أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

العودة إلى الشارع:

هل يتجه العالم إلى موجة ثانية من الاحتجاجات الملونة؟

19 ديسمبر، 2018


شهدت فرنسا حركة احتجاجات شعبية عُرفت باسم "السترات الصفراء"، والتي خرجت إلى الشوارع احتجاجًا على قرار الرئيس "إيمانويل ماكرون" زيادة الضرائب على الوقود. وتمكنت الحركة من الاستمرار على مدار خمسة أسابيع، وشهدت مشاركة من قطاعات شعبية واسعة، إذ ارتفع عدد المشاركين بها من حوالي ثمانية آلاف متظاهر، إلى حوالي 136 ألف متظاهر في الأسبوع الثالث وفقاً لما أعلنته وزارة الداخلية الفرنسية، كما أنها امتدت من العاصمة باريس إلى عددٍ من المدن الفرنسية.

وعلى الرغم من محاولات تيار اليمين وأحزاب اليسار القفز على هذا الحراك، إلا أنهم فضلوا تجاهل الانتماءات الحزبية، محبذين التظاهر تحت مظلة "السترات الصفراء" وحدها، ولم تقتصر الاحتجاجات على فرنسا وحدها، بل امتدت إلى عددٍ من الدول الأوروبية مثل هولندا وبلجيكا، كما أنها أثارت قلقًا واسعًا في عددٍ من الدول، نظرًا للأوضاع الاقتصادية غير المواتية التي تمر بها هذه الدول، وما تفرضه من إصلاحات اقتصادية تقع أعباؤها على المجتمع، خاصة الطبقات المتوسطة والفقيرة، الأمر الذي جعلها تخشى من انتقال عدوى الاحتجاجات إلى الداخل المحلي، ويسعى التحليل للوقوف على فكرة الرمزية بالاحتجاجات، وملامح الحركة الاجتماعية، وأبرز الصفات المميزة لها، بالإضافة إلى بيان فرص انتقال الاحتجاجات إلى سياقات أخرى مشابهة.

المحفز الرمزي:

ظهر المحتجون بـ"السترات الصفراء" التي اتخذوها رمزًا لحركتهم، وهي السترات التي فرض القانون الفرنسي تواجدها لدى جميع السائقين في فرنسا منذ عام 2008، حيث يوصي جميع قائدي السيارات بحمل سترات تميزهم عند الخروج عن الطريق في حالات الطوارئ، وبالتالي فإن المتظاهرين اختاروا هذه السترات رمزًا لهم للتعبير عن سخطهم على الأوضاع التي تمر بها فرنسا، وأنهم يعيشون في حالة حرجة تستدعي مراجعة الحكومة الفرنسية لسياستها الاقتصادية. 

ولا تُعد الرمزية صفة مقصورة على الاحتجاجات الفرنسية، بل ظلت ملمحًا أساسيًّا لأغلب الثورات التي شهدها العالم خلال العشرين عامًا السابقة، وكان آخرها ثورة "المظلات الصفراء" في هونج كونج في عام 2014، والثورة الوردية في جورجيا في عام 2003، والثورة البرتقالية في أوكرانيا، واحتجاجات القمصان الحمراء والصفراء بتايلاند، وغيرها من الاحتجاجات التي تبنت شعارًا رمزيًّا، وتلعب الرمزية دورًا في التعبئة والحشد للاحتجاجات، ويبدو أن اختيار رمز أيًّا كان لونه أو ماهيته يعكس عدة دلالات يمكن توضيحها في النقاط التالية:

1- خلق حالة من التضامن الجمعي: يشعر الفرد الذي يرتدي هذه السترة الصفراء أو غيرها من الرموز بأنه جزء من كيان أكبر، ويشعر تجاهه بحالة من التضامن على الرغم من عدم معرفته بالأفراد المنظِّمة للاحتجاج بالضرورة، فضلًا عن غياب أي روابط تاريخية بينهم، بل إنهم قد لا يكونون متواجدين في نفس الحيز الجغرافي، وهو ما أطلق عليه "آصف بيات" في جزء منه "التضامن التخيلي" (Imagined Solidarities)، وذلك في إطار حديثه عن الحركات الاجتماعية، ولذلك فإن حالة التضامن الجمعي تزيد التعبئة المجتمعية، وتتجاوز أحيانًا تأثير الأسباب الأساسية للاحتجاج.

