صار ملف المرتزقة أحد المحركات الرئيسية لتفاعلات الشرق الأوسط، وبصفة خاصة في بؤر الصراعات المسلحة، ومنها ليبيا واليمن وسوريا، حيث يتم استقدامهم عبر رحلات جوية مدنية أو تجاوز خطوط الحدود البرية أو التهريب من خلال شبكات الإجرام المنظم عن طريق البحر، على نحو ما عكسته جملة من الشواهد ومنها تزايد الملفات الخلافية بين القوى الدولية "فرنسا" والإقليمية "تركيا"، والعداوة المتبادلة بين "قوات سوريا الديمقراطية" وأنقرة، واستمرار سياسة الأخيرة الرامية لإزعاج دول الجوار الليبي، واستعانة ميلشيا الحوثي وحزب الإصلاح بمرتزقة أفارقة لإطالة أمد الحرب في اليمن، وتحذير الحكومة الشرعية اليمنية "مرتزقة طهران" من تحويل اليمن إلى ساحة صراع بعد مقتل قاسم سليماني.
جيوش الظل:
يشير الاتجاه الرئيسي في أدبيات العلاقات الدولية إلى أن المرتزقة هم "أى شخص يجند خصيصاً، محلياً أو في الخارج، للقتال في نزاع مسلح، ويكون دافعه الأساسي للاشتراك في الأعمال العدائية هو الرغبة في تحقيق مغنم شخصي، ويبذل له فعلاً من قبل طرف في النزاع أو باسم هذا الطرف وعد بمكافأة مالية تزيد كثيراً على ما يوعد به المقاتلون ذوو الرتب والوظائف المماثلة في القوات المسلحة لذلك الطرف أو ما يدفع لهم".
وتضيف المادة الأولى من الاتفاقية الدولية لمناهضة تجنيد المرتزقة واستخدامهم وتمويلهم وتدريبهم، الصادرة عن منظمة الأمم المتحدة: "لا يكون من رعايا طرف في النزاع ولا من المقيمين في إقليم خاضع لسيطرة طرف في النزاع. وليس من أفراد القوات المسلحة لطرف في النزاع. ولم توفده دولة ليست طرفاً في النزاع في مهمة رسمية بصفته من أفراد قوتها المسلحة".
وقد سلطت تفاعلات الحرب الليبية، بشكل خاص، في نهاية عام 2019 وبداية عام 2020، الضوء على دور المرتزقة في بؤر الصراعات المسلحة بالإقليم، وما يؤدي إليه من ازدياد حدة الصراع وتعقيد التوصل إلى تسويات وتصاعد التوترات وخلافات المصالح بين القوى الإقليمية والدولية، وهو ما يمكن توضيحه في التالي:
تباين مركب:
1- الملفات الخلافية بين القوى الدولية والإقليمية: تصاعدت حدة الخلافات بين تركيا وفرنسا بسبب موقف الأولى من الأزمة الليبية، لاسيما بعد توقيع حكومة الوفاق برئاسة فايز السراج معها على مذكرتى تفاهم تتعلق الأولى بالسيادة على المناطق البحرية في البحر المتوسط، وترتبط الثانية بالتعاون الأمني والعسكري، الذي مهد لتدخلها في الحرب بين قوات الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر والميلشيات المسلحة والجماعات الداعمة للوفاق، تحت دواعي "حماية الشرعية". وقد سبق أن نددت باريس بالمذكرتين، حيث أن الأولى تمثل افتئاتاً على حقوق الدول الأطراف المشاطئة الأخرى، والتي قامت بترسيم حدودها البحرية، مثل اليونان وقبرص ومصر، فيما تؤدي الثانية إلى تغذية الحرب ودفعها إلى أبعاد جديدة تتجاوز الأطراف المحلية وتأخذ شكل صراع إقليمي مكشوف.
