أخبار المركز
  • إصدارات جديدة لمركز "المستقبل" في معرض الشارقة الدولي للكتاب خلال الفترة من 6-17 نوفمبر 2024
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية
  • مُتاح عدد جديد من سلسلة "ملفات المستقبل" بعنوان: (هاريس أم ترامب؟ الانتخابات الأمريكية 2024.. القضايا والمسارات المُحتملة)
  • د. أحمد سيد حسين يكتب: (ما بعد "قازان": ما الذي يحتاجه "بريكس" ليصبح قوة عالمية مؤثرة؟)
  • أ.د. ماجد عثمان يكتب: (العلاقة بين العمل الإحصائي والعمل السياسي)

تحديات جيوسياسية:

دور "القانون المرن" في حوكمة أنشطة الفضاء الخارجي

11 ديسمبر، 2023


عرض: دينا محمود

مع وصول البشرية إلى الفضاء الخارجي خلال القرن العشرين، كان لا بد من تكييف القانون الدولي للتعامل مع الأنشطة الجديدة. ففي ديسمبر 1958، وبعد عام واحد فقط من إطلاق أول قمر اصطناعي، قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة إنشاء هيئة رسمية، وهي لجنة استخدام الفضاء الخارجي في الأغراض السلمية (COPUOS) لتنظيم وإدارة الأنشطة المرتبطة بالفضاء الخارجي وتعزيز التعاون الدولي في هذا المجال، من خلال وضع الصكوك القانونية الملزمة لحوكمة أنشطة الفضاء الخارجي. 

مع ذلك، فقد تطور السياق الجيوسياسي، وأدى تعدد الأقطاب في النظام الدولي وتنوع الجهات الفاعلة، بما فيها الدول والمنظمات الحكومية الدولية والمنظمات غير الحكومية، إلى تعديل توازن القوى الذي كان قائماً في القرن الماضي. وعليه، تدعو بعض الدول إلى مفهوم القانون المرن  (Soft law)لبناء رؤى مشتركة لتوجيه الأنشطة الفضائية الناشئة، دون فرض التزامات قانونية صارمة، والحفاظ على قدر معين من المرونة لتكيفها مع التطورات المستقبلية، وعلى العكس من ذلك، تفضل دول أخرى الصكوك القانونية الملزمة، مثل المعاهدات والاتفاقيات التي توفر سبلاً لمحاسبة الدول المرتادة للفضاء في حالة حدوث انتهاكات.

في هذا السياق، تناقش ورقة بحثية للمعهد الفرنسي للعلاقات الدولية (Ifri) نشرت في سبتمبر 2023 للباحثة ليتيسيا سيزاري، الاحتياجات الجديدة لتنظيم الأنشطة الفضائية، والآليات التنظيمية المختلفة المطبقة على ظهور ممارسات فضائية جديدة، ومدى مراعاتها الاعتبارات الأخلاقية وتغيرات السياق الجيوسياسي في النظام الدولي، ثم تتناول دور القانون المرن في تنظيم الأنشطة الفضائية بشكل عام، وعلى المستوى الدولي بشكل خاص.

معاهدة الفضاء وسياقات متغيرة 

بعد وقت قصير من إطلاق القمر الاصطناعي "سبوتنيك-1" في أكتوبر1957، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة أول قرار لها متعلق بالفضاء في عام 1963، ويشمل المبادئ القانونية الأساسية المتعلقة بهذا المجال الجديد من النشاط، والذي كان الإطار المعياري الأول للأنشطة الفضائية، مما مهد الطريق أمام التفاوض بشأن المعاهدات وغيرها من الآليات الملزمة، على أساس رؤية مشتركة. 

وتم بناء الإطار القانوني الذي ينظم الفضاء الخارجي حول مبدأ "الأهداف السلمية"، التي كانت ضرورية في سياق ذلك الوقت، إذ تميزت فترة الستينيات والسبعينيات بالتوترات بين الكتلتين الشرقية والغربية خلال الحرب الباردة، وكانت مسرحاً للاضطرابات الدبلوماسية، وبالتالي الحاجة إلى تخفيف التوترات المرتبطة بالتصعيد النووي، من أجل منع انتشار الأسلحة، سواءً أكانت نووية أم لا، من الخروج عن نطاق السيطرة. 

