أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية
  • مُتاح عدد جديد من سلسلة "ملفات المستقبل" بعنوان: (هاريس أم ترامب؟ الانتخابات الأمريكية 2024.. القضايا والمسارات المُحتملة)
  • د. أحمد سيد حسين يكتب: (ما بعد "قازان": ما الذي يحتاجه "بريكس" ليصبح قوة عالمية مؤثرة؟)
  • أ.د. ماجد عثمان يكتب: (العلاقة بين العمل الإحصائي والعمل السياسي)
  • أ. د. علي الدين هلال يكتب: (بين هاريس وترامب: القضايا الآسيوية الكبرى في انتخابات الرئاسة الأمريكية 2024)

ارتباك " الناتو":

لماذا يفشل سلاح العقوبات الاقتصادية في ردع روسيا؟

24 فبراير، 2022


آش روسيتر، أستاذ الدراسات الأمنية، جامعة خليفة

منذ الوقت الذي هددت فيه روسيا صباح الثلاثاء 22 فبراير بنقل "قوات حفظ السلام" إلى أوكرانيا الشرقية في مقاطعتي دونيتسك ولوهانسك الانفصاليتين – التي اعترفت بهما روسيا مؤخراً – لم تخرج ردود فعل القادة الغربيين عن حدود التوعدات بفرض عقوبات اقتصادية لا ترحم. ففي لندن، توعّد رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون بإطلاق "وابل من العقوبات" ، في حين وقّع الرئيس الأمريكي جو بايدن على مرسوم يحظر أي أنشطة استثمارية أو تجارية أو تمويلية أمريكية جديدة في الجمهوريات التي أعلنت استقلالها من طرف واحد. وأعقب ذلك الإعلان عن عقوبات منسقة بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى طوكيو التي انضمت إلى هذا الإعلان لاحقاً. 

وطبقت الولايات المتحدة عقوبات أولية على بنك VEB والبنك العسكري الروسي (Promsvyazbank) الذي يبرم صفقات دفاعية. وأعلن البيت الأبيض كذلك أنه سيبدأ في تطبيق العقوبات على النخب الروسية وأفراد أسرهم. وبالمثل، استهدف الاتحاد الأوروبي وبريطانيا البنوك الروسية – لا سيما على عملياتها الدولية – كما استهدفا أبرز المسؤولين الحكوميين. ولكن لم يظهر لتلك العقوبات أي تأثير ملحوظ حتى الآن، فالظاهر أن الخيارات المتاحة للتأثير على حسابات بوتين لصنع القرار محدودة للغاية.

"ورقة" نوردستريم 2

كان التهديد بوقف افتتاح خط أنابيب الغاز نورد ستريم 2 – وهو أكثر مشروعات الطاقة إثارة للانقسام في أوروبا والذي تبلغ قيمته 11 مليار دولار – من أهم الأدوات التي ظنت القوى الغربية أنها تمتلكها. ولقد تم الانتهاء من إنشاء هذا الخط في سبتمبر، لكنه لا يزال في حاجة إلى موافقة الهيئات التنظيمية الألمانية قبل البدء في تشغيله. وكان الهدف من وراء إنشاء خط نورد ستريم 2 هو تخفيف الضغط على المستهلكين الأوروبيين الذين يواجهون أسعار لم يسبق لها مثيل لمصادر الطاقة، خاصة في ظل أزمة ارتفاع تكاليف المعيشة في مرحلة ما بعد الوباء.

ولقد علّق المستشار الألماني أولاف شولتز افتتاح خط الأنابيب بسبب تصرفات روسيا في شرق أوكرانيا، وما وصفه بأنه "بيئة أمنية متغيرة في أوروبا". وقد يُعد هذا أقوى إجراء متخذ حتى الآن لفرض عقوبات اقتصادية ومالية على أفعال روسيا، وهو ما كشفته تصريحات الكرملين بعدها، حيث صرح بأمله ألا يكون تأجيل افتتاح نورد ستريم 2 سوى أمر مؤقت . ويعتبر الإعلان الألماني عقاباً لروسيا على أفعالها في شرق أوكرانيا، لكنه قد يكون أيضاً ورقة مساومة لإغراء بوتين بالعودة إلى طاولة المفاوضات.

