عُقدت قمة في باريس يومي 22 و23 يونيو 2023، بغرض التوصل إلى ميثاق تمويل عالمي جديد، والدعوة إلى إصلاح النظام المالي العالمي وإعادة توجيهه في خدمة المناخ، وذلك بحضور الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، ونحو 40 من قادة الدول. إذ لا يساعد النظام المالي العالمي القائم، الأمم الفقيرة على الخروج من دائرة الفقر؛ فهو يقوم على تراكم الثروات في بلاد الشمال الغنية، بل وعدم عدالة توزيع الثروات داخل تلك البلاد، فيما يعاني الجنوب الكثير من الصعوبات المركّبة، من الفقر والبطالة والتضخم والمديونية وتغير المناخ.
وكان الاقتصادي الفرنسي الشهير توماس بيكيتي، قد أثبت في كتابه "رأس المال في القرن الحادي والعشرين"، جنوح النظام الرأسمالي السائد إلى تحقيق تراكم في الثروات بمعدل يفوق كثيراً معدلات النمو الاقتصادي، وأن الصدمات التي تعرّض لها العالم من حروب ومجاعات وغيرها، أعادت إلى حد بعيد توزيع تلك الثروات. ويتفق هذا الاستنتاج مع ما تنبأ به قبله الاقتصادي الشهير توماس مالتس، عند إشارته إلى زيادة الموارد الطبيعية بمتوالية عددية، وزيادة السكان بمتوالية هندسية، وأن التوازن بين الموارد والسكان لا بد أن يختل، ولن تتم استعادته إلا عبر اختبار الحروب والكوارث الطبيعية والبشرية، لكن بيكيتي، اتبع منهجاً تاريخياً كمياً في إثباته لفرضيته، كما أن بحثه انصب على إشكالية توزيع الثروات.
تبعات نظام "بريتون وودز":
منذ أن تشكّل نظام "بريتون وودز" في يوليو من عام 1944، اكتسب الدولار الأمريكي وضعاً خاصاً في المعاملات والاحتياطيات الدولية، وعلى الرغم من تغير نظام تثبيت العملات مقابل الدولار، ووقف ربط الدولار بقيمة ثابتة من الذهب بدءاً من مطلع سبعينيات القرن الماضي، فإن دعامات اتفاقية "بريتون وودز" ما تزال قائمة من خلال مؤسستيها. وقد عملت الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية على تقاسم خيرات المستعمرات في دول الجنوب النامية، وإن اتخذ الاستعمار صوراً غير تقليدية في النظام الجديد الذي يشجع الاستقلال الصوري؛ وتتمثل تلك الصور في تحويل معظم الدول إلى مناطق للنفوذ عبر أدوات التأثير والاستقطاب، الأمر الذي تطور لاحقاً فيما عُرف بالحرب الباردة.
أما مؤسستا التمويل الناشئتين عن اتفاقية "بريتون وودز" وهما صندوق النقد والبنك الدوليين، فلم يتحقق الغرض منهما إلا بالقدر الذي ساعد على إعادة إعمار أوروبا التي دمرتها الحرب بالتكامل مع "خطة مارشال" الأمريكية التي همّشت دور البنك الدولي إلى حد كبير في سنوات نشأته الأولى. كذلك ساعدت مؤسستا "بريتون وودز" في تمويل برامج إعادة الهيكلة في كثير من الدول المُتعثرة مالياً، والتي لم يثبت أنها تخلّصت بشكل حاسم من أزماتها من خلال اتباعها تلك البرامج، بل هناك شواهد عدة على خروج كثير من الدول التي استعانت بالمؤسستين بوضع مالي أقل استقراراً من الذي كانت تعانيه قبل الاستعانة بهما.
الحاجة إلى نظام مالي جديد:
إذا كانت الحرب العالمية الثانية قد شكّلت الصدمة البشرية العنيفة التي حركت المجتمع الدولي لصياغة عقد جديد للنظام المالي العالمي، فإن الصدمات الأخيرة التي تعرّض لها كوكب الأرض تشكل دافعاً قوياً للبحث عن ميثاق وعقد جديد. وبعض تلك الصدمات جاء نتيجة لتراكمات فشل نظام "بريتون وودز" وما أُدخل عليه من تعديلات جوهرية إبان حكم الرئيس الأمريكي السابق، نيكسون، في مطلع سبعينيات القرن الماضي، حيث لم تتحقق أية عدالة في توزيع ثمار التنمية بين الشمال المتقدم والجنوب المستغل. الأمر الذي تمثّل في تراكم الديون على الدول الفقيرة بصورة كبيرة، جعلت ما لا يقل عن 52 دولة حالياً تعاني من ضائقة ديون واحتمالات التعثّر، مدفوعة بارتفاع أسعار الفائدة وارتفاع قيمة الدولار الذي تقوم عليه غالبية إصدارات الديون.
