستخباراتي الأمريكي. وتحاول فرنسا تدويل برخان بشكل أكبر من خلال "عملية تاكوبا"، والتي ستشمل مئات من قوات العمليات الخاصة التي تساهم بها عدة دول أوروبية.

وبالطبع يمكن النظر إلى عملية برخان على أنها أكثر تحديًا من عملية سرفال، حيث ازدادت قوة الجماعات المسلحة، وباتت تستمد شرعية الوجود من الاستياء المحلي السائد بين السكان، ونمت بشكل كبير داخل المجتمعات المحلية، الأمر الذي أدى إلى تمدد الأزمة من شمال مالي إلى وسط مالي وبوركينافاسو وأجزاء من النيجر.

ويمكن وضع عملية برخان ضمن استراتيجية فرنسية تجاه مجموعة دول الساحل (مالي، وبوركينافاسو، والنيجر، وتشاد، وموريتانيا)، تهدف إلى مساعدة الدول الشريكة على اكتساب القدرة على ضمان أمنها بشكل مستقل، وذلك من خلال مقاربة عالمية (سياسية، وأمنية، وتنموية)، على أن يتولى الجيش الفرنسي –من خلال عملية برخان- الجانب العسكري منها. بعبارة أخرى، تريد فرنسا ببساطة إيصال الوضع إلى النقطة التي يمكنها فيها ترك الأمور للقوات المحلية، أي إنها لا تطمح إلى إجراء تهدئة في منطقة الساحل أو هزيمة الجهاديين بشكل نهائي.

وبدا خلال عملية برخان أن الجيش الفرنسي قد خصص لنفسه دورًا محدودًا، يتصل بالأمور العسكرية فقط، ونأى بنفسه عن معظم ما يستتبعه ذلك، حيث ترك باقي المهام الإنمائية (الاقتصادية والاجتماعية) على عاتق أجزاء أخرى من الحكومة الفرنسية وشركائها الدوليين، وقبل كل شيء، حكومات منطقة الساحل.

وتشير الوثائق الرسمية إلى أن الجيش الفرنسي في منطقة الساحل يُقسِّم وقته على ثلاثة أنشطة:

1. العمليات القتالية التي غالبًا ما تأخذ شكل عمليات "التطويق والبحث" الكلاسيكية، والتي تهدف إلى "تحييد" الإرهابيين، وضبط المواد الأساسية مثل الأسلحة والذخائر.

2. الاشتباك المدني العسكري، أي تصدير إشارات "حسن النية" تجاه السكان المحليين، بما يشمله ذلك من حفر الآبار وتقديم الخدمات الطبية وتوزيع الهدايا والمنح العينية، وما إلى ذلك.

3. تدريب القوات المحلية، والتأكد من جاهزيتها لمواجهة التحديات الأمنية الراهنة.

رغم كل ما سبق، فإن الاستراتيجية الفرنسية تعاني من نفس التناقضات الداخلية التي طُبقت في العديد من التدخلات العسكرية في فترة ما بعد الاستعمار. حيث يعتمد نجاح عمليات فرنسا على التغييرات السياسية التي ترفض فرضها، وفي كثير من الأحيان تعمل التدخلات العسكرية –ذاتها- على منح قبلة الحياة للنظام السياسي الذي يعد المحرك الرئيسي للصراع.

وبينما تطمح فرنسا إلى أن تكون تدخلاتها غير سياسية وترفض التدخل في الشؤون الداخلية للدول ذات السيادة، فإنها تؤثر بشكل عميق على المشهد السياسي، سواء عن قصد أو بغير قصد. علاوة على ذلك، عندما تتدخل فرنسا فإنها تخاطر بتقويض شرعية الدولة المضيفة في أعين السكان.

قد تكون الاستراتيجية الفرنسية في منطقة الساحل ناجحة -حتى الآن- بشكل جزئي، لكن نجاحها بشكل نهائي سيستغرق وقتًا طويلًا، وبمرور هذا الوقت قد تميل فرنسا إلى أن تكون أكثر استعمارًا، بمعنى أنها سترغب في التدخل في السياسة بشكل مباشر أكثر، وهو الأمر الذي قد يجعل حكومات منطقة الساحل تشعر بمزيد من القلق بشأن مصيرها، ممّا يهدد مستقبل ونجاعة الاستراتيجية الفرنسية بأكملها.

(*) استخدم الكاتب كلمة "التمرد" لوصف بعض الجماعات التي توصف بالإرهاب. 

المصدر:

Michael Shurkin, "France’s War in the Sahel and the Evolution of Counter-Insurgency Doctrine", Texas National Security Review, Volume 4, Issue 1, Winter 2020/2021.