ولم يُخف المسؤولون الأمريكيون سعادتهم بقرار ألمانيا وقف افتتاح خط أنابيب نورد ستريم 2. غير أن الساسة في برلين ما زالوا أمام معضلة التعامل مع التكلفة التي سيتحملها الشعب الألماني من ارتفاع أسعار الطاقة؛ فمن المؤكد أن هناك حداً زمنياً لحرمان ألمانيا نفسها من الاستفادة من الغاز الروسي.. وهذه الأمور يدركها بوتين بالطبع.

رفع سقف العقوبات

لا تزال القوى الغربية تأمل في أن الخوف من إصدار عقوبات أكثر وأشد سيردع الرئيس بوتين عن القيام بأي هجوم مباغت ضد كييف. ولقد بذل البيت الأبيض قصارى جهده للتأكيد على أن العقوبات الأولية منفصلة عن العقوبات الغربية الأكثر صرامة "في حالة غزو روسيا لأوكرانيا"، فالدول الغربية ستصعّد عقوباتها ضد روسيا في حالة الغزو الكامل لأوكرانيا. وصرّحت وزيرة الخارجية البريطانية، ليز تروس، يوم الأربعاء أنه "ستكون هناك عقوبات أكثر صرامة على الأقلية الحاكمة وعلى أهم المنظمات في روسيا، مما سيحد من وصول روسيا إلى الأسواق المالية في حال وقوع غزو واسع النطاق لأوكرانيا".

ونظراً لأنه من غير المرجح أن ترسل الدول الغربية قواتها إلى أوكرانيا، فإن التهديد بفرض عقوبات مستقبلية هو السلاح والوسيلة الوحيدة التي تملكها الأولى لردع أي عدوان آخر . وقد تحتفظ ببعض العقوبات الإضافية جانباً لردع أي عدوان روسي واسع النطاق، غير أن الأحداث التي وقعت مؤخراً كشفت بالتأكيد عن ضعف هذه التهديدات أيضاً.

اللامبالاة الروسية 

بدا أن التهديد بفرض العقوبات لم يؤثر على بوتين وممثليه خلال مفاوضاتهم مع القادة الغربيين ومسؤوليهم في الأسابيع الماضية. ولقد استهان وزير الخارجية الروسي لافروف في وقت سابق بالتهديد بفرض عقوبات، فعلّق ساخراً: "لن يتوقف زملاؤنا الأوروبيون والأمريكيون والبريطانيون، ولن يهدؤوا حتى يستنفدوا كل إمكانياتهم لتنفيذ ما يسمى بمعاقبة روسيا" .

وربما كان قيام بوتين بجمع احتياطيات كبيرة من العملات الأجنبية لسنوات هو ما أعطاه الثقة في قدرته على التغلب على أي تراجع في الاقتصاد الروسي، أو التغلب على أي عقبات يضعها النظام المصرفي العالمي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة، أضف إلى ذلك أن العلاقات الاستراتيجية الوثيقة بين موسكو وبكين أقنعت الكرملين بأن الوقت قد حان لإعادة توجيه الاقتصاد الروسي على نحو كبير تجاه الصين.

وفي الوقت الذي بدت فيه روسيا على أهبة الاستعداد ليل الأربعاء لضرب أوكرانيا، أصدر وزير الخارجية الأمريكي بلينكين حزمة من التهديدات غير المحددة، فصرّح في مقابلة مع شبكة NBC  الإخبارية بأنه "إذا استمرت روسيا في التصعيد، سنفعل المثل"، مضيفاً أنه "في النهاية، إذا لم يوقف ذلك الرئيس بوتين، فقد أوضحنا تماماً نحن وجميع حلفائنا وشركائنا أنه ستكون هناك عواقب وخيمة في المستقبل، وهو الثمن الذي سيتعين على روسيا أن تدفعه لأمد بعيد" . ولكن المشكلة في هذه المرحلة هي أن بوتين لا يأبه ببساطة لقرارات الغرب.

