لم تسجل نتائج القمة الثلاثية التي عقدها الرؤساء الروسي فيلاديمير بوتين والإيراني حسن روحاني والتركي رجب طيب أردوغان (الدول الضامنة لمسار آستانا حول سوريا)، في أنقرة، في 16 سبتمبر الجاري، اختراقًا في الملفات الخلافية، التي اختزلت من خمسة ملفات كانت مدرجة على جدول أعمالها (إدلب، اللجنة الدستورية، إعادة الإعمار، الأوضاع الإنسانية، عودة اللاجئين) إلى النصف تقريبًا، حيث حاز ملفا إدلب واللجنة الدستورية على التركيز والاهتمام، وهو ما دفع اتجاهات عديدة للإشارة إلى أن النتائج انحصرت في مجرد عقد لقاء دوري ثلاثي دون أن تكون هناك مخرجات مهمة له، حيث لا يزال هامش التباينات بين الأطراف الثلاثة قائًما حول تلك الملفات.
خلافات مستمرة:
لم تساهم القمة الثلاثية في تقليص مساحة الخلافات العالقة في الملفات الرئيسية، بل إن تناول تلك الملفات ربما عكس تباعدًا في المواقف بين الأطراف المشاركة فيها. فعلى سبيل المثال، برز عنوان مكافحة الإرهاب كأحد العناوين الرئيسية على طاولة المباحثات، لكن خطاب الرئيس الروسي فيلاديمير بوتين ركز على أن الإرهاب يتركز في التنظيمات المتطرفة في إدلب والتي تروج روسيا إلى أنها تقوم مع النظام السوري بشن الحرب ضدها، في حين كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يتحدث عن أمر آخر، وهو أن الإرهاب في سوريا لا يعني حتى تنظيم "داعش" وإنما يعنى الأكراد في شرق الفرات، حيث ركز على أنه لا يجب تشكيل كيانات إرهابية، في إشارة إلى "قوات سوريا الديمقراطية"، بدعوى الحرب على "داعش".
وقد توسع أردوغان في تناول هذا السياق، معيدًا طرح مبادرته الخاصة حول مشروع "ممر السلام" لإعادة توطين نحو 2 مليون سوري في تلك المنطقة، في حين اعتبرت اتجاهات عديدة أن هذا المشروع لن يكون في واقع الأمر سوى تجربة مماثلة للمواقع التي تحتلها تركيا، بـ"شكل ناعم"، في الشمال السوري، لا سيما في عفرين وغيرها، حيث تسيطر على الإدارة وتقيم المدارس والجامعات وكافة المؤسسات هناك على النمط التركي لتكون منطقة تمدد تركي في العمق السوري، وهو ما يتناقض مع ما تضمنه البيان الختامي الذي يدعو إلى الحفاظ على وحدة وسلامة أراضى سوريا، ويشير إلى الازدواجية التي تتسم بها السياسة التركية في التعامل مع تطورات الأزمة في سوريا.
وفي ملف اللجنة الدستورية، طرح أردوغان تصورًا قام على أن هذه اللجنة باتت على وشك الانتهاء "في أقرب وقت ممكن" على حد قوله، في حين لم يؤكد بوتين ذلك، وبدا من حديثه وكأن هناك تقدمًا خطوة إلى الأمام على هذا الصعيد دون أن يصل إلى مرحلة التشكيل، بما يعني أن رؤية الطرفين لهذا الملف تبدو مختلفة. وقد أشار بيان للكرملين، في السياق ذاته، إلى أن هناك "خلافات محدودة جدًا"، وهو تصريح يبدو أكثر دقة، حيث يكشف عن أن المسألة لا تنحصر فقط في الخلاف بين موسكو وأنقرة، وإنما تمتد إلى الرؤية الخاصة للطرف الغائب في القمة وهو النظام السوري، والتي يمكن أن تؤثر على مستوى هذا الخلاف، وهو ما يحظى باهتمام من جانب موسكو التي أعلنت أنها سوف تقوم بإرسال مبعوثها الخاص إلى سوريا من أجل التشاور حول هذا الملف. ويمتد الخلاف أيضًا إلى مجموعات العمل المقترحة في اللجنة، على نحو أشار إليه الرئيس بوتين بقوله أن "هناك ملفات عالقة يجب أن تخضع للحوار بين الأطراف السوريين".