كذلك تراكمت منذ الثورة الصناعية الأولى تبعات استنزاف موارد الكوكب في الإنتاج الصناعي الكثيف، وفي إنتاج واستخدام الأسلحة المُدمرة للبيئة والإنسان، وكانت المحروقات من الوقود الأحفوري هي وقود تلك الثورة. وكان الفحم، وما يزال إلى حد ما، مصدراً مهماً للطاقة، ومن ثم فقد كانت أيضاً تلك الثورة بداية إطلاق ما عُرف بأزمة تغير المناخ، وتداعي كوكب الأرض لتلك الثورة الصناعية الأولى وما تلاها من ثورات.
لكن هذا النوع من الصدمات لا تنشق عنه الأرض فجأة، بل يتراكم عبر الزمن، ولا يعلم أحد على وجه التحديد متى أو كيف تتجلى تبعاته السلبية. فالجميع يُلاحظ أن النظام المالي السائد قد أسفر عن تجاوز الديون القائمة ثلاثة أضعاف حجم الناتج العالمي الإجمالي، وتدهور البيئة، وزيادة معدلات الفقر في دول الجنوب، لكن الصدمات المباشرة عادة ما تكون أكثر تأثيراً في صناعة صحوة عالمية، أو على أقل تقدير صحوة بالدول النامية، ينتبه لها سائر دول العالم. ولعل أبرز تلك الصدمات المباشرة، جائحة "كوفيد19" وما نتج عنها من إغلاقات واضطرابات في حركة التجارة العالمية وحركة الأفراد ورؤوس الأموال، ثم اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية قبل أن يتعافى العالم من آثار الجائحة، وما ترتب عن هاتين الصدمتين من اضطراب سلاسل التوريد، واجتياح أزمات التضخم ومن ثم التشديد النقدي (رفع أسعار الفائدة) وارتفاع قيمة الدولار الأمريكي مقابل معظم العملات.
وكل ذلك ضاعف من أزمات الدول النامية المدينة، إذ رفع تكلفة خدمة الديون القائمة والديون الجديدة، وضاعف من مخاطر التعثّر لتلك الدول، التي تؤثر في تصنيفها الائتماني، وتحول دون إصدارها مزيداً من أدوات الدين، وتجعلها حبيسة الفقر والمديونية والتضخم.
وقد جاءت تلك الصدمات المتتالية خلال أقل من ثلاث سنوات، اشتدت فيهن هجمات تغير المناخ على نحو تعرضت فيه معظم الدول -خاصة النامية- لأعاصير وسيول وارتفاعات كبيرة في درجات الحرارة أدت إلى تلف المحاصيل، فضلاً عن كون المسؤولية عن الانبعاثات الكربونية منذ بداية الثورة الصناعية وحتى اليوم، لا تزال بعيدة عن الدول الناشئة، حيث لا تسهم قارة إفريقيا (مثلاً) سوى بـ3% فقط من الانبعاثات الكربونية سنوياً، لكن بالتأكيد معدل نمو مساهمة الجنوب في زيادة الانبعاثات أكبر من الشمال، فما تزال تلك الدول تصارع مرحلة الانطلاق في عملية التنمية التي تجاوزتها أوروبا والولايات المتحدة منذ عقود.
سياق قمة باريس:
من أجل ما سبق، عُقدت قمة في باريس يومي 22 و23 يونيو الماضي، للتوصل إلى ميثاق تمويل عالمي جديد. وقد نشأت فكرة هذه القمة في نوفمبر 2022 خلال مؤتمر الأطراف للمناخ (كوب27) الذي عُقد في شرم الشيخ بمصر، وذلك من خلال الخطة التي قدمتها رئيسة وزراء بربادوس، ميا موتلي، التي أعادت إحياء الأمل في رؤية تقدم في ملف تمويل احتياجات السيطرة على تغير المناخ، بعدما شكّل عائقاً في المفاوضات بين مجموعتي الدول الفقيرة والدول الغنية المسبب الرئيسي لانبعاثات الغازات الدفيئة.
ووفقاً للأمين العام للأمم المتحدة، فإن النظام المالي العالمي، الذي يدير أصولاً مالية تبلغ حوالي 300 تريليون دولار، لا يصلح على وضعه الحالي لتحقيق أهداف القمة. وصرح أخيراً بأن "الأزمات المتعددة اليوم تؤدي إلى تفاقم الصدمات على البلدان النامية ويرجع ذلك في جزء كبير منه إلى النظام المالي العالمي غير العادل الذي يسيطر عليه المنظور قصير الأجل ويظل عرضة للأزمات، ويزيد من تفاقم عدم المساواة".
