أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يصدر العدد الثاني من مجلة "اتجاهات آسيوية"
  • أ. د. نيفين مسعد تكتب: (عام على "طوفان الأقصى".. ما تغيّر وما لم يتغيّر)
  • د. إبراهيم فوزي يكتب: (بين موسكو والغرب: مستقبل جورجيا بعد فوز الحزب الحاكم في الانتخابات البرلمانية)
  • د. أيمن سمير يكتب: (هندسة الرد: عشر رسائل للهجوم الإسرائيلي على إيران)
  • أ. د. حمدي عبدالرحمن يكتب: (من المال إلى القوة الناعمة: الاتجاهات الجديدة للسياسة الصينية تجاه إفريقيا)

قوة البرمجيات:

الدوافع الجيوسياسية لدعم الحكومات البرامج مفتوحة المصدر

07 فبراير، 2023


عرض: عبدالمنعم علي
تٌشكل المصادر المفتوحة للبيانات مصدراً حيوياً للبنية التحتية للإنترنت ومجالاً مركزياً في تطوير البرمجيات التي تستخدمها الشركات والأفراد والحكومات لكونها بديلاً وحلاً للتوجهات الاحتكارية على البرمجيات المختلفة. ومع رغبة الحكومات في الحفاظ على الأمن المعلوماتي، باتت تنتهج استراتيجيات للتحكم في هذه البرمجيات، مما جعل الأخيرة تأخذ سمتاً جيوسياسياً، حيث تدعم طموحات الأمن القومي والنفوذ الدولي والسيادة الرقمية.
من هنا، تأتي أهمية دراسة للباحث أليس بانيير، بعنوان "قوة البرمجيات: الآثار الاقتصادية والجيوسياسية للبرامج مفتوحة المصدر"، والتي نشرت في المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية في ديسمبر 2022. وتركز هذه الدراسة على الأهمية الاستراتيجية لنظام البرامج مفتوحة المصدر ودوافع الشركات والحكومات في تطويره.
الأهمية الاستراتيجية للبرمجيات:
ساعد تحول الصناعة والرقمنة داخل الخدمات العامة ونشر شبكات الجيل الخامس وظهور إنترنت الأشياء، في زيادة الأهمية الاستراتيجية للبرمجيات في العالم، خاصة في ظل التقديرات الخاصة بالتهديدات المنهجية لتلك البرامج على أمن واستقرار المجتمعات. وتتبوأ برمجيات المصدر المفتوح موضعاً استراتيجياً مهماً للحكومات في ضوء تزايد مخاوفها بشأن تداعيات الأمن السيبراني. وتتمحور عملية تطوير البرامج وتوزيعها حول نموذجين، وهما البرامج الاحتكارية والبرمجيات مفتوحة المصدر. 
وكانت البرمجيات الاحتكارية هي المهيمنة في البداية في العالم، لكن التكاليف والمخاطر الاقتصادية المرتفعة وكذا المنافسة الجيوسياسية الدولية أدت إلى ظهور البرامج المفتوحة خلال العشرين عاماً الماضية، حيث باتت مصدراً مركزياً للبنية التحتية الرقمية العالمية. وتطرح البرمجيات الاحتكارية مخاطر أمنية ومادية تتعلق باحتمالية اختراق قواعد البيانات لدى المحتكرين لتلك البرامج، وهو ما أبدته فرنسا على لسان الأمين العام الفرنسي للأمن القومي والدفاع من احتمالية اختراق قواعد البيانات الخاصة بدورة الألعاب الأولمبية لذوي الهمم في باريس والمقرر إقامتها في عام 2024 حال استخدام اللجنة المنظمة خدمات المورد الصيني، وذلك لأغراض استراتيجية أو التجسس الاقتصادي.
اتصالاً بذلك، فإن القيود المفروضة على التجارة واستخدام البرامج تُمثِّل واحدة من المخاطر الخاصة بالبرمجيات الاحتكارية والتي تعود إلى فترة الحرب الباردة، إذ كانت هذه البرمجيات تستخدم في المجال العسكري. ومنذ نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين فرضت الصين قيوداً على استخدام البرامج الأمريكية على أراضيها، وبرز ذلك أيضاً في الآونة الأخيرة، حيث أدى التدخل الروسي في أوكرانيا منذ أواخر فبراير 2022 إلى حملة أمريكية وبدرجة أقل أوروبياً، ضد مزودي البرمجيات الروسية.