2- مظلة شعبية تتجاوز الأيديولوجيا: تشهد العديد من دول العالم تراجعًا للحركات السياسية المرتكزة على أسس أيديولوجية، وهو ما ينطبق على الحركات الاجتماعية الجديدة، التي تُعرف بكونها حركات مرنة، بلا هيكل قيادي واضح، وتجتذب أفرادًا من مختلف الطبقات والتوجهات، فهي عبارة عن مظلة جامعة تتجمع تحتها كل القوى التي تشترك في رفض بعض السياسات الحكومية، وهي مظلة لكل من يشعر بذات الهموم ويمتلك ذات المخاوف بغض النظر عن أي انتماءات أخرى، فهي حركة شعبية بامتياز لا يمينية ولا يسارية. 

3- السلمية واللا عنف: تسعى الاحتجاجات الشعبية إلى إضفاء الطابع السلمي على تحركاتها، والتأكيد على عدم تورطها في أي أحداث تخريب أو أعمال عنف، بحيث يعبر المتظاهرون عن غضبهم من خلال التقيد بهذا الرمز الذي بدوره يعكس احتجاجهم على الأوضاع التي يتظاهرون من أجلها دون الحاجة إلى إحداث تخريب أو أعمال عنف من أجل التأثير على الحكومات. غير أن هذا التصور المثالي يجافي الواقع، إذ إن غالبية الحركات الاحتجاجية تتخللها أعمال عنف وتخريب، سواء بسبب دخول بعض العناصر المتطرفة في هذه الاحتجاجات في صدامات مع الشرطة، أو استغلال بعض الأفراد للفوضى التي قد تنتج عن الاحتجاجات في القيام بأعمال سرقة أو تخريب. 

ملامح حركة شعبية أفقية:

يمكن إرجاع هذا الاحتجاج الشعبي إلى عاملين أساسيين، يمكن إيجازهما على النحو التالي:

1- حراك الضواحي: على الرغم من وجود أحزاب وتيارات سياسية نشيطة نسبيًّا داخل المجتمع الفرنسي، فإنها أخفقت جميعها، إضافةً إلى النقابات العمالية، في تمثيل الشارع الفرنسي والتعبير عن احتياجاته الفعلية، فضلًا عن أن الإصلاحات الاقتصادية فرضت تكلفة إضافية على الطبقات المتوسطة والفقيرة، ولم تجد هذه الفئات من يتحدث باسمها أو يعكس مخاوفها. ولذلك كان لحراك الأفراد العاديين من غير النخب وخارج المدن الكبرى تأثير كبير، ولاقت كلماتهم البسيطة تأييدًا واسعًا لكونها تعبر عن هموم الملايين ممن ينتمون لنفس الطبقة، ويأتي على رأسهم هؤلاء الذين يعيشون خارج المدن، من سكان الضواحي والريف وأصحاب المهن البسيطة. 

ومن ثم، لم تتركز الاحتجاجات في العاصمة فقط، بل إنها انتشرت على طول البلاد. وما ميز هذه الحركة أن كثيرًا من النشطاء الممثلين لها والذين ظهروا عدة مرات في الوسائل الإعلامية المختلفة من خلفيات اجتماعية واقتصادية بسيطة. فمنهم -على سبيل المثال- شاب لديه ٣٦ عامًا من مدينة نريون بجنوب فرنسا، وهو فني سيارات، ويعرف بـ"رجل السترة" الذي دعا عبر فيديو له بارتداء السترة الصفراء، وهو الفيديو الذي حصل على ما يقرب من ٥.٥ ملايين مشاهدة. ومن بينهم أيضًا سائق لوري (٣٣ عامًا) يعيش في ضيعة حول باريس، والذي حفّز الكثيرين من خلال صفحته على فيسبوك التي تجمع كثيرين من نفس المهنة local automobile club حيث يتابعه ما يقرب من ٤٧ ألف حساب.

