جرت العادة في نهاية كل عام وبداية آخر أن يشرع المحللون داخل الحكومات وخارجها في تقييم الأشهر الـ12 الماضية، ولا يستثنى عاما 2022 و 2023 من هذا العُرف، فكلاهما يطرح في الواقع عدداً كبيراً من القضايا المهمة الجديرة بالنقاش، مما يدفعني إلى التركيز هنا على أبرز القضايا العالمية.
لقد ألقى عام 2022 الضوء على تأملات ونقاشات تشكك في أهمية النظام الدولي السائد. ولقد كانت الدول النامية هي التي تشكك قبل بضع سنوات في منطقية الإبقاء على نظام عالمي من قطبين أو ثلاثة – إذا ما أضفنا الصين إلى روسيا وأمريكا – وهو نظام قام على مفاهيم "توازن القوى" ونطاقات نفوذ كل قوة. بيد أن عام 2022 شهد إضافات وتغييرات مثيرة للاهتمام فيما يخص الجدل الدائر حول ديناميات الساحة الدولية، وذلك بسبب أزمة أوكرانيا وتحفز الولايات المتحدة الزائد تجاه الصين تحسباً لاحتمال تعديها على المصالح الأمريكية.
التعددية القطبية صارت حقيقة!
اعتادت روسيا والصين في الماضي على دعم وجود نظام قطبي محدود، بيد أنهما تحدتا مؤخراً النظام الحالي علناً؛ الذي تشوّه وصار قائماً في الأساس على خدمة المصالح الأمريكية وحدها. كما شككت القوتان في فرضية تبني الغرب نظاماً قائماً على الالتزام بالقواعد، ولكنه في الواقع لا يهدف سوى للحفاظ على المصالح الغربية فحسب. ولا أخفي أنني أشاركهما تحدي هذه الفرضية، فالنهج الغربي للنظام الدولي لا يتعلق "بالقواعد" ولا "بالنظام"، بل يتعلق بالحفاظ على "الاستثنائية" والهيمنة الأمريكية.
ومن الجدير بالذكر أن روسيا والصين قد اعترفتا منذ فترة طويلة – بدافع المصلحة الذاتية والحقوق المكتسبة – بالولايات المتحدة كركيزة أساسية، ليس من الناحية السياسية فحسب، بل والاقتصادية كذلك، من خلال انضمامهما إلى النظام المالي الذي تأسس بموجب اتفاقية بريتون وودز، وهو نظام يرتبط في الأساس بـالدولار الأمريكي.
وبالرغم من تحالف أوروبا مع الولايات المتحدة، فإنها لا تزال ذات أهمية كبرى بالنسبة للاقتصاد الروسي، فأوروبا تميل للحصول على الطاقة من جارتها بدافع حسابات التكلفة. وهكذا يمكننا القول إن روسيا والصين أبدتا اهتماماً بالغاً بأسواق الآخر، على الرغم من أن كلتيهما أثارتا مؤخراً إمكانية اللجوء إلى عملاتهما المحلية أو لمجموعة عملات إلى جانب الدولار، مع اضطلاع روسيا بالفعل بتنفيذ تلك الخطوة جزئياً كرد فعل على العقوبات الغربية.
ولقد أدى كل هذا إلى إحداث فجوة واضحة بين رؤى النظام العالمي ثلاثي الأقطاب، فدعت روسيا والصين إلى كبح جماح الهيمنة الغربية، وزاد اعتبار بعض المنظمات، مثل منتدى شنغهاي، وغيره من المنتديات السياسية بين الحكومات الدولية المختلفة من دون وجود – أو على الأقل من دون هيمنة – الولايات المتحدة وحلفائها، وهو أمر جديد وجدير بالملاحظة. ومع ذلك، لم يقدم أي من الأقطاب الثلاثة أي مقترحات جادة لإعادة تشكيل المنظمات الحكومية الدولية الحالية وإصلاحها لتصبح أكثر استيعاباً وملائمةً للدول النامية، لأن هذا سيؤثر أيضاً على مكانة تلك الأقطاب وحقوقها في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة على سبيل المثال. وغني عن القول إن الولايات المتحدة لا تكترث للاضطلاع بدور أكبر في المنظمات الحكومية الدولية الناشئة.