على الجانب الآخر، فإن البرمجيات مفتوحة المصدر أو الحرة لديها قيود أقل من نظيرتها الاحتكارية، كما أنها لا تخضع لسيطرة دولة بعينها، فهي من حيث المبدأ من دون جنسية، وبالتالي فهي عابرة للحدود، وتستخدم البرمجيات الحرة على نطاق واسع في المؤسسات البحثية، نظراً لقدرتها على التكيف والتخصيص مع احتياجات التجارب، وهي أساس البنية التحتية العالمية للبرمجيات. مع ذلك، فإن هذا النمط من البرمجيات يطرح هو الآخر تحدياً للأمن السيبراني عبر الثغرات الأمنية التي قد تؤدي في نهاية المطاف إلى كشف المحتوى المشفَّر، مثل أسماء المستخدمين وكلمات المرور والبيانات التي تم تبادلها، مثلما هي الحال بالنسبة للتجارة الإلكترونية والشبكات الاجتماعية.
اقتصادات البرمجيات المفتوحة:
برغم المخاطر الأمنية المتعلقة بالبرمجيات المفتوحة، فإنها تطرح تأثيرات إيجابية على اقتصادات الدول، ففي عام 2021 أثَّرت تلك البرامج إيجابياً على اقتصاد الاتحاد الأوروبي بما يتراوح بين 65 و95 مليار يورو، مقابل استثمار سنوي بلغ في عام 2018 نحو مليار يورو داخل الاتحاد الأوروبي، كما أن زيادة نسبة 10% من المساهمة في المصادر المفتوحة من شأنها أن تولِّد ارتفاعاً في الناتج المحلي الإجمالي في حدود 0.4٪ إلى 0.6٪، نتيجة لذلك، تسعى الشركات والدول إلى إيجاد حلول مستدامة لتمويل المصادر المفتوحة ودعم مزيد من المشاركة للشركات التكنولوجية الكبيرة في تطوير تلك المصادر، بما في ذلك الاستحواذ على منصات المستودعات. 
ويعتمد نظام البرمجيات مفتوحة المصدر في العالم بصورة كبيرة على مساهمات المطورين، سواء كانوا أفراداً أو مجتمعات أو شركات، حيث يتأسس هذا النظام على الجهات الفاعلة التي تستضيف مشاريع مفتوحة المصدر وتقدم مساهمات يمكن الوصول إليها في التعليمات البرمجية، ومن أبرزها:
 المؤسسات ومستودعات الأكواد وشركات التكنولوجيا الكبيرة، حيث تشارك تلك المؤسسات بشكلٍ مباشر في مشاري مفتوحة المصدر ويستثمرون مالياً في المؤسسات ومستودعات الأكواد، ولكن لها آثاراً ضارة محتملة على نموذج المصدر المفتوح نفسه بسبب المصالح التجارية ومخاطر الاستيلاء.
المؤسسات والمنصات التعاونية للبرامج مفتوحة المصدر، وهي تؤدي دوراً رئيسياً في الحوكمة والهيكلة ونشاط النظام مفتوح المصدر، وتساهم في مشاركة المعلومات مع الشركات الخاصة والاستضافة المحايدة للأصول المشتركة، بحيث لا يمكن لأي شخص الانفراد بالتأثير، حيث إنها تجمع بين المجتمعات والاستثمارات الكبيرة وتسهيل الابتكار وتسريع تطوير الكود والمساعدة في إدارة الملكية الفكرية. 
ويندرج تحت هذه المنصات أكثر من 100 مشروع في قطاعات الذكاء الاصطناعي أو المركبات المستقلة والشبكات وتتضمن نحو 200 شركة بإجمالي عدد موظفين نحو 1000 عضو، وتحقق تلك الشركات إيرادات نحو 124 مليون دولار في عام 2019 مقارنة بنحو 15.6 مليون دولار في عام 2011، وتأتي الولايات المتحدة الأمريكية لتحتوي على ثاني أكبر مؤسسة تعاونية في البرمجيات تشمل نحو 6000 متطوع برعاية شركات تكنولوجية كبرى، كآبل وميكروسوفت.
وهناك انخراط واسع من جانب القطاع الخاص في تمويل وإدارة النظام مفتوح المصدر، حيث تولي الشركات الرقمية الكبيرة على وجه الخصوص اهتماماً وثيقاً لحيوية المجتمعات التي تطور هذه المكونات وتحافظ عليها وتستثمر موارد كبيرة في مجتمعات مفتوحة المصدر إما لضمان استمرارية البنية الأساسية للبرامج الأساسية أو لتطوير مصادرها المفتوحة الخاصة بها. وتشارك شركات التكنولوجيا الكبيرة أيضاً في المصادر المفتوحة من خلال مطوريها، إذ تعد مايكروسوفت وجوجل وريد هات أحد أكبر ثلاثة مساهمين في تلك التكنولوجيا.

