اكتسبت المظاهرات التي دعا إليها زعيم التيار الصدري في العراق مقتدى الصدر، في 24 يناير 2020، للمطالبة بإخراج القوات الأمريكية من العراق تنفيذاً لقرار مجلس النواب العراقي، الذي صدر في 5 من الشهر نفسه، ويلزم الحكومة بإنهاء أى وجود لقوات أجنبية في العراق ومنعها من استخدام الأجواء العراقية لأى سبب كان، اهتماماً خاصاً من جانب إيران. وفي الواقع، فإن هذا الاهتمام، الذي انعكس في التغطية البارزة لوسائل الإعلام الإيرانية للمظاهرات، التي وصفتها وكالة أنباء "مهر" بأنها "ثورة عراقية جديدة تشبه ثورة 1920"، يمكن تفسيره في إطار اعتبارات رئيسية ثلاثة تتمثل في مواصلة التصعيد سياسياً مع الولايات المتحدة بعد مقتل قاسم سليماني، وتعزيز دور الميليشيات الموالية لها على المستوى الأمني، واحتواء الحراك الشعبي المناوئ لنفوذها في العراق.
اعتبارات مختلفة:
أيدت إيران بشكل واضح الدعوات التي أطلقت من العراق لإخراج القوات الأمريكية وإنهاء وجودها على الأراضي العراقية، واعتبرت أن التظاهرات التي نظمها التيار الصدري، في 24 يناير الجاري، بمثابة "استفتاء" على إخراج القوات الأمريكية، حسب ما جاء في تقرير لوكالة أنباء "تسنيم"، فيما أشار الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي علي شمخاني إلى أن "هذه التظاهرات تعكس دور العراق الريادي في إخراج القوات الأمريكية من المنطقة".
ويمكن تفسير أسباب اهتمام إيران بإخراج القوات الأمريكية من العراق في هذا التوقيت في ضوء اعتبارات ثلاثة رئيسية تتمثل في:
1- مواصلة التصعيد السياسي مع واشنطن: اعتبرت إيران أن الضربات الصاروخية التي وجهتها إلى قاعدتين في العراق تتواجد بهما قوات أمريكية، في 8 يناير الجاري، رداً على مقتل قائد "فيلق القدس" قاسم سليماني، قبل ذلك بخمسة أيام، بمثابة نهاية للتصعيد العسكري مع الولايات المتحدة، الذي حرصت على وضع سقف واضح له من أجل تجنب تطوره إلى مواجهة عسكرية مفتوحة مع الأخيرة، تبدو غير مستعدة للتعامل مع عواقبها.
ومن هنا، بدأت إيران في إدارة تفاعلاتها مع الولايات المتحدة على المستوى السياسي، خاصة بعد أن أوعزت، حسب تقارير عديدة، للميليشيات الموالية لها، بعدم اتخاذ خطوات تصعيدية يمكن أن تدفع الأخيرة إلى الرد عسكرياً من جديد، خاصة أنها هددت من البداية بتحميل إيران المسئولية عن أى إجراء في هذا السياق.
وعلى ضوء ذلك، رأت إيران أن ممارسة ضغوط سياسية عبر حلفائها من القوى السياسية والميليشيات العراقية من أجل إخراج القوات الأمريكية يمثل إحدى الآليات الرئيسية التي يمكن أن تستند إليها في إدارة تلك التفاعلات. وقد كان لافتاً أن الدعوة إلى إخراج تلك القوات من العراق، ومن المنطقة بشكل عام، برزت في إيران حتى قبل أن يقوم البرلمان العراقي باتخاذ قراره في هذا الصدد.
وبعبارة أخرى، فإن إيران ما زالت مُصِرَّة على أن تدفع الولايات المتحدة كُلفة قتل سليماني سياسياً، لاسيما أن حرصها على ضبط حدود التصعيد العسكري من خلال الضربات الصاروخية كان له دور في ضعف النتائج التي أسفرت عنها، والتي انحصرت في إصابة 34 عسكرياً بارتجاج في الدماغ، حسب إعلان وزارة الدفاع الأمريكية في 24 يناير الجاري.