وهو الأمر الذي يفسر أسباب اتساع رقعة الدعم الشعبي للحركة الاحتجاجية الحالية، وتحوّلها إلى ما يشبه كرة الثلج، التي بدأت بمجموعات تنتمي إلى الطبقة الاجتماعية الوسطى والدنيا، وضمت كذلك أفرادًا ذوي توجهات أيديولوجية متباينة من أقصى اليسار لأقصى اليمين. فهي تحوي خليطًا متنوعًا من الشعب الفرنسي، شيوخًا وشبابًا، نساء ورجالًا، ينحدرون من المراكز والضواحي.

2- منصة الفئات المهمشة: نتج عن هيكل الحركة المرن، ظهور بعض الرموز التي تمثل بصورة تلقائية قطاعًا من المجتمع، ونجحت في اجتذابه للمشاركة في الاحتجاجات. ومنهم على سبيل المثال "بيرسيليا لودسكي"، وهي سيدة من أصول إفريقية، تدير نشاطًا تجاريًّا عبر الإنترنت، فقد نشرت بيانًا عبر حسابها على فيسبوك تطالب فيه الحكومة بتخفيض أسعار الوقود، واستطاعت أن تجمع ما يقرب من مليون توقيع، أغلبها من السيدات الفرنسيات ذوات الأصول الإفريقية. ولذلك فقد نجحت الحركة في جمع كافة الفئات التي تشعر بنوع من الظلم أو التهميش، فكانت نافذة للتعبير ولو بصورة غير مباشرة عن غضبهم على الأوضاع التمييزية التي يعانون منها. وينطبق ذلك أيضًا على انضمام الطلاب والعمال والمزارعين لذات الحركة لأسباب مختلفة وكذلك أصحاب المظالم الشخصية.

3- معضلة "آخر الشهر": أشارت العديد من التقارير الصحفية إلى أن أصحاب السترات الصفراء، هم الفرنسيون الذين لا تكفي رواتبهم حتى نهاية الشهر، من سكان الريف أو المناطق الفقيرة المحيطة بالمدن، والذين يعيشون في أماكن قليلة السكان، ويعتمدون على سياراتهم في التنقل، نظرًا لغياب شبكة مناسبة للمواصلات العامة. 

فالعامل الاقتصادي هو المحفز الأساسي لهذه الحركة، وتراجع الأوضاع الاقتصادية للمواطن العادي هو همه الشاغل بعيدًا عن ضوضاء القضايا السياسية والأمنية التي يحاول فرضها تيار اليمين المتطرف بأوروبا. إذ لا يبالي المواطن العادي بأزمة المهاجرين، ولا الهوية الأوروبية، ولا غيرها من القضايا التي لا تؤثر على حياته اليومية. وقد لخص وزير الاقتصاد الفرنسي "برونو لومير" أوجه الأزمة في كونها أزمة اجتماعية ترتبط بتراجع القدرة الشرائية للمواطنين، وأزمة ديمقراطية ترتبط بفشل الأحزاب الرئيسية في التعبير عن مشاغل المواطنين، وأزمة أمة تعاني من انقسامات كبيرة. 

4- احتجاجات نهاية الأسبوع: التزمت حركة السترات الصفراء بالاحتجاج مع نهاية أسبوع العمل، تجنبًا للأضرار الاقتصادية التي قد تلحق بالفئات العاملة التي تعاني أصلًا من صعوبات مادية، خاصة الأفراد الذين يتقاضون أجورًا يومية. ويُعد هذا الملمح سمة مميزة للاحتجاجات الفرنسية، والتي تجعلها تتمايز عن غيرها من الاحتجاجات، خاصة الثورات الملونة، التي كانت تصر على الاحتجاج والاضراب كافة أيام العمل لشل الحياة، والضغط على الحكومة للاستجابة لمطالبها أو حتى إسقاطها. 

