بعد أكثر من عامين على إسقاط نظام الرئيس السابق عمر البشير، لايزال الانتقال السياسي في السودان يمر بمرحلة حرجة وبالغة التعقيد؛ إذ تواجه حكومة رئيس الوزراء عبدالله حمدوك مجموعة متنوعة من التحديات والعقبات، بما في ذلك الاحتجاجات الجماهيرية على أسعار السلع ومواد الوقود، وعودة العنف في منطقة دارفور المضطربة. وإذا استمر الوضع في التردي والانهيار، فقد تقع البلاد في أزمة هيكلية أخرى تقود بعض أركان النظام السابق إلى العودة إلى السلطة مجدداً. ويُلاحظ أن السودان واجه تحديات هائلة خلال العقد الماضي قبل سقوط البشير، حيث تسبب انفصال جنوب السودان في حدوث صدمات اقتصادية متعددة لهذا البلد، كما أن الحرب الأهلية التي شهدتها مناطق الأطراف لم تضر بالاقتصاد السوداني فحسب، بل أدت أيضاً إلى زيادة عدد اللاجئين والمشردين داخلياً.
ويناقش هذا المقال حالة الانتقال السياسي، والتحديات التي تواجهها، وشرح ما يجب على الحكومة الانتقالية فعله لإعادة البلاد إلى المسار الصحيح.
تحديات شائكة:
شهدت العملية الانتقالية في السودان بعد البشير العديد من التقلبات على طول الطريق، بما في ذلك محاولة تمرد عسكري، ومحاولة اغتيال رئيس الوزراء الانتقالي عبدالله حمدوك، كما أن الحكومة الانتقالية لم تلتزم بشكل كامل بالأحكام المهمة لاتفاقية 2019 التي تم توقيعها بين المجلس العسكري الانتقالي وتحالف قوى الحرية والتغيير. فكان المتوقع أن ينشئ السودان هيئة تنفيذية وتشريعية وقضائية جديدة ومؤسسات دولة أخرى. ولكن لايزال هناك الكثير الذي يتعين القيام به، خاصة مع التحديات المعقدة التي تواجهها الدولة.
فعلى الرغم من الإطاحة بالبشير من السلطة ثم سجنه، فإن إجراءات محاكمته المحلية تأخرت بشكل متكرر. علاوة على ذلك، فإن الجرائم الكبيرة، مثل القتل خارج نطاق القضاء، والاعتداءات التي ارتكبتها قواته الأمنية ليست مدرجة في قائمة التهم الموجهة إليه. ومع ذلك فقد أُدين بتهم الفساد ومخالفات العملة في ديسمبر 2019، وحُكم عليه بالسجن لمدة عامين في "منشأة إصلاحية" مصممة للسجناء كبار السن. كما اُتهم البشير بالتحريض والتورط في قتل المتظاهرين خلال الاحتجاجات التي أدت إلى خلعه من السلطة.
وفي ديسمبر من العام الماضي تم استجواب البشير حول دوره في انقلاب 1989 الذي أوصله إلى السلطة، كما وافقت الحكومة الانتقالية في السودان من حيث المبدأ على تسليمه إلى المحكمة الجنائية الدولية، وهي خطوة في حال اتمامها قد تعرضه للمحاكمة بتهم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب.
ولعل من دواعي القلق الشديد حدة المصاعب الاقتصادية، التي تفاقمت بسبب التضخم بنسبة 304%، والعجز التجاري والمالي الكبير، والبطالة المرتفعة والفقر، والتي تشكل خطراً على استقرار السودان. علاوة على ذلك، من المتوقع أن يحتاج 13.4 مليون شخص – أي نحو ربع السكان تقريباً - إلى مساعدات إنسانية، بما في ذلك 2.5 مليون نازح داخلياً، كما أن السودان نفسه يستضيف نحو مليون لاجئ، بما في ذلك 70 ألف وافد حديثاً من إثيوبيا. وعليه لا يمكن المبالغة في القول إن هناك حاجة إلى دعم مالي واقتصادي مستدام للسودان.
ومن جانب آخر، فقد فشلت الحكومة في السيطرة على العنف بين المجتمعات في دارفور. وقد خلفت الاشتباكات الطائفية في الجنينة، غرب دارفور، في يناير الماضي، نحو 165 قتيلاً وأكثر من 100 ألف نازح. وترى كل من الحركة الشعبية لتحرير السودان (شمال) بقيادة عبدالعزيز الحلو، وحركة تحرير السودان الرئيسية بقيادة عبدالواحد النور، وهما خارج إطار اتفاقية جوبا، أن تحقيق وحدة الدولة السودانية يجب أن يقوم على أساس العلمانية، والديمقراطية، والليبرالية، والمواطنة المتساوية واللامركزية، والتنمية المتوازنة، والإرادة الحرة لشعوبها، والوحدة الطوعية، وحق الشعب السوداني في تقرير مصيره ومستقبله الإداري والسياسي كحق إنساني وقانوني وديمقراطي حقيقي ومبدأ لسيادة القانون.
