لا شك أن الفشل الذي يلاحق التدخلات العسكرية الأمريكية في الشرق الأوسط ليس استنتاجاً تحليلياً يحتاج إلى براهين وشواهد، بل هو واقع تقر به الدوائر السياسية في واشنطن. ويمكن الإشارة، على سبيل المثال، إلى ما كتبه بن رودس نائب مستشار الأمن القومي الأمريكي في عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما، حيث كتب في مجلة "فورين أفيرز" الأمريكية، معتبراً أن ليبيا والعراق وأفغانستان والصومال كانت ستكون أفضل من دون التدخل العسكري الأمريكي.
والسؤال الأكثر إلحاحاً لدى الدوائر البحثية يتمحور حول عوامل فشل التدخلات العسكرية الأمريكية في الشرق الأوسط خلال العقدين الماضيين، وهنا يمكن الإشارة إلى عوامل عديدة:
1- غياب الفهم الدقيق للثقافة السائدة لدى المجتمعات، والتباين بين المجتمعات التقليدية في منطقة الشرق الأوسط ونظيرتها في الغرب، حيث اعتقدت بعض النخب الأمريكية أن تطوير نظريات مثل "الفوضى الخلاقة" كأساس لإعادة بناء الدول وفق المبادئ والقيم الغربية يمكن أن ينجح في الشرق الأوسط، ولكن التجارب جميعها في هذا الشأن قد فشلت تماماً ولم تقترب من تحقيق أي نجاح، بل ذهب بعضها في اتجاه معاكس ودفع بالدول إلى مستنقع الفوضى والعنف والاضطرابات والتشرذم الطائفي والمذهبي والعرقي وانهيار مفهوم الدولة تماماً، والعودة إلى حاضنات وولاءات تم تجاوزها بشكل كبير، مثل القبائلية والمناطقية والمذهبية، إذ لم يكن منطقياً أن تقوض أسس الدولة القومية التي لم تكن ثابتة بعد.
وهنا يمكن مناقشة الرؤى الأمريكية الحالمة بشأن بناء ديمقراطية واقتصاد سوق وتجارة حرة وغير ذلك من دون مراعاة تأثيرات البيئة والتقاليد والثقافة السائدة في دول المنطقة، ودراسة تأثير ذلك كله على الرؤى التي يطرحها مخططو السياسات الأمريكيون. ولو أخذنا مثال ليبيا، حيث كان متوقعاً تحقيق انتقال سريع إلى دولة غنية بالنفط موالية للغرب، تصبح أيضاً سوقاً جاهزة لشركات الأسلحة الغربية، ولكن بدلاً من ذلك، تحول الأمر إلى كابوس أمني ونقطة تمركز جديدة لتنظيمات الإرهاب، وتحولت ليبيا إلى ممر عبور للأسلحة للارهابيين في جميع أنحاء منطقة الساحل.
2- ضآلة الإنفاق الأمريكي على "إعادة البناء"، فالتدخلات العسكرية الأمريكية التي ترفع شعار إعادة بناء الدول وترسيخ الديمقراطية لم تنفق سوى مبالغ ضئيلة من جملة الإنفاق العسكري لهذه التدخلات في تحقيق الهدف الرئيسي، أي في التنمية وبناء الدول. فعلى سبيل المثال، تقول الإحصاءات إن الإنفاق العسكري الأمريكي في أفغانستان والذي لامس سقف تريليون دولار لم يُنفق منه سوى 130 مليار دولار، بينما ذهب الجزء الأكبر من الإنفاق العسكري على احتياجات القوات الأمريكية. كما لم تنفق الولايات المتحدة سوى 10 مليارات دولار في مكافحة تجارة المخدرات في هذا البلد.
3- غياب الرؤية الاستراتيجية الأمريكية طويلة الأمد، ففي البداية تحدث القادة والرؤساء الأمريكيون عن السعي لإعادة بناء الدول وغرس الديمقراطية وثقافة حقوق الإنسان والقيم الغربية في هذه الدول، ثم عاد الرئيس جو بايدن ليتحدث بعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان عن أن الولايات المتحدة لم تكن تستهدف بناء الدولة الأفغانية، بل ذهبت لمكافحة الإرهاب. والحاصل أن هذا الارتباك الاستراتيجي قد سبب ضرراً بمصالح الولايات المتحدة، وتراجع مصداقيتها، وأسهم في إيجاد مناطق ودول ضعيفة وهشة، واتسعت رقعة الإرهاب بشكل كبير وتحولت تنظيماته إلى فسيفساء تنتشر في مناطق جغرافية واسعة. وبدلاً من وجود فراغ أمني في دولة واحدة، مثل أفغانستان عام 2001، اتسع الأمر ليشمل بعد ذلك العراق وبعدها سوريا وليبيا.