وإلى جانب ذلك، فإن الخلافات ما زالت مستمرة حول التعامل مع الأكراد. إذ تحاول روسيا استقطابهم بهدف إشراكهم في المباحثات التي تجري حول الترتيبات السياسية القادمة، وهو ما لا يحظى بقبول من جانب تركيا، التي تسعى إلى تقليص المكاسب السياسية التي حصلوا عليها في الفترة الماضية على خلفية الدور الذي قاموا به في الحرب ضد "داعش". ومع ذلك، فإن بعض المراقبين يعتبرون أن دعوة روسيا إلى إشراك الأكراد في المباحثات لا تمثل إلا مناورة من جانبها للضغط على تركيا ودفعها إلى تقديم تنازلات في الملفات الخلافية.
آلية التنسيق:
لا تزال القمم الثلاثية التي تمثل عنوانًا للتفاهمات التي تتوصل إليها الأطراف الضامنة لمسار آستانا، ناجحة في إظهار تماسك التوافق بين روسيا وإيران وتركيا، على الرغم من التباينات القائمة فيما بينها. وربما تحاول الدول الثلاث القفز على الخلافات لتجنب عرقلة هذا التوافق أو إنهاء التفاهمات الحالية. فعلى سبيل المثال، أشارت تقارير إعلامية روسية إلى أن الأوضاع الميدانية وخرائط الانتشار في إدلب تكشف أن الواقع الحالي تغير تمامًا عن ما كان عليه وقت إبرام اتفاق سوتشي قبل عام، حيث حملت تركيا المسئولية عن هذا التغيير، لتبرر بذلك اتجاه روسيا إلى دعم النظام في توسيع نقاط السيطرة في إدلب.
كذلك، استمرت التباينات حول ما إذا كانت الحرب في سوريا قد انتهت أم ما زالت مستمرة، خاصة بعد التصريحات التي أدلى بها وزير الخارجية الروسي سيرجى لافروف، في 13 سبتمبر الجاري، حيث ترى تركيا أنها لا تزال لديها معركة مؤجلة مع الأكراد في شرق الفرات، في حين ترى روسيا أن الملف الأهم في الوقت الحالي يتمثل في العمل ضد التنظيمات الإرهابية في إدلب، وهو ما يحظى بتأييد من جانب النظام.
وفى أفضل الأحوال، فإن التفاهمات التي قد يتوصل إليها الطرفان ربما تقضي بإبعاد قيادات متطرفة من إدلب، والسماح للحكومة بالدخول إلى عمق المحافظة لتقديم خدمات الإغاثة والأعمال الإنسانية، على نحو لا يبدو أنه سيكون أكثر من كونه مجرد غطاء لتكتيكات النظام وروسيا في التمدد داخل إدلب، بينما تنسحب تركيا تدريجيًا باتجاه الحدود حتى تصل إلى هدفها الخاص بإنشاء منطقة آمنة جديدة في إدلب على غرار شرق الفرات.
وعلى ضوء ذلك، يمكن القول إن حرص الدول الثلاث، روسيا وإيران وتركيا، على مواصلة التفاهمات بات يحظى بأولوية على أى شئ آخر، رغم هامش التباينات القائم فيما بينها. ومع أن هذا الهامش يبدو أكثر اتساعًا بين روسيا وتركيا، إلا أن تقارير عديدة أشارت أيضًا إلى أن إيران لم تخرج عن السياق ذاته، لكن الضغوط الحالية التي تتعرض لها، بسبب التصعيد مع الولايات المتحدة الأمريكية، ربما دفعتها في الوقت الحالي إلى تأجيل الإعلان عن مواقفها المختلفة إزاء بعض الملفات المطروحة.