وبالإضافة لذلك، فقد عادت التوترات على الحدود بين إثيوبيا والسودان للظهور، حيث يطالب كلا البلدين بالمنطقة المتنازع عليها المعروفة باسم الفشقة، إذ يلتقي شمال غرب منطقة الأمهرة الإثيوبية بولاية القضارف السودانية. ويوجه السودان اللوم إلى المزارعين الإثيوبيين لاستيطانهم وزراعتهم أراضٍ خصبة على الجانب السوداني من الحدود. وقد تفاقمت هذه التوترات منذ اندلاع أزمة تيغراي أواخر عام 2020. فقد تدفق أكثر من 70 ألف لاجئ عبر الحدود السودانية، كما اتهم السودان القوات الإثيوبية بنصب كمين لجنود سودانيين، وخرق مجاله الجوي. بعد هذه الأحداث بوقت قصير، بدأ السودان عملياته العسكرية لاستعادة "الأراضي المصادرة" على طول الحدود، مما أثار اتهامات إثيوبية مضادة بضرورة عودة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل حرب التيجراي. وفي السياق نفسه، يُلاحظ أن الجهود الدبلوماسية لتسوية النزاع المستمر منذ فترة طويلة بين إثيوبيا ومصر والسودان بشأن سد النهضة على النيل الأزرق متوقفة ولم تحدث أي اختراق.
وتم عرض الأمر مرة أخرى إلى مجلس الأمن الدولي، لتتم إعادته إلى الاتحاد الأفريقي. والتحدي هو أنه كلما قل تدخل مجلس الأمن، زادت مخاطر تصعيد القضايا. وإذا لم يكن هناك تحرك جاد فيما يتعلق بالأدوار والمسؤوليات، فإن وظيفة منع الصراعات، التي تعتبر مهمة للغاية لكل من الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي، سوف تبوء بالفشل. ومن المؤكد أن التوترات بين الدول الثلاث سوف تتصاعد، مما يزيد من تبعات ذلك على العلاقات الاقليمية مثل النزاع الحدودي بين إثيوبيا والسودان وحرب التيجراي.
كما تحاول الدولة السودانية أيضاً التعافي من الآثار الصحية والاقتصادية لوباء كوفيد 19 ومشكلة الجراد المتكررة. ولا يخفى أن جائحة كوفيد 19 لها تأثيرات مباشرة وغير مباشرة على الأمن الغذائي في السودان. ووفقاً لأحدث تقرير بهذا الخصوص، فقد فقدت بعض العائلات دخلها في وقت يواجهون فيه أيضاً تكاليف معيشية أعلى، بما في ذلك زيادة التكاليف الطبية المرتبطة بالوباء، فضلاً عن الأزمة الاقتصادية المستمرة. كما أن تدابير الاحتواء الضرورية المتعلقة بفيروس كورونا لها أيضاً آثار سلبية غير مباشرة، مما يحد من الوصول المادي للعديد من الأسر الفقيرة إلى المناطق التي يكسبون فيها عادةً دخلاً من العمل اليومي.
إنجازات محدودة:
بشكل عام أحرزت الحكومة السودانية بعض التقدم، فقد أصدرت قانوناً في محاولة لتفكيك إطار النظام السابق، وأمرت باعتقال وزير الخارجية السابق، علي كرتي، لدوره في انقلاب 1989 الذي أوصل عمر البشير إلى السلطة. كما مرر المجلس التشريعي المؤقت في السودان الذي يتكون من جميع أعضاء مجلسي السيادة والوزراء، قانون مفوضية مكافحة الفساد، بعد إزالة أي تعارض في نصوص القانون مع لجنة اجتثاث وتصفية نظام الرئيس المعزول البشير. وقد استردت اللجنة بالفعل أموالاً طائلة وممتلكات وشركات مملوكة لأعوان نظام البشير تُقدر قيمتها بمليارات الجنيهات السودانية، ولا تزال تواصل عملها في تفكيك سيطرة الإسلاميين على مؤسسات الدولة.
كما نجح رئيس الوزراء حمدوك في التفاوض على إزالة السودان من قائمة الإرهاب التي ترعاها الولايات المتحدة. وتمكنت حكومته من إشراك العديد من الجماعات المسلحة السودانية في اتفاقية جوبا للسلام، الموقعة في أكتوبر 2020. وبالفعل تم توسيع مجلس السيادة السوداني، في 4 فبراير الماضي، ليشمل ثلاث حركات مسلحة موقعة على اتفاقية جوبا للسلام. وعليه فقد اتخذ مجلس الوزراء الجديد - الذي تم تشكيله برئاسة عبدالله حمدوك في 8 فبراير - طابعاً سياسياً وليس تكنوقراطياً، ويمثل ائتلافاً واسعاً مبنياً على تقاسم السلطة بين المدنيين والعسكريين والحركات المسلحة.