وعليه، تم اعتماد معاهدة المبادئ المنظمة لأنشطة الدول في ميدان استكشاف واستخدام الفضاء الخارجي، بما في ذلك القمر والأجرام السماوية الأخرى في عام 1967، والتي تسمى أيضاً "معاهدة الفضاء الخارجي"، والتي تنص على أحكام وقواعد قانونية ملزمة للدول، كما تُحدد المبادئ الأساسية المتعلقة باستخدام الفضاء الخارجي في الأغراض السلمية. وتشمل هذه المبادئ أن يكون استكشاف واستخدام الفضاء الخارجي لتحقيق فائدة ومصالح جميع البلدان، وأنه لا يجوز التملك القومي للقمر والأجرام السماوية الأخرى، فضلاً عن مسؤولية الدولة عن الأضرار الناتجة عن نشاطاتها الفضائية وحظر استخدام الأسلحة في الفضاء وغيرها من المبادئ.

 ومع تنامي عدد الجهات الفاعلة، الحكومية وغير الحكومية، وكذلك التقنيات الجديدة مثل الشراكات بين القطاعين العام والخاص، والتي لها تبعات على طبيعة الأنشطة الفضائية ذاتها، ظهرت الحاجة خلال السنوات الأخيرة، إلى آليات جديدة وصكوك قانونية غير ملزمة لتنظيم أنشطة الفواعل الجدد في الأنشطة الفضائية، نظراً لكون الصكوك القانونية الملزمة كالمعاهدات والاتفاقيات الدولية غير كافية، ولا تواكب التطورات الحالية في الفضاء الخارجي.

ومن ثم فإن استخدام القانون المرن يتيح إمكانية تكييف الإطار القانوني المُطبق على العمليات الفضائية وتحديد الخطوط العريضة للإطار اللازم الذي يتعين وضعه لتوسيع أنشطة استكشاف الفضاء الخارجي، ويمكن للدول أن تختار الالتزام بها أو عدم الامتثال لها، وتستند المعايير غالباً إلى اعتبارات أخلاقية، وتتخذ شكل إعلان أو قرار أو توصية بشأن كيفية تنظيم الأنشطة الفضائية.

وعملت لجنة (COPUOS) على تطوير هذه المعايير من أجل توقع المواقف التي يمكن أن تثير التوترات أو تخلق حالة من عدم المساواة. فعلى سبيل المثال، في نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وضعت اللجنة مبادئ توجيهية لاتخاذ إجراءات الحد من الحطام الفضائي. وتسمح المبادئ التوجيهية للدول بتحديد الممارسات الجيدة التي يتعين تنفيذها من أجل الحد من مخاطر الاصطدام في المدار، والأنشطة الضارة بشكل عام. وقد مكنت هذه المبادئ التوجيهية بشكل خاص الهيئات التنظيمية الوطنية من تنسيق ممارساتها عند إصدار تراخيص العمل في الفضاء. 

جدل قواعد استكشاف الفضاء 

شهد قطاع الفضاء الخارجي في السنوات الأخيرة تحولات عديدة أدت إلى تصاعد الحاجة إلى حوكمة قطاع الفضاء، بما يتجاوز النظام التشريعي والسياسي التقليدي المطبق بشكل رئيسي على الدول لإعطاء دور أكثر أهمية للقطاع الخاص، ويمكن أن يتكون هذا الإطار من مجموعة من المعايير والقواعد المشتركة التي يتضمن تنفيذها مراعاة المجتمع للقيم الأخلاقية. وفي سياق استكشاف الفضاء، ومن خلال اعتماد معايير ومبادئ توجيهية مشتركة، تعتمد سلطات الدولة على أدوات قانونية غير ملزمة لتنسيق ممارساتها دون أن تجد نفسها مقيدة بآليات تقييدية مفرطة. 

بالنسبة لبعض الدول، يمثل القانون الصارم أفضل طريقة للنظر في إدارة الفضاء، ولاسيما فيما يتعلق بأمن الأجسام الموجودة في المدار. وهكذا، تم اقتراح مشروع المعاهدة الصينية الروسية، لحظر نشر الأسلحة في الفضاء وعدم استخدام القوة ضد الأجسام الفضائية وباعتباره صكاً ملزماً قانوناً، فإنه يهدف أيضاً إلى منع أي عسكرة للفضاء، وبالتالي ضمان أمن الفضاء.

مع ذلك، فإن بعض الدول، ولاسيما القوى الغربية، تعارض ترجمة بعض المفاهيم أو المبادئ القانونية في صك قانوني صارم. وينظر منتقدوها إلى هذه المعاهدات على أنها صارمة للغاية، إذ لا يمكنها مواكبة التطورات التكنولوجية وظهور علاقات جديدة بين الدول، ولكن يظل هدف الدولة هو سلامة أنشطتها الفضائية وحماية أنظمتها وتكنولوجياتها، إلا أن تعدد الأقطاب يميل إلى تعقيد التعاون الدولي.