"السترات الحمراء".. توابع الاحتجاجات الفرنسية:

لم تتسبب "السترات الصفراء" في تعبئة أعداد كبيرة من الداخل الفرنسي فقط، بل امتد تأثيرها إلى عدة دول أوروبية وعربية وشرق أوسطية، فقد لاقت الحركة صداها بمختلف المجتمعات بمستويات مختلفة، وظهرت في بعض الدول إلى جانب السترات الصفراء، السترات الحمراء للاحتجاج على أوضاع غير مرضية بالنسبة لبعض الفئات. وما زالت هناك تخوفات من أن تشهد هذه الدول موجة عارمة من الاحتجاجات على غرار ما حدث في فرنسا، خاصة بعد النجاح النسبي لها، وإعلان "ماكرون" إلغاء الزيادة في الضريبة على الوقود، ووعده برفع الحد الأدنى للأجور بواقع مائة يورو شهريًّا اعتبارًا من عام 2019، فضلًا عن تخفيض الضرائب على المتقاعدين، غير أنه يمكن القول إن هناك عددًا من العوامل التي قد تحد من هذه الإمكانية، والتي يمكن إيجازها في التالي:

1- معضلة الضرائب: شهدت المنطقة العربية، وتحديدًا في الأردن، احتجاجات مماثلة لنفس السبب، وهو الاعتراض على الضرائب الإضافية التي فرضتها الحكومة، وانتهى الأمر بذات السيناريو، وهو تراجع الحكومة عن فرض الضرائب. وقد حفزت "السترات الصفراء" ظهور نداءات للتظاهرات مرة أخرى من أجل تخفيض الضرائب تحت شعار "الشماغات الحمر 2019 عام التغيير". وتعاني مجتمعات عربية أخرى من ضغوط الضرائب المرتفعة وغيرها من الإجراءات التي فرضت نتيجة للإصلاحات الاقتصادية التي تتخذها الحكومات، وهو الأمر الذي يشير لاستمرار الضرائب كمحفز كامن قد ينشط في أي وقت، خاصة مع عدم وجود حلول بديلة حاسمة. 

2- إنهاك دول الثورات العربية: تعاني المجتمعات العربية من تراجع ملحوظ في الأوضاع الاقتصادية جراء الاضطرابات التي شهدتها المنطقة خلال حقبة الربيع العربي، والتي أنهكت الاقتصادات، فضلًا عن تبني بعض الدول سياسات اقتصادية إصلاحية، وعلى الرغم من معاناة الشعوب من هذه الإصلاحات الاقتصادية، فإنها يبدو أنها ليست مستعدة للمغامرة بالدخول في فوضى جديدة، ودفع ضريبة الدخول في موجة أخرى من الاحتجاجات. وينطبق هذا الأمر بوضوح على حركة "السترات الحمراء" بتونس، والتي اعتبرت نفسها امتدادًا للحالة الثورية التي شهدتها تونس منذ ثماني سنوات. غير أنه لا توجد مؤشرات كبيرة على أن هذا الحراك اكتسب زخمًا شعبيًّا، على الرغم من الأزمة السياسية والاقتصادية الحادة التي تشهدها البلاد. فقد ينتهي الأمر بمسيرة أو وقفة احتجاجية بأعداد محدودة هنا وهناك على غرار ما حدث بالجزائر والعراق. 

3- تحذيرات استباقية عنيفة: على الجانب الآخر، اتخذت بعض الدول موقفًا استباقيًّا، فعلى سبيل المثال وجه الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" تحذيرًا شديد اللهجة من استنساخ تجربة مظاهرات "السترات الصفراء" الفرنسية في تركيا، مهددًا من يحاول ذلك بدفع الثمن غاليًا، وذلك في أعقاب احتجاج تزعمه رئيس حزب الشعب الجمهوري المعارض "كمال كليجدار أوغلو" تزامنًا مع مظاهرات باريس.

وفي الختام، يمكن القول إن الاحتجاجات الفرنسية تكشف عن تنامي حالة الإحباط لدى المجتمع الفرنسي، جراء تدهور الأوضاع الاقتصادية، وعلى الرغم من أن هذا الوضع مرشح للانتقال إلى سياقات أخرى مختلفة، فإن فرص ذلك الأمر لا تزال محدودة، ويبقى الضامن الوحيد للخروج من هذا المأزق هو شروع الحكومات في تبني مشاريع تنموية، والبحث عن حلم يجمع المجتمع، ويجعله يتحمل صعاب المرحلة الانتقالية، بما تفرضه من إصلاحات اقتصادية وتكلفة مجتمعية مرتفعة.