وعلى الرغم من تباين وجهات النظر حول قدرة هذه الحكومة المسيسة، حيث إنها لا تشمل جميع القوى السياسية، فإن تمثيل معظم الحركات السياسية، سمح لها بالفعل باتخاذ قرارات صعبة - من بينها، تعويم سعر صرف العملة. كما وافقت الحكومة أيضاً على خمس أولويات وطنية، هي معالجة الظروف الاجتماعية والاقتصادية، وتنفيذ اتفاق جوبا للسلام، واستئناف المفاوضات مع الحركتين المسلحتين التي لم توقع على اتفاق السلام وإصلاح قطاع الأمن وحماية المدنيين، والعلاقات الدولية، ودفع عجلة التحول الديمقراطي.
ومن جانبها، وافقت الدول الدائنة على إلغاء 14.1 مليار دولار من ديون السودان الدولية، مشيدة بإصلاحاته الاقتصادية وجهوده في مكافحة الفقر. كما أعلن نادي باريس للدول الدائنة أيضاً أنه أعاد جدولة ديون السودان المتبقية البالغة 9.4 مليار دولار للمجموعة، ومن المرجح أن يشهد السودان المزيد من تخفيف الديون المستحقة عليه في المستقبل. ومن جهة أخرى، صادق السودان على الاتفاقية الدولية لحماية كل الأشخاص من الاختفاء القسري واتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة. وهذه خطوة جيدة نحو ترسيخ حقوق الإنسان في البلاد.
إصلاحات مطلوبة:
من المهم أن تعمل الحكومة السودانية بشكل عاجل لإصلاح الاقتصاد، حيث إن أسعار السلع والخدمات آخذة في الارتفاع. وقد استمرت الاحتجاجات على أسعار الوقود والخبز وسلع أساسية أخرى منذ الإطاحة بالبشير. وعلى أية حال، فإن الخطوات الأخيرة التي اتخذتها الحكومة لتحديد قيمة الجنيه السوداني بناءً على العرض والطلب مقارنة بالعملات الأخرى سيساعد على إعادة التوازن إلى الجنيه على المدى الطويل وتأمين القروض والمنح الدولية. بيد أن إصلاح الاقتصاد لن يكون كافياً ما لم تقم الخرطوم بإصلاحات جذرية لمؤسسات الدولة والقطاعات الأمنية. وهنا يجب أن تقوم رؤية السودان المستقبلية على تأسيس مشروع وطني يعيد هيكلة السلطة والثروة في الدولة وتغيير معادلة النخب النهرية المسيطرة منذ الاستقلال في عام 1956 وذلك لصالح تمكين الأطراف والمهمشين.
وهناك حاجة ماسة أيضاً إلى معالجة الروابط بين قطاع الأمن ومصالح الأعمال الخاصة. كما يجب على حكومة حمدوك إدارة المخاطر المرتبطة باتفاقية جوبا للسلام في أكتوبر 2020، والتي تدمج المتمردين في الجيش الوطني، حيث إن توسيع قطاع الأمن قد يكلف الاقتصاد السوداني الهش المليارات، وهو ما ينعكس سلباً على أجندة الإصلاح الحكومية، كما يقيد قدرة الحكومة على تأسيس مبدأ الإشراف المدني المؤسسي والسيطرة البرلمانية على المؤسسة العسكرية والأمنية.
ختاماً، فإنه طوال تاريخ السودان الحديث، وضعت الثروة دوماً لخدمة مصالح النخب المهيمنة من مناطق الوسط. وقد تمكن هؤلاء من جني الفوائد الاقتصادية من موارد البلاد الهائلة على حساب السودانيين العاديين. وإذا لم يتم تعديل هذا الخلل في منظومة الثروة والحكم تصبح احتمالات العودة إلى الوراء أو توقف عملية الانتقال السياسي أمراً مرجحاً. ويُظهر تصاعد العنف في دارفور إخفاق الولاية والحكومة المركزية في حماية المدنيين. ويشير إلى أن حكومة حمدوك يجب أن تتخذ تدابير لنزع فتيل العنف، مع مراعاة العوامل المساهمة في ذلك مثل تأثير تغير المناخ على الزراعة والفيضانات وقضايا الأراضي والوصول إلى الموارد. وفي نهاية المطاف، من أجل تحقيق السلام، يجب على السودان الجديد أن يحتضن القيادة المدنية ويفكك النظام العسكري القديم. وفي هذا الصدد، يحتاج حمدوك وحكومته إلى تنفيذ إطار لتحقيق الاستقرار يشمل جميع الجماعات المسلحة، ويدعم الإصلاح المؤسسي والأمن القومي. كما أن السودان بحاجة إلى عدالة انتقالية حقيقية، فالقرارات الرمزية للحكومة لن تهدئ الشعب لفترة طويلة.
وأخيراً، يجب أن يبدأ حوار وطني عام بشأن الانتخابات قبل انتهاء ولاية الحكومة الانتقالية في عام 2022، حيث يحتاج السودان إلى إطار مؤسسي لدعم انتخابات حرة ونزيهة تؤسس لانتقال ديموقراطي حقيقي يلبي تطلعات الجماهير.