وفي هذا السياق، باتت القواعد المطبقة على استكشاف الفضاء بشكل عام، وعلى الأنشطة المتعلقة بالموارد الفضائية بشكل خاص، موضع نقاش كبير منذ النصف الثاني من القرن العشرين. وفي عام 1979، تم اعتماد اتفاقية للحد من استغلال الموارد الفضائية وتشجيع الدول على إنشاء نظام دولي يتضمن إجراءات صارمة تحكم هذا النوع من النشاط. وترتكز على رغبة بعض الدول في ضمان قدر معين من العدالة بين الشعوب لمنع أي رغبة توسعية بالقوة.

 وما يزال هناك خلاف حول ما إذا كان القانون المرن فعالاً بما يكفي لمواجهة بعض التحديات الأكثر إلحاحاً في يومنا هذا، مثل مسألة الحطام الفضائي. كما أثبت القانون المرن عدم كفايته لتقييد أنشطة اختبار الصواريخ المضادة في الفضاء التي تقودها الدولة. على سبيل المثال، فإن اعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 2007 للمبادئ التوجيهية لتخفيف الحطام الفضائي لم يمنع الولايات المتحدة والهند والاتحاد الروسي من المضي قدماً في التدمير المتعمد اللاحق للأجسام الفضائية في المدار. 

ومع ذلك وبعد مرور خمسة عشر عاماً، صدر قرار للأمم المتحدة في أكتوبر 2022 يشجع جميع الدول على الالتزام بعدم إجراء اختبارات للصواريخ المدمرة المضادة للأقمار الاصطناعية ذات الصعود المباشر. كان هذا الالتزام موضوعاً لإعلانات عامة من قبل عدد صغير من الدول التي ترغب في "رفع مستوى السلوك المسؤول كمعيار". وفي هذه الحالة، فيما يتعلق بالموضوعات التي تتطلب إطاراً عاماً ودائماً، فإن تطوير صك قانوني صارم يمكن أن يؤدي إلى إقامة علاقات سلمية، على النحو الذي أوصت به بعض الدول. وتتميز المعاهدات بكونها تشكل نقطة مرجعية مشتركة يمكن للدول الرجوع إليها في حالة النزاع. ومع ذلك، لا يوجد حالياً أي أساس أخلاقي مشترك يمكن للدول أن تبني عليه هذه المعايير. 

وفي مواجهة التعددية القطبية المتنامية، يتعين على القوى الفضائية تأكيد أولوياتها، وتحديد الدول التي ستوافق على اتباعها في تعهداتها واتخاذ قرارات استراتيجية لاستخدام واستكشاف الفضاء في المستقبل. لهذا السبب، يبدو أن صياغة التوصيات والمبادئ التوجيهية وغيرها من صكوك القانون المرن هي الطريق الأكثر ملاءمة بشأن نقاط معينة مثل تدابير الشفافية أو تحديد الدول للسلوك غير المسؤول، ومن ثم يتم وضع قواعد معينة دون المرور بقانون صارم، ولكن مع الأخذ في الاعتبار بعض أبرز البنود في معاهدة الفضاء، مثل، مبادئ التعاون الدولي والمسؤوليات والحد من التدخل الضار المحتمل في أنشطة الدول الأخرى.

التنظيم الدولي للأنشطة الفضائية 

برغم قلة الدعم الذي حصلت عليه اتفاقية القمر لعام 1979، فإن بعض القوى الفضائية تسعى إلى تطوير نظام إدارة يحكم استكشاف الفضاء. واعتمدت عدة دول أيضاً قوانين وسياسات وطنية لتوفير إطار قانوني مستقر للشركات التي تخطط لاستغلال موارد الفضاء والقيام بأنشطة استكشاف الفضاء. وعلى المستوى الدولي، تم اتخاذ العديد من المبادرات. فمن ناحية، بادرت الولايات المتحدة باتفاقيات "أرتميس"، لإعادة البشر إلى القمر بحلول عام 2025، كما تعمل الجهات الحكومية في الدول الموقّعة على الاتفاقات على تعزيز السلوك المسؤول في الفضاء الخارجي بهدف توسيع استكشاف الفضاء. هذه الآليات الجديدة التي تصورتها وكالة "ناسا" تهدف إلى أن تكون نماذج للشفافية والتنسيق. 