4- الخطأ في إدارة ما يُعرف بـ "الربيع العربي" عام 2011، حيث تبنت الولايات المتحدة الرؤية القائلة بالاعتماد على جماعات اعتبرتها نموذجاً للإسلام السياسي المعتدل كبديل لأنظمة الحكم القائمة، وكانت المحصلة فشل هذه الجماعات في إدارة الدول لافتقارها لخبرات الحكم والسياسة، والانقسام الداخلي العميق حولها. وتسبب ذلك في منح الفرصة لقوى إقليمية توسعية للتدخل في شؤون جوارها الإقليمي، كما حدث بالنسبة لليمن وسوريا على يد إيران. وكادت هذه الأخطاء تتسبب في كارثة إقليمية كبرى لولا نجاح الشعوب العربية في التخلص من قبضة حكم الجماعات المتطرفة، كما حدث في الحالة المصرية في يونيو 2013.
5- تجاهل واشنطن حلفاءها الإقليميين عند بناء ورسم السياسات الخاصة بالشرق الأوسط، حيث تسببت السياسات الأمريكية تجاه إيران طيلة العقدين الماضيين في اقتراب النظام الإيراني من امتلاك أسلحة نووية، فضلاً عن مراكمة ترسانة صاروخية متطورة قادرة على توجيه الضربات الدقيقة بعيدة المدى، وبشكل يهدد القوات الأمريكية المتمركزة في منطقة الشرق الأوسط. وهذا قاد في النهاية الولايات المتحدة للتفكير في إعادة انتشار قواتها في دول مثل العراق، فضلاً عن تراجع قدرة واشنطن على لجم الاندفاع الاستراتيجي الإيراني جراء اقتراب طهران من امتلاك قدرات تسليحية نووية.
6- سياسات المواءمة والمزاوجة التي تنتهجها واشنطن حيال بعض التنظيمات الإرهابية، مثل جماعة الإخوان المسلمين، حيث تتردد واشنطن في وضع بعض هذه التنظيمات على قوائم الإرهاب لاعتقادها بأن ثمة مصالح وأهدافاً استراتيجية يجب الحفاظ عليها من خلال الإبقاء على خيط رفيع من العلاقات مع قيادات هذه التنظيمات والجماعات. وتسببت سياسة "إمساك العصا من المنتصف" في خسائر كبيرة للتدخلات الأمريكية في سوريا والعراق وغيرهما.
7- تراجع ثقة الحفاء في واشنطن، فمن المؤكد أن الولايات المتحدة تعاني فجوة بين الأفعال والأقوال، وقد تسببت هذه الفجوة في تراجع الثقة بينها وبين حلفائها في منطقة الشرق الأوسط، والأمر هنا لم يقتصر على التخلي عن أنظمة حكم حليفة لواشنطن في عام 2011، ولكنه يمتد ليشمل عدم تنفيذ تعهدات متكررة، مثل التصدي لأنشطة إيران التي تهدد الأمن والاستقرار الإقليمي في منطقة الخليج العربي. والمسألة لا ترتبط في هذه الحالة بتنفيذ أعمال عسكرية بقدر ما ترتبط بدعم قدرات الحلفاء التسليحية لمواجهة هذه التهديدات وبناء الردع وتوازن القوى اللازم لمواجهة الأخطار القائمة.
أخيراً، فإن مجمل عوامل الفشل السابقة يكمن في إحساس الولايات المتحدة الزائد بالتفوق لدرجة الاقتناع بإمكانية تصدير قيمها ومبادئها إلى مجتمعات ليست جاهزة لاحتضان هذه القيم والمبادئ وتطبيقها من دون التشاور والتنسيق مع حلفائها التقليديين، بالإضافة إلى أن ارتباك السياسة الخارجية الأمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة قد أسهم في افتقار هذه السياسات للدعم الرسمي من جانب دول المنطقة.
فحين يصف الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب قرار أسلافه بإرسال قوات إلى الشرق الأوسط بـ "أكبر خطأ في تاريخ البلاد"، تتراجع على الفور معدلات الثقة في قدرة الولايات المتحدة على الاحتفاظ بمكانتها ونفوذها في هذه المنطقة. فواشنطن تتصرف أحياناً وفق حسابات اقتصادية رقمية بحتة من دون أدنى اعتبار للحسابات الاستراتيجية، بمعنى أن وجود القوات الأمريكية في الشرق الأوسط يعد رمزاً لقيادة العالم. ولذا فإن الحديث عن مغادرة المنطقة كلياً يعني الكثير بالنسبة للقيادة الأمريكية عالمياً، والمسألة في هذه الحالة لا تقتصر على تراجع أسعار النفط، ومن ثم تراجع القدرات الشرائية لدول المنطقة من صادرات السلاح الأمريكية، فالشراكة ليست على المستوى التجاري والتسليحي فقط، بل تمتد لتشمل مصالح متبادلة على الصعيد الأمني الاستراتيجي.