ما يجري في ليبيا في هذه الآونة من جانب القوى الداعمة للإرهاب فيها يستحق التوقف دون شك، وليس دعم الفصائل الإرهابية في الحرب الدائرة هناك بالأمر الجديد وأبطاله معروفون، لكن الجديد هو خروج ذلك إلى العلن بجرأة لم يكن أنصار الإرهاب ليقدموا عليها لولا تخاذل المواقف الدولية الذي يَحدُث حيناً بسبب مصالح واضحة وحيناً آخر لسوء تقدير عواقب التسامح مع دعم الإرهاب على حساب أصحاب المواقف المتخاذلة أنفسهم. وللأسف يتستر داعمو الإرهاب بغطاء يسمونه الشرعية علماً بأن هذا الغطاء فقدَ كل مسوغاتها، فحكومة «الوفاق الوطني» التي يصفونها بالشرعية فقدت مقومات الشرعية كافة، فلا يوجد «وفاق وطني» حولها أصلاً، ومدتها انتهت بمقتضى الاتفاقية التي أُسسَت بموجبها، وتشكيلاتها اهترأت، ناهيك عن أن الجميع يتجاهل مجلس النواب الشرعي المعترف به، والذي لم يعط ثقته أصلاً لا لحكومة السراج ولا لتصرفاتها المرفوضة وآخرها توقيع مذكرتي التفاهم مع أردوغان، إذ مثّلت أولاهما اعتداءً على حقوق دول شرق المتوسط كافة، ومثّلت الثانية انتهاكاً سافراً لقرارات مجلس الأمن الخاصة بحظر توريد الأسلحة لأطراف الصراع. ولم يكن توقيع هاتين المذكرتين سوى انعكاس للسقوط الوشيك لحكومة السراج، فلجأت إلى داعميها، وبالمقابل وجدها أردوغان فرصة لتحقيق مطامعه عبر اتفاقية باطلة لترسيم الحدود البحرية تجاهلت حقوق دول شرق المتوسط كافة، وفقاً لأحكام قانون البحار الذي ارتضته الجماعة الدولية.
وتسارعت خطوات المسرحية بطلب السراج تدخل القوات التركية وحصول أردوغان على موافقة البرلمان التركي على ذلك، وتصريحه ببدء إرسال قوات فعلاً. غير أن التطورات كشفت تراجعه في وجه الاعتراضات العربية والأوروبية، فصرّح بأنه لن يرسل قوات تركية وإنما «مقاتلين» يحاربون في صف السراج، وهو تعبير مهذب عن إرسال مرتزقة من الذين يحاربون في صفه في سوريا على أن يقتصر دور الأتراك على التدريب والمشورة، وذلك بعد أن تنبّه لخطورة السقوط في مستنقع التدخل المباشر.
وكانت تقارير قد ذكرت أن آلافاً من المرتزقة الذين يحاربون في صفوف الفصائل الإرهابية في سوريا تم نقلهم إلى ليبيا برعاية تركية، مقابل رواتب مغرية تصل إلى ثلاثة آلاف دولار شهرياً، وأن نقلهم بطائرات مدنية قد بدأ بالفعل، وعززت مقاطع فيديو هذه التقارير، وفي البداية جرى نفيها من رعاة الإرهاب إلى أن جاءت لحظة الحقيقة باعتراف السراج نفسه بوجودهم وإن على نحو غير مباشر، فعندما سُئل في حديث أجرته معه الفضائية البريطانية الناطقة بالعربية عن حقيقة الأمر، لم ينفه على الإطلاق، وإن لم يعترف صراحة بوجودهم، لكن إجاباته جاءت كاشفة للحقيقة دون أدنى لبس، فقد ركزت إجابته على ثلاث نقاط تكشف كل شيء، ذكر في الأولى منها أن كثيراً من شرائط الفيديو التي أظهرت هؤلاء المرتزقة غير صحيح، أي أن بعضها على الأقل صحيح، وأشار في النقطة الثانية إلى أن الطرف الآخر يتلقى مساعدات، وفي النقطة الثالثة قرر أنه في حالة دفاع عن النفس ولا يلام إذا لجأ لأي وسيلة أو تعاون مع أي طرف. ولا يتضمن أي من التعبيرات السابقة نفياً لوجود المرتزقة وإنما تبريراً لوجودهم.
ثم حسم أردوغان المسألة في مؤتمره الصحفي الأخير مع المستشارة الألمانية، بإعلانه أنه أرسل مستشارين عسكريين لتدريب المقاتلين الموالين لحكومة السراج، وقال: «لن ندع رئيس حكومة الوفاق يقف وحيداً على جبهات القتال، وعازمون على تقديم الدعم له بناءً على موافقة الأغلبية البرلمانية في تركيا». والأسوأ أنه غلف موقفه بادعاءات الشرعية، أما ثالثة الأثافي فهي اعتباره أن ما يفعله «حق يستند إلى ماضي تركيا» في تأكيد جديد على أوهام استعادة العثمانية، وقد تعودنا منه هذه الخزعبلات. لكن اللافت حقاً هو موقف ميركل التي لم تكبد نفسها حتى مشقة تذكيره بأن ما قاله يمثل خرقاً لمقررات مؤتمر برلين الذي انتهى لتوه، وهو ما يفتح باب الحديث عن المواقف الدولية الملتبسة في مقالة قادمة.
*نقلا عن صحيفةالاتحاد