وعُقدت قمة باريس في سياق دولي فريد، حيث سجلت الأمم المتحدة حدوث تراجع في مؤشرات التنمية البشرية في 90% من دول العالم بنهاية عام 2022. وكان هذا التراجع مدفوعاً بشكل أساسي بانخفاض متوسط العمر المتوقع عند الولادة، وارتفاع معدلات الفقر. فقد أدت جائحة "كورونا" والحرب الأوكرانية، وتداعياتهما، إلى خفض دخول العديد من الدول، مما أثر في قدرتها على تمويل وصول سكانها إلى الخدمات الاجتماعية الأساسية. كذلك كلفت الكوارث الطبيعية الدول في جنوب الكرة الأرضية أكثر من 300 مليون دولار في عام 2022 وحده، مما أثر بشدة في اقتصاداتها.
ونتيجة لذلك، تستمر الفجوة المالية بين الشمال والجنوب في الاتساع، ما يجعل دول الجنوب أكثر حساسية للصدمات، إذ تفتقر الدول النامية إلى الموارد المطلوبة لتمويل التعافي من الأزمات، وإدارة المخاطر المناخية، وأهداف التنمية المستدامة، مما يحد من فعالية استجابتها للأزمة التالية، ويجعل أهداف "التحول الأخضر" ضرباً من الرفاهية، خاصة إذا جاء بتكلفة إضافية.
أهداف ورؤى طموحة:
إن الهدف من قمة باريس هو بلورة موقف دولي موحّد لمعالجة تحديات الفقر، وتغير المناخ، وحماية التنوع البيولوجي، ومكافحة عدم المساواة، من أجل تحقيق أهداف التنمية المستدامة. ولن يتحقق ذلك (وفق الطرح الغالب على مشاركات الحضور) إلا عبر تجديد الهيكل المالي الدولي الذي نشأ عن اتفاقات "بريتون وودز" في عام 1944 مع إطلاق صندوق النقد والبنك الدوليين. وتركن الدول النامية في طرحها إلى حقيقة أن الحصول على تمويل من المؤسستين لم يعد سهلاً، في حين أن حاجاتها هائلة لمواجهة موجات الحر والجفاف والفيضانات، وأيضاً للخروج من الفقر، مع متطلبات التخلص من الوقود الأحفوري والحفاظ على الطبيعة.
ومن أجل تحقيق ذلك، قُدّرت الاحتياجات التمويلية للدول النامية (عدا الصين) بنحو 2.4 تريليون دولار سنوياً حتى عام 2030 (وفق تقديرات مجموعة من الخبراء تحت رعاية الأمم المتحدة). كذلك قدرت وكالة الطاقة الدولية احتياجات زيادة الإنفاق على الوقود غير الأحفوري لتلك الدول بحوالي 1.6 تريليون دولار سنوياً على مدى العقد.
وقد صرح الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في كلمته خلال فعاليات قمة باريس، بأن الدول لا ينبغي أن تُوضع أمام خيار محاربة الفقر أو مكافحة تغير المناخ، مؤكداً ضرورة إحداث ما وصفه بـ"صدمة مالية عامة" مع الحاجة إلى المزيد من التمويل الخاص. وكان ماكرون حاسماً في اعتبار القمة ملكاً للدول النامية التي وصفها (متوجهاً بالحديث إلى ممثلي الدول الإفريقية تحديداً) بأنها تقف على خط المواجهة مع أزمات تغير المناخ والفقر وعدم المساواة.
وركّزت القمة إذن على مناقشة الطرق المختلفة لتعزيز التضامن المالي مع دول جنوب الكرة الأرضية. وتشمل أهدافها الرئيسية خلق حيز مالي، وتعزيز تنمية القطاع الخاص، وتعزيز الاستثمار في البنية التحتية الخضراء، وتوليد تمويل مبتكر للبلدان المعرضة لتغير المناخ.
وقد اكتسبت فكرة فرض "ضريبة كربون دولية" على الانبعاثات الناتجة عن النقل البحري، زخماً كبيراً في نقاشات قمة باريس الأخيرة. كذلك تحدث قادة دول العالم عن ضرائب أخرى يمكنها أن تحقق أهداف المناخ والمساواة، فضلاً عن إصلاحات مؤسسية مطلوبة، وضرورة إعادة هيكلة ديون الدول الفقيرة، مع تعزيز دور القطاع الخاص.