دوافع الشركات الكبرى:
تتجه شركات التكنولوجيا الكبرى بصورة مستمرة لتطوير برامجها وإتاحتها بموجب ترخيص مفتوح المصدر، ويعود ذلك لدوافع مختلفة من أبرزها:

تسريع تطوير البرمجيات والابتكار: فبجانب الرغبة في الهيمنة والتأثير على النظام المفتوح المصدر وتوفير الموارد وتسريع الابتكار، يساعد استخدام مكونات هذا النظام في خفض تكاليف تطوير البرامج الجديدة، لأنه يجعل الشركات لا تبدأ من الصفر عند تطوير منتجاتها، ويتيح استخدام تلك المكونات أيضاً الوصول للتقنيات الجديدة التي يمكن تكييفها بعد ذلك بطريقة أكثر دقة وكفاءة داخلياً، لذا فإن دافع استخدام المصادر المفتوحة من قِبل الشركات الرقمية وناشري البرامج خلفه بالأساس تسريع تطوير البرمجيات والابتكار.

تعزيز الأمن السيراني، وهو أحد الدوافع نحو الاعتماد على مكونات مفتوحة المصدر، حيث يمكن لتلك المكونات أن تخلق نقاط ضعف والتي قد تؤثر بشكلٍ غير مباشر على الملكية، لذلك تسعى الشركات الكبرى إلى تطوير المعرفة والمساهمة في الحفاظ على العناصر الموجودة في سلاسل التوريد الخاصة بهم، وفي هذا الشأن اتخذت جوجل نهج الدعم المادي للمنظمات المتخصصة والذي بلغت قيمته 100 مليون دولار، علاوة على اقتراح تأسيس منظمة تكون بمنزلة سوق للمطورين المتطوعين (موظفي شركة التكنولوجيا) للحفاظ على أهم المشاريع مفتوحة المصدر، علاوة على إطلاق برنامج في أغسطس 2022 لتحديد الأخطاء في أحدث إصدرات برنامج جوجل مفتوح المصدر.