2- ملء الفراغ المحتمل: يرى الاتجاه الرئيسي في إيران أن الفراغ الذي سوف ينتج عن خروج القوات الأمريكية، وهو احتمال ما زال يواجه عقبات عديدة، قد يعزز نفوذ الميليشيات الموالية لها، على المستوى الأمني، خاصة أن هذه الخطوة سوف تدفع طهران إلى شن حملة سياسية بهدف الترويج للدور الذي يمكن أن تقوم به هذه الميليشات، باعتبار أنها، وفقاً لرؤية طهران، مؤهلة لملء هذا الفراغ، والاضطلاع بالدور الرئيسي في الحرب ضد التنظيمات الإرهابية، لاسيما تنظيم "داعش" الذي قد يستغل الانسحاب الأمريكي لتعزيز نشاطه من جديد.
وربما يمثل ذلك تمهيداً لإرسال مزيد من المستشارين العسكريين الإيرانيين أو عناصر من الميليشيات النقّالة التي قامت إيران بتكوينها وتدريبها للمشاركة في الصراع السوري إلى العراق، خاصة أن تراجع المواجهات العسكرية في سوريا طرح تساؤلات عديدة عن المهام الجديدة التي سوف تمارسها تلك الميليشيات في المرحلة القادمة، حيث لا يمكن استبعاد أن تقوم إيران بتكليفها بأدوار أخرى لتعزيز دورها في بعض مناطق الأزمات.
3- احتواء الحراك الشعبي: ربما يؤدي استمرار التظاهرات المؤيدة لإخراج القوات الأمريكية من العراق، في رؤية طهران، إلى تقليص الزخم والأهمية التي حظيت بها الاحتجاجات العراقية المناوئة لنفوذها ولدور الميليشيات المسلحة، وهى الاحتجاجات التي فرضت ضغوطاً قوية على الأخيرة وقلصت من قدرة القوى السياسية الموالية لها على تمرير مرشح جديد لتولي رئاسة الحكومة خلفاً لعادل عبد المهدي الذي قدم استقالته في 30 نوفمبر 2019، حيث لم تحظ الشخصيات المرشحة في الوقت الحالي لتولي المنصب بتوافق سياسي عام يمكن أن يساعد في حلحلة الأزمة الحالية.
واللافت في هذا السياق، هو أن الاحتجاجات الشعبية التي تشهدها العراق لم تكتسب أهميتها فقط، بالنسبة لإيران، من أنها تبنت شعارات مناوئة لنفوذها، وإنما أيضاً من أنها توازت مع الاحتجاجات التي شهدتها إيران نفسها سواء التي اندلعت في 15 نوفمبر 2019 اعتراضاً على رفع أسعار الوقود، أو التي تجددت في 11 يناير 2020 رفضاً لإسقاط الطائرة المدنية الأوكرانية.
اتجاه مضاد:
رغم أن الاتجاه الداعي لدعم التظاهرات المناوئة للوجود العسكري الأمريكي في العراق يكتسب أرضية واسعة في إيران، إلا أن ذلك لا ينفي أن ثمة اتجاهاً آخر يرى أن الانسحاب العسكري المحتمل للولايات المتحدة من العراق بقدر ما يوفر فرصاً لإيران، بقدر ما يمكن أن يفرض تحديات أمامها.
صحيح أن هذا الانسحاب، الذي ما زالت تعارضه الولايات المتحدة وردت على الدعوات المؤيدة له بالتهديد بفرض عقوبات على العراق، يمكن أن يعزز نفوذ إيران داخل العراق على المستويات المختلفة، إلا أنه في الوقت نفسه سوف يساهم في إبعاد أهداف ومصالح أمريكية من دائرة الاستهداف الإيراني.
وهنا، فإن هذا الاتجاه يرى أنه عندما قررت إيران توجيه ضربة انتقامية للولايات المتحدة بعد مقتل سليماني، كانت العراق هى الساحة التي ردت فيها، وليس أى ساحة أخرى تتواجد بها مصالح أو أهداف أمريكية، وهى ورقة يمكن أن تنتزع من إيران، في رؤية هذه الاتجاه، في حالة ما إذا انسحبت الولايات المتحدة عسكرياً من العراق.
وفي النهاية، فإن ما سبق في مجمله يشير إلى أن الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة، ولاسيما في العراق، سوف يبقى محور اهتمام خاصاً من جانب إيران، لاسيما في ظل استمرار التصعيد بين الطرفين وتصاعد حدة الخلافات حول ملفات أخرى لا تقل أهمية، وعلى رأسها الاتفاق النووي، الذي يبدو أنه وصل إلى مرحلته الأخيرة.