تبدو حالة الضعف الكردي أكثر وضوحاً كلما مر الأكراد باختبار صعب أو مرحلي في مساعيهم نحو تحقيق المشروع الكردي في أىٍ من الدول الأربعة بالإقليم (العراق – سوريا – تركيا – إيران). فعلى الرغم من أن سلطات إقليم كردستان العراق استقبلت نحو 60 لاجئاً من الأكراد السوريين في أعقاب الهجوم العسكري التركي على الشمال السوري بداية من 9 أكتوبر الفائت بهدف إقامة منطقة آمنة على عمق 32 كيلو متر، بالإضافة إلى التعاطف الجماهيري الواسع، الذي وصل إلى حد اندلاع تظاهرات في مواقع عديدة من الإقليم للتنديد بالقصف التركي ضد الأكراد مع تكرار حرق العلم التركي خلال تلك التظاهرات، إلا أن الموقف الرسمي لحكومة الإقليم بدا أنه يسير في اتجاه معاكس، إذ أشارت تصريحات مسئولين بارزين في الحكومة إلى قبولهم العملية العسكرية التركية وتفهمهم لأسبابها.
تباين نسبي:
أشارت تقارير عديدة إلى أن الأكراد العراقيين يتبنون سياسة مزدوجة، خاصة لجهة الإشارة إلى استيعاب المخاوف الأمنية لتركيا، على نحو يتوازى مع الكثير من الرؤى الكردية التي تطرح على المنصات الإعلامية والأكاديمية الكردية في العراق، ومنها على سبيل المثال "مدارات كردستان" و"رووداو" وغيرها، حيث يبدو أن هناك اتجاهاً لإعادة تقييم المشروع الكردي من أساسه من جانب عدد من المفكرين، في ظل الأزمات التي يتعرض لها الأكراد ليس فقط من جانب القوى الإقليمية المناوئة للمشروع الكردي، ولكن أيضاً من قبل القوى الكردية المنقسمة على ذاتها. ففي العراق بدا هذا الانقسام بشكل واضح بين درجة من التأييد للعملية التركية من جانب الحزب الديمقراطى الكردستاني الأقرب إلى أنقرة، مقابل تأييد أقل من الاتحاد الوطني الكردستادني المقرب من إيران، والتي وجهت انتقادات عديدة للعملية التركية في الشمال السوري.
تفسيرات مختلفة:
يمكن تفسير موقف أكراد العراق من المواجهة التركية-الكردية بشمال سوريا، في ضوء اعتبارات عديدة، يتمثل أبرزها في:
1- تجاوز تداعيات مرحلة الاستفتاء: وفقاً لتقديرات تركية عديدة، فإن حذر الأكراد العراقيين من التطورات التي طرأت على منطقة شمال سوريا ارتبط بمحاولة أربيل تجاوز أزمة التوتر التي شهدتها العلاقات مع تركيا، بعد إجراء الاستفتاء في الإقليم قبل نحو عامين، حيث وجه مسئولون أتراك، وفي مقدمتهم الرئيس رجب طيب أردوغان، اتهامات لمسعود برزاني بـ"الخيانة"، حيث قال أردوغان، في 26 سبتمبر 2017، أن "أنقرة كانت تتوقع حتى آخر لحظة ألا يرتكب بارزاني هذا الخطأ، غير أن هذه التوقعات لم تتحقق".
2- تأثير المصالح الاقتصادية: وهى التي تفسر أسباب حرص الحزب الديمقراطي الكردستاني على تأييد العملية العسكرية التركية، باعتبار أن لديه مصالح واسعة مع الحكومة التركية، من أبرزها، على سبيل المثال, عقد النفط والغاز المبرم بينهما على مدار 5 عقود قادمة. وتتسع العلاقات الاقتصادية بين الطرفين لدرجة تشير إليها تقارير عديدة كشفت أن إقليم كردستان العراق يعتمد على أنقرة بشكل كامل فى هذا الصدد، حيث تفوز الشركات التركية بالنسبة الأكبر في عقود إعادة الإعمار في شمال العراق.
3- الخصم المشترك: ينظر الطرفان الكردي "العراقي" والتركي إلى حزب العمال الكردستاني على أنه خصم مشترك، وهو ما انعكس في انتقاد مسعود بارزاني لموقف أكراد سوريا، في سياق تصريحاته التي دعا فيها إلى "إزالة الأسباب التي تدعو إلى القلق الأمني التركي"، في إشارة إلى حزب العمال الكردستانى وليس أكراد سوريا بالدرجة الأولى، في ظل العلاقة التي تربط الحزب والأكراد الناشطين في سوريا وتركيا.
وتتصاعد حدة الخلافات، بين الحين والآخر، بين الطرفين الكردي "العراقي" والعمال الكردستاني، وكان آخرها بعد حادث مقتل نائب القنصل التركي عثمان كوسيه، في نهاية يوليو الماضي، حيث اتهمت السلطات في الإقليم حزب العمال الكردستاني بقتله من أجل التأثير على العلاقات بين الإقليم وأنقرة، وهو ما يرد عليه الحزب باتهام نظيره العراقي بالعمل ضده لصالح تركيا من خلال استهداف الطيران التركي لمواقعه في شمال العراق بشكل دائم.
4- ضغوط المكاسب الاستراتيجية: يري اتجاه داخل الأكراد العراقيين أن هناك مخاوف إزاء المشروع الكردي "العراقي" الذي تعرض لأزمة بعد الاستفتاء الأخير، حيث أنه بعد رفض الولايات المتحدة تأييده لم تكن هناك فرصة لمواجهة القوى الإقليمية الضاغطة ضده، لاسيما إيران وتركيا، وهو ما يتوازى مع الاعتماد على الدولتين الإقليميتين بشكل كبير اقتصادياً، بما يعني أن معاداة أى منهما لسلطة الحكم الذاتي تعني نسف ما تحقق من مكتسبات وصل إليها أكراد العراق، بما يدفعهم إلى تجنب عداء تلك القوى من خلال الانكفاء على الداخل وعدم تأييد المشروعات التي يتبناها نظرائهم في دول الجوار.
5- التنافس الكردي– الكردي: تشير بعض التفسيرات الأكاديمية إلى تفسير آخر يقوم على أن هناك تنافساً كردياً– كردياً، على نحو لا يساهم في توسيع هامش الخيارات وحرية الحركة المتاح أمامهم في التعامل مع الضغوط التي تفرضها التطورات التي تشهدها الدول الأربعة، خاصة في سوريا والعراق.
في النهاية، ورغم تعدد التفسيرات الخاصة بالموقف الكردي العراقي من نظيره السوري، لكن تبقى هناك استنتاجات رئيسية، منها أن ثمة تحديات لا تبدو هينة تواجه المشروع القومي الكردي في الدول الأربعة، لا تنحصر في محاولات الأخيرة عرقلة هذه المشروعات عبر أدوات عديدة، وإنما تمتد أيضاً إلى التفكك البنيوي لهذه المشروعات، وهو ما يتضح مع كل اختبار كردي على المسارح الإقليمية المختلفة، فضلاً عن وجود حد أدنى لسقف هذه المشروعات، حيث يكون البديل المرجح لفشل خيار الانفصال هو العودة إلى صيغة الحكم الذاتي، على نحو بدا جلياً في مرحلة ما بعد تراجع مشروع "روج آفا" في سوريا، إذ بدأ الأكراد في العودة إلى المربع الأول وهو البحث عن إقليم حكم ذاتي في إطار العلاقة مع دمشق.