بالتوازي مع المبادرة الأمريكية، أطلقت روسيا والصين بدءاً من عام 2021، مشروعاً مشتركاً يهدف إلى إنشاء قاعدة قمرية، وهي محطة الأبحاث القمرية الدولية، إذ تعمل الدولتان معاً في مهمات مأهولة يمكن إرسالها إلى القمر قبل عام 2030 لتوسيع محطة الفضاء المدارية للبلاد. ومن خلال وجهة النظر المعاكسة لاتفاقيات "أرتميس"، تقوم الدولتان بتطوير أنشطتهما المستقبلية على أساس دعوة للتعاون مع الدول الأخرى التي ستكون قادرة على المشاركة في اختيار أفراد الطاقم للمهام المستقبلية.

 بعد عامين من إطلاق هذه الشراكة، أبدت عدة دول أخرى اهتمامها بالتعاون في شكل خطابات نوايا مثل: الأرجنتين وباكستان والبرازيل. وعلى نحو مماثل، وقعت منظمة التعاون الفضائي لآسيا والمحيط الهادئ، التي تضم الصين وبنغلاديش وإيران ومنغوليا وباكستان وبيرو وتايلاند، على إعلان مشترك بشأن محطة الأبحاث القمرية الدولية. 

وتتمتع الصين حالياً باقتصاد قوي ومكانة متميزة كشريك اقتصادي رئيسي لعدد كبير من البلدان. إضافة إلى ذلك فإن قدراتها التقنية والعلمية تسمح لها بالتعاون مع القوى الفضائية الأخرى، كما تدعم حكومات معينة في طموحاتها الفضائية، خاصة في القارة الإفريقية، ناهيك عن تمتعها بتأثير متزايد في الساحة الدولية بشكل عام وفي قطاع الفضاء بشكل خاص. ومع ذلك، تواجه البلاد تحدياً كبيراً: وهو عدم القدرة على التعاون مع الولايات المتحدة في المشروعات التي تنفذها وكالة ناسا أو مكتب سياسات العلوم والتكنولوجيا.

ويحقق العلماء الروس تقدماً داخل محطة الفضاء الدولية، جنباً إلى جنب مع المشاركين الآخرين في المحطة، وقد انضموا إلى مختبر الفضاء الصيني ومشاريع القاعدة القمرية. كما تتمتع روسيا بقدرات إطلاق تمنحها مكانة مهمة كدولة فضائية، سواءً من الناحية المدنية أم العسكرية. الأمر ذاته بالنسبة للهند والاتحاد الأوروبي، فهما قوتان فضائيتان رئيسيتان ولهما دور دبلوماسي كبير. 

يضاف إلى ذلك القوى الفضائية الناشئة التي تتسم استراتيجياتها الوطنية في السياق الحالي للتوترات الدولية بالغموض في بعض الأحيان، الأمر الذي قد يؤدي إلى إضعاف العلاقات الدولية. وتمتد التحالفات التي تتم على الأرض إلى التعاون في قطاع الفضاء، مما يخلق وضعاً غير مستقر للتفاوض ويؤثر بدوره في مشروعات الفضاء الحالية. وتمثل الصكوك القانونية غير الملزمة قاعدة مرجعية لعدد كبير من الدول، ولاسيما القوى الفضائية الناشئة. إذ تكمل القواعد الملزمة وتعمل أحياناً، كمعايير مرجعية لتطوير نظام الإدارة من أجل الإشراف على العمليات الناشئة، ولاسيما المهام القمرية المستقبلية. مع ذلك، فإن تنفيذ هذه المشروعات يواجه وضعاً جيوسياسياً معقداً. 

في الختام، استناداً إلى مبادئ القانون الدولي العام المعترف بها، تظل الصكوك القانونية المعتمدة في القرن العشرين مرجعاً للدول في سياق أنشطتها الفضائية. مع ذلك، فإن تفسيرها يعتمد على ممارسات الدول والإعلانات الرسمية بشأن موضوعات معينة، على أساس اعتبارات أخلاقية. ومع ظهور مشروعات فضائية جديدة في المستقبل وتنوع الجهات المعنية بالأنشطة الفضائية، الحكومية وغير الحكومية، فإن الإطار القانوني الذي تم تطويره خلال القرن الماضي سيستفيد بلا شك من إضافة قواعد جديدة من شأنها أن تقلل من التوترات بين القوى وتعزز استدامة البيئة الفضائية لعمليات قابلة للاستمرار على المدى الطويل. وفي النظام الحالي المتعدد الأقطاب، يجب على الدول أن تنظر في الحفاظ على أمن الفضاء وسلامته باعتباره يتجاوز المنافسات القائمة، حتى لا تنقل الصراعات التي تدور رحاها على الأرض إلى الفضاء.

المصدر: 

Laetitia Cesari, « Éthique et responsabilité dans l’exploration spatiale: l’essor de la soft Law pour encadrer les nouvelles pratiques », Ifri, septembre 2023.