وفي هذا السياق، هاجم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في 29 يناير 2020، وذلك عقب لقائه رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتساتاكيس في قصر الإليزيه، متهماً إياه بـ"عدم احترام الالتزامات"، التي عبر عنها في مؤتمر برلين، حيث قال في هذا الصدد: "نحن نرى في الأيام الأخيرة السفن التركية تنقل مرتزقة سوريين إلى الأراضي الليبية"، مضيفاً: "إن ذلك يحصل في هذا الوقت بالذات.. وهو يناقض بشكل واضح ما التزم أردوغان القيام به في مؤتمر برلين، وبالتالي فإنه لم يحترم كلامه". وسبق أن قال ماكرون في مؤتمر برلين: "إن ما يقلقني بشدة هو وصول مقاتلين سوريين وأجانب إلى مدينة طرابلس، وهذا يجب أن يتوقف".
ووفقاً لرؤية الرئيس ماكرون، فإن ما تقوم به تركيا يهدد أمن الدول الأوروبية ودول الساحل والصحراء في إفريقيا، حيث تضطلع باريس بدور محوري من خلال "قوة برخان"، العاملة بشكل خاص في مالي والنيجر وبوركينافاسو في محاربة التنظيمات الإرهابية. فضلاً عن أن سقوط نظام القذافي واتساع نطاق نشاط الميلشيات المسلحة وزيادة دور جماعات الجريمة المنظمة حوَّل ليبيا إلى ملاذ للتنظيمات الإرهابية، الأمر الذي يفسر الإدانة الفرنسية للتدخلات التركية، وتعزيز الشراكة الأمنية الفرنسية- اليونانية. هذا بخلاف موقف باريس الرافض لضم أنقرة لعضوية الاتحاد الأوروبي. كما كانت باريس أكثر الدول الأوروبية انتقاداً لعمليات تركيا العسكرية في عفرين والشمال الشرقي السوري. وتندد باريس بشكل دوري بتهديدات أنقرة بفتح حدودها أمام المهاجرين واللاجئين لديها من أجل إغراق أوروبا بهم.
خصومة الأكراد:
2- العداوة المتبادلة بين "قوات سوريا الديمقراطية" وتركيا: فهناك استهداف من جانب الأخيرة لميلشيا "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد)، وهو ما بلغ ذروته مع عملية "نبع السلام" التي شنتها على شمال شرق سوريا، بداية من 9 أكتوبر 2019، حيث ترغب تركيا في تقليص نفوذ الأكراد على حدودها الجغرافية المباشرة وتعتبرهم "جماعة إرهابية" يستوجب قتالها وإبعادها عن خطوط التماس.
فقد ذكرت وكالة الأنباء السورية "سانا"، في 21 يناير 2020، أنها نقلت عن مصادر أهلية ما يفيد بأن "تركيا تمارس ضغوطاً مكثفة على عناصر التنظيمات والمرتزقة الذين يعملون بإمرتها في ريفى الحسكة والرقة الشماليين لإجبارهم على الالتحاق بالمجموعات التي تنقلها جواً إلى ليبيا للمشاركة بالقتال الدائر هناك". وأوضحت: "إن القوات التركية تعمد إلى قطع رواتب المرتزقة الذين لا يرغبون بالمشاركة في المعارك الدائرة في ليبيا وتلجأ إلى التجنيد القسري للمهجرين الموجودين في السجون التي أنشأتها ضمن الأراضي السورية".
كما قال مصطفى بالي المتحدث باسم "قوات سوريا الديمقراطية"، في تصريحات صحفية في 25 يناير الجاري: "إن تركيا نقلت نحو 6 آلاف مرتزق إلى الأراضي الليبية للقتال بجانب الميلشيات التابعة لحكومة الوفاق"، موضحاً: "إن غالبية المسلحين المنتقلين إلى ليبيا ينتمون إلى فصائل مسلحة سورية موالية لأنقرة، بالإضافة لعناصر من تنظيم الإخوان". وأشار إلى أن "نعوش عدد من المرتزقة الذين أرسلتهم تركيا إلى ليبيا بدأت في التدفق على سوريا".