تشجيع تبني المنتج واكتساب السمعة: ويرتبط هذا الدافع بالتكلفة في اختيار استخدام المصدر المفتوح، حيث تتطلع شركات التكنولوجيا إلى اختيار نشر مشاريع معينة في مصدر مفتوح، بهدف تشجيع تبني المنتجات وتعظيم فرص استخدامها وتحقيق المنافع المختلفة لتلك الشركات، أو بهدف إضعاف مركز لاعب آخر مهيمن بالفعل في قطاع السوق، إلى جانب ذلك، فإن الاستثمار في برمجيات المصدر المفتوح يُعد بمنزلة استراتيحية تسويقية وسمعة تكتسبها تلك الشركات في الأسواق العالمية.
البرمجيات والأمن القومي: 
لم تتبن الحكومات فقط المصادر المفتوحة في بنيتها التحتية الرقمية بل أسهمت أيضاً في تمويل وحوكمة النظم مفتوحة المصدر على المستويين الوطني والعالمي. ويتم تسييس هذه المشاركة بشكلٍ متزايد في ضوء العمل على تخفيف مخاطر التدخل الأجنبي المحتمل في المصادر المفتوحة مثلما الحال بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية أو تطبيق القومية التقنية والرقابة الاجتماعية على مجتمعات المصادر المفتوحة بالنسبة للصين، أو لمتابعة السيادة الرقمية في الحالة الأوروبية.
ففي الولايات المتحدة، يتم التعامل مع القضايا ذات الصِلة بالمصادر المفتوحة من منظور الأمن السيبراني واتخاذ التدابير الوقائية داخل الحكومة الفيدرالية عبر التعاون بين القطاعين العام والخاص. وبعدما كانت الحكومة تعتمد على المصادر الاحتكارية في الثمانينيات من القرن العشرين، باتت تتجه منذ التسعينيات للمصادر المفتوحة لتقليل تكاليف تطوير البرمجيات. كما شهد العقد الأول من القرن الحادي والعشرين قيام القطاع الخاص الأمريكي بالاستثمار بكثافة في المصادر المفتوحة وتعزيزها، ومن ثّم بات هناك اهتمام بتلك المصادر لعلاقتها الوثيقة بالأمن القومي. ومنذ بداية عام 2022، أعطى البيت الأبيض والكونجرس الأمريكي اهتماماً متزايداً بالاستراتيجيات الخاصة ببرمجيات المصدر المفتوح والمخاطر التي يرتبط بها.
أما الصين، فتتطلع إلى اكتساب الاستقلال والنفوذ من خلال مشاريع مفتوحة المصدر ذات وصول عالمي، مستغلة بذلك الحصة التي تزايدت للمساهمين الصينيين في المجتمعات العالمية منذ عام 2010، حيث أسست العديد من المنصات الإلكترونية ذات الأداء الفني المتميز، لذا تستخدم حوالي 87.4% من الشركات الصينية تقنيات مفتوحة المصدر. وتسعى الصين عبر الاعتماد على استخدام تلك التقنيات للاستقلال عن التقنيات الأمريكية للوصول إلى مكانة مركزية في نظام برمجيات المصدر المفتوح.
وتستند الرؤية الأوروبية في تعزيز المساهمة في برمجيات المصدر المفتوح إلى تعزيز السيادة الرقمية، وصنَّف تقرير الاتحاد الأوروبي لعام 2021 ألمانيا والمملكة المتحدة وفرنسا في المراكز الثلاثة الأولى من حيث الالتزامات في المشاركة في المصادر المفتوحة ومبادئ الالتزام بالحرية والمشاعات، وعلى الرغم من ذلك، فإن مساهمة هذه الدول في دعم المصادر المفتوحة أقل من نظيراتها في الولايات المتحدة والصين.
ختاماً، تشير الدراسة إلى أن هناك إدراكاً متنامياً لدول العالم بالأهمية الحاسمة للمصادر المفتوحة للبرمجيات، حيث باتت تتعامل معها على أنها قضية استراتيجية، ويرجع ذلك إلى سعي الحكومات للوصول إلى حلول تكنولوجية موثوقة في سياق رقمنة الإدارة والخدمات العامة، وحماية الأمن السيبراني من خلال الاستثمار في استدامة النظام مفتوح المصدر، إلى جانب تطوير صناعة البرمجيات المحلية وتقليل الاعتماد على البرمجيات الأجنبية الاحتكارية، وفي الأخير، الحفاظ على الفضاء الرقمي كنطاق مفتوح وعام ومشترك وتعاوني.

المصدر:
Alice Pannier, Software Power the Economic and Geopolitical Implications of Open Source Software, French Institute of International Relations (Ifri), Geopolitics of Technology Program, December 2022.