ودعا الرئيس الفرنسي إلى فرض ضرائب عالمية على الشحن والطيران وربما على الثروة، من أجل تمويل العمل المناخي. في حين أشارت وزيرة الخزانة الأمريكية، جانيت يلين، إلى أن إدارة الرئيس جو بايدن ستنظر في ضريبة الشحن، التي من المقرر أن توفّر ما يقرب من 5 مليارات دولار سنوياً، بالرغم من أنها لم توافق عليها بعد.
وكان هناك دعم غربي لفكرة تعليق مدفوعات الديون في حال حدوث كارثة طبيعية، لأن الأعاصير لا تفرق بين الدول الغنية والفقيرة، لكنها قد تتسبب في خسارة سنوات من التنمية، على حد وصف رئيس تحالف الدول الجزرية الصغيرة، فاتومانافا باولولي لوتيرو.
وقد وضعت الدول الغنية في مواجهة وعدها بتقديم 100 مليار دولار سنوياً لمساعدة الدول الفقيرة في مواجهة الاحترار المناخي. وهو وعد يُفترض أن يتم الوفاء به هذا العام، بعد سنوات من التراخي، الذي كان سبباً في تراجع الثقة بين الشمال والجنوب. وعلى الرغم من محدودية هذه المساهمة، فإنها نواة حكومية لتحريك التمويل القادم من مؤسسات التمويل. وستُدعى مصارف التنمية متعددة الأطراف إلى تقديم القروض، بعد أشهر قليلة من إعلان البنك الدولي تقديم 50 مليار دولار على مدى 10 سنوات.
وكانت كل من فرنسا واليابان والمملكة المتحدة قد تعهدت بتقديم حوالي 80 مليار دولار إلى الدول الفقيرة من خلال حقوق السحب الخاصة (SDRs) التي يصدرها صندوق النقد الدولي، كما يمكن أن تأتي 21 مليار دولار أخرى من الولايات المتحدة إذا تمكن البيت الأبيض من الحصول على موافقة من الكونغرس.
بينما أعلن الرئيس الجديد للبنك الدولي، أجاي بانغا، عن رؤية لمؤسسته تجمع بين تركيزها التقليدي على انتشال الناس من الفقر، مع التركيز على أزمة المناخ، التي تهدد بتدمير التقدم في التنمية. وتم الاتفاق على أن المؤسسات مثل البنك الدولي وبنوك التنمية الأخرى، ينبغي أن تعمل على "إزالة المخاطر" من الاستثمار في الدول النامية، لجذب تدفقات تمويل أكبر بكثير إلى الدول الفقيرة.
وأعلن الرئيس الفرنسي، في ختام القمة، عن وجود إجماع تام على إحداث "إصلاح عميق" للنظام المالي العالمي. لكن في الحقيقة القمة انتهت بتعهدات لمجموعة من الدول دون أن يصدر الإعلان المشترك الذي أملت به الرئاسة الفرنسية، واكتفت الأخيرة بنشر ملخصها للمناقشات.
انتقادات للمخرجات:
على الرغم من جرأة بعض المقترحات التي تم طرحها في قمة باريس، فقد بدت الانقسامات بين الأغنياء والفقراء كما كانت في قمة المناخ السابقة، وظلت هناك علامات استفهام حول السياسات المستقبلية المطلوبة، بما في ذلك الضرائب العالمية المقترحة على الشحن والطيران والوقود الأحفوري والثروة.
ويرى بعض نشطاء المناخ أن ما تم الاتفاق عليه في اجتماعات باريس يخلو إلى حد بعيد من الإجراءات الملموسة التي من شأنها أن تحدث فرقاً في الوقت الراهن. كما رأوا أن القمة أخطأت الهدف بفشلها في التركيز على أكبر مصدر للمشكلة؛ وهو الوقود الأحفوري، مؤكدين أن الدول الغنية يجب أن تتخلى عن الوقود الأحفوري، وعليها أن تساعد في دفع تكاليف انتقال الطاقة لبقية العالم، ولكن القمة بالكاد تناولت هذه القضية.
من ناحية أخرى، من المقرر أن يوقف البنك الدولي مؤقتاً سداد الديون للدول التي تكافح تغير المناخ، ولكن فقط على القروض الجديدة. وستفعل المملكة المتحدة الشيء نفسه بالنسبة لقروضها الحالية، ولكن فقط لـ12 دولة في إفريقيا ومنطقة البحر الكاريبي.
في المُجمل، تُعد قمة باريس واحدة من بين العديد من الأحداث الدولية المقررة على مدار هذا العام، مثل قمة العشرين، وقمة التنمية المستدامة، وقمة المناخ "كوب28" في دولة الإمارات العربية المتحدة، وجميعها تتصدى لتحديات المناخ والتنمية المستدامة بمفهومها الشامل.