إزعاج الجوار:
3- استمرار سياسة تركيا الرامية لإزعاج دول الجوار الليبي: تضفي تصريحات وزير داخلية حكومة الوفاق فتحي باشا آغا، في 22 يناير الجاري، مصداقية على الاتهامات الموجهة بشأن وجود مرتزقة موالين لتركيا في العاصمة طرابلس، حيث قال أن "حكومته أبرمت مع تركيا اتفاقية متنوعة. تتعلق بالأمن والتدريب والدعم، ومن هذا الدعم هناك بعض القوات التي نستعين بها للدفاع عن طرابلس". كما صرح أحد مؤسسي "كتيبة ثوار طرابلس"، في 25 من الشهر نفسه قائلاً: "إن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وبدلاً من أن يرسل جنوده للقتال في معركة طرابلس وفقاً للاتفاقية الموقعة مع رئيس المجلس الرئاسي فايز السراج، اكتفى بمدهم بمقاتلين من عناصر المرتزقة". وتشير بعض التقديرات الصادرة عن عدد من وسائل الإعلام العربية إلى ارتفاع ملحوظ في عدد المرتزقة داخل معارك العاصمة الليبية.
إطالة الحرب:
4- استعانة ميلشيا الحوثي وحزب الإصلاح بمرتزقة أفارقة لإطالة الحرب في اليمن: وظفت الميلشيا الحوثية المرتزقة في مواجهة القوات العسكرية المحسوبة على الشرعية، واستخدمهم حزب الإصلاح لمواجهة قوات الحراك الجنوبي، نظراً لأن المرتزقة يعتبرون "وقوداً جديداً" في المعارك في ظل كثرتهم وقلة تكلفتهم، وخاصة القادمين من الدول الإفريقية، ومن بينهم أطفال، وتوجد لبعضهم صلات بتنظيمات إرهابية، أو قد يكونوا مهاجرين غير نظاميين عبر سواحل البحر الأحمر، وبصفة خاصة من الصومال وإثيوبيا وإريتريا.
مرتزقة طهران:
5- تحذير الحكومة الشرعية اليمنية مرتزقة طهران من تحويل اليمن إلى ساحة صراع بعد مقتل سليماني: قال وزير الإعلام اليمني معمر الإرياني، في تغريدة على موقع "تويتر" في 5 يناير 2020: "نحذر مرتزقة طهران الميلشيات الحوثية من مغبة تحويل اليمن إلى مسرح صراع إيراني- أمريكي، وتعريض مصالح اليمن واليمنيين للخطر وتقديمهما كبش فداء خدمة لأهداف النظام الإيراني، وسياساته التدميرية في المنطقة، وما يبدو أنه حرص إيراني في عدم الانجرار إلى مواجهة مباشرة مع أمريكا".
وأضاف: "البيانات والتصريحات التي أصدرها مرتزقة طهران من قيادات الميلشيات الحوثية منذ لحظة إعلان مقتل سليماني والمهندس في غارة أمريكية بالعاصمة العراقية بغداد، تؤكد استعدادهم التام بل واستجداءهم النظام الإيراني لاتخاذ الأراضي والمياه الإقليمية اليمنية منطلقاً للثأر وما تسميه عملية الرد". وأشار إلى أن "الشعب اليمني يعاني الأمرين، وما زال يدفع الثمن جراء انقلاب الميلشيات الحوثية ومحاولات نظام طهران تحويل اليمن إلى منصة لاستهداف دول الجوار وتهديد أمن الملاحة الدولية".
ملف ضاغط:
خلاصة القول، إن المجموعات المقاتلة العابرة للحدود أو الجنود المرتزقة سيظلوا ملفاً ضاغطاً على أمن واستقرار ليس فقط بؤر الصراعات المسلحة العربية بل "دول جوارها" أيضاً، من زوايا مختلفة، سواء كانت دولاً عربية أو أوروبية، وهو ما يتعين أن يكون أحد محاور القمة العربية- الأوروبية المقبلة، نظراً لكثافة التهديدات التي تواجه الدول الواقعة على شاطئ المتوسط في المرحلة الحالية.