تراجع "ردع" الناتو!

حتى لو بدا للبعض أن تنفيذ العقوبات واتخاذ تدابير عقابية أخرى هي خطوة طفيفة الأثر تأخرت طويلاً، فلا تزال هناك ميزة في الالتزام بتنفيذ العقوبات التي تم تهديد روسيا بها، فبالرغم من أن هذا الالتزام سيعني بالتأكيد من ناحية إقراراً بفشل التهديدات بصفتها إجراءً رادعاً كما كان مستهدفاً، لكن الإجراءات التي ستُتخذ بعد الواقعة قد تردع أي عدوان مستقبلي آخر ما أن تعي روسيا تأثير العقوبات، فكما افترض اللورد الإنجليزي جورج سافيل في القرن السابع عشر: "لا يُشنق الرجال عقاباً لهم على سرقتهم الخيول، ولكن لمنع سرقة هذه الخيول في المستقبل".

ويبقى التساؤل الأكبر إذن حول مصداقية الردع التقليدي لحلف الناتو، لا سيما وضع القوات الخاضعة لقيادته في أوروبا الشرقية. وتتضمن الخطط الفورية التي أعلنها الرئيس بايدن لتعزيز إستونيا ولاتفيا وليتوانيا إرسال 800 جندي من المشاة وحوالي ثماني طائرات مقاتلة من طراز F-35 إلى مواقع مختلفة على طول الجناح الشرقي لحلف الناتو. وبينما تزداد رغبة الولايات المتحدة في تعزيز وضعها العسكري في المحيطين الهندي والهادئ، فإن الجهود التي يبذلها الأوروبيون للدفاع عن أراضيهم ستزداد أهمية.

ولكن الأمر الأهم لتحقيق التوازن الاستراتيجي في أوروبا الشرقية هو ما إذا كانت تحركات بوتين في أوكرانيا قد أيقظت ألمانيا أخيراً من سباتها أم لا، فلطالما شكا السياسيون والاستراتيجيون الأمريكيون من أن القوة الأوروبية "الاقتصادية" لا تبذل قصارى جهدها عسكرياً وأنها ظلت المستفيد من الإجراءات التي تتخذها الولايات المتحدة لفترة طويلة للغاية من دون أن تساهم من جانبها بشيء.

مبالغة أوكرانية 

في إطار تصاعد الأحداث، ستسعى القوى الغربية إلى بذل ما في وسعها لتعزيز قدرة أوكرانيا على إيلام بوتين على أقل تقدير إذا ما قام بغزو كامل للبلاد. وسيواصل حلفاء كييف الغربيون، لا سيما الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، تقديم الدعم العسكري لها، بما في ذلك تقديم المساعدات الفتاكة المتمثلة في أسلحة دفاعية، مثل الصواريخ المضادة للدبابات.

غير أنه بكل تأكيد قد بالغ نواب البرلمان الأوكراني كثيراً في خطاباتهم النارية حول تحويل أرضهم إلى مقبرة للقوات الروسية، بيد أن الأوكرانيين سيدافعون عن أرضهم بالفعل، فكما صرّح الرئيس الأوكراني زيلينسكي لمواطنيه ليلة الأربعاء: "إذا هاجمونا، وإذا حاولوا سلبنا بلادنا، وسلبنا حريتنا وحياتنا وحياة أبنائنا، فسوف ندافع عن أنفسنا"، وأضاف مخاطباً جيرانه الروس: "عندما تهاجموننا، سنكون في مواجهتكم ولن نوّليكم الأدبار" . 

ولكن القوى الغربية تعي أن المقاومة الأوكرانية ليست كافية، وستواجه الآن الحقيقة الباردة القاسية، وهي كيفية الرد على "العملية العسكرية الخاصة" الروسية التي بدأت صباح الخميس من دون جر أوروبا إلى حرب كبرى أخرى. ومن المؤكد أن التهديدات بعقوبات غير محددة لن تلقى أدنى اهتمام من الروس.