وتجدر الإشارة أيضاً إلى أن الأزمة الأوكرانية أدت إلى إعراب العالم النامي عن استيائه صراحةً من النظام العالمي الحالي المستقطب وغير المتسق، كما عبرت قرارات الأمم المتحدة في مجلس الأمن والجمعية العامة بوضوح عن الاستياء نفسه، فصوتت أغلب الدول في النهاية ضد الاحتلال الروسي للأراضي الأوكرانية، وهو ما يستحق الإدانة. بيد أن دولاً كثيرة، بما فيها "ديمقراطيات" ذات كثافة سكانية عالية، إما امتنعت عن التصويت أو رفضت تنفيذ العقوبات ضد روسيا.
وأرى أن إعادة النظر في النظام العالمي بجدية أكبر هو وضع جديد ومهم، حتى لو تقدم ببطء وتدرج. ولقد بدأت القوى العظمى الثلاث في خطب ود الدول النامية بالتدريج للحصول على دعمها، فروسيا والولايات المتحدة تسعيان إلى دعم تلك الدول فيما يخص أوكرانيا، بينما تتقرب الصين من تلك الدول نتيجة اعتراض الولايات المتحدة وحلفائها على مشروع الحزام والطريق الصيني التاريخي، والذي يهدف إلى توسيع شبكتها العالمية. لذا فإن هذا هو الوقت المناسب لأن تقدم الدول النامية مقترحات بناءة وحاسمة لجعل النظام الدولي أكثر إنصافاً، حتى لو تم ذلك في الوقت الحالي من خلال عملية تدريجية ستستغرق وقتاً طويلاً.
إجراءات أمنية مشددة
من النتائج الملحوظة الأخرى خلال الأشهر الـ12 الماضية إثارة الشكوك حول مصداقية وموثوقية الإجراءات الأمنية التي تتخذها القوى العظمى، على نحو رسمي أو غير رسمي. وحتى لو لم يكن الوضع في أوكرانيا بالسوء الذي تصوره وسائل الإعلام الغربية، فإن ضعف الأداء الأمني هناك ملحوظ، وهو ما دفع كل من اعتمد على القدرات العسكرية الروسية، أو من كان يخشاها، إلى إعادة تقييم حساباتهم. وكان على روسيا استيراد أنظمة أسلحة، مثل الدرونز الإيرانية، مما أثار شكوكاً كبيرة حول الدعم الأمني الذي قد تتلقاه في المناطق ذات الأهمية الاستراتيجية للغرب.
ولقد حشد الغرب – لا سيما الولايات المتحدة – بلا شك دعماً عسكرياً ومالياً كبيراً ومهماً لأوكرانيا، ولكن لم يتطوع أحد من دول الغرب بأي قوات برية عسكرية وطنية علناً، وهو ما كان جلياً للحلفاء الغربيين في جميع أنحاء العالم ممن لا يمتلكون القدرات البشرية على التعامل مع التهديدات الكبرى واعتبروا "الموثوقية الثابتة" بمنزلة رادع ضد خلق عداوات مع الجيران. وتجدر الإشارة أيضاً إلى التصريحات العلنية للمسؤولين الأمريكيين التي تحذر الأصدقاء بوضوح من افتراض أن الولايات المتحدة ستعرض قواتها للخطر.
لذلك، كانت الـ 12 شهراً الماضية اختباراً لموثوقية الإجراءات الأمنية الأمريكية والروسية ومصداقيتها. وقد تردد صدى هذا في جميع أنحاء العالم، فشرعت كوريا الشمالية في اختبار العديد من الصواريخ الباليستية، وأعلن رئيسها في تصريح مدوٍ أن بلاده تنوي أن تكون أكبر قوة نووية في العالم، فردت الصين بتصريح يؤكد دعمها لأمن كوريا الشمالية، وهو ما جاء جزئياً كرد فعل على ذكر الولايات المتحدة مراراً لسياسة "الصين الواحدة"، ولكنه قد يكون أيضاً رد فعل يهدف لطمأنة كوريا الشمالية وضمان عدم خروج الأمور عن السيطرة.
وختاماً، أعتقد أن عام 2022 قد زرع بذور تغيير تدريجي في النظام الدولي، فالقوى العظمى لم تعد ذات حصانة لا تُقهر. وستظل الولايات المتحدة والغرب معاقل عسكرية واقتصادية، ولكن تحت قيود كثيرة الآن. كما أثار هذا العام الشكوك حول مصداقية الإجراءات الأمنية الأجنبية، مما سيؤجج سباقات التسلح في المناطق المضطربة حول العالم، وهو ما سيؤدي بدوره إلى تفاقم النزاعات وإضفاء الطابع الإقليمي عليها.