تحقق قوات سوريا الديمقراطية "قسد" بشكل مستمر تقدمًا ميدانيًا في مدينة الرقة، التي تمثل المعقل الأساسي لتنظيم "داعش" في سوريا، إذ أعلنت أنها تمكنت من تحرير 70% من أحياء المدينة من سيطرة التنظيم، بعد أن نجحت خطة تقسيم المدينة إلى شطرين شرقي وغربي والتي أعقبها اقتحامها من الجانبين، حيث التقت عناصر تلك الميليشيا التي تقدمت نحو الأجزاء الشرقية والغربية للمدينة للمرة الأولى في 11 أغسطس الجاري، بشكل بات يمنع "داعش" من الوصول إلى نهر الفرات ويبقى على عناصره إلى جانب المدنيين محاصرين من الجانبين.
وقد دفعت هذه التطورات تنظيم "داعش" إلى اتخاذ خطوات تكتيكية للتعامل معها، حيث كلف الكثير من عناصره بالتوجه في مسار جنوبى- جنوبي إلى مدينة دير الزور التي يحافظ فيها على قاعدة من مقاتليه ويسيطر على مساحة تصل إلى نحو 60% منها، كما تعمد زرع ألغام ونشر قناصة أعاقت تقدم "قسد" في المناطق التي يسيطر عليها.
واللافت في هذا السياق، هو أنه رغم ظهور مؤشرات عديدة تكشف عن اقتراب معركة دير الزور، إلا أنه لم يحسم بعد ما إذا كانت "قسد" سوف تواصل قتال التنظيم خارج مدينة الرقة أم ستقف عند حدودها حسب ما يقتضيه إصرارها على تأسيس منطقة حكم ذاتي رغم معارضة بعض القوى المنخرطة في الصراع السوري لذلك على غرار تركيا.
كما لم يحدد التحالف الدولي بعد ترتيبات المعركة في دير الزور التي ينظر إليها على أنها الأكثر أهمية على المستوى الجيوسياسي من الرقة. إذ أن الانتصار على "داعش" في الأخيرة سيعد مكسبًا سياسيًا في المقام الأول، في حين أن حل تعقيدات الوضع فى الأولى سيحسم أكثر من معركة على الساحة السورية، خاصة المعارك ضد "داعش" والمواجهات بين الأطراف المحلية، قبل خوض مرحلة يرجح أن ستكون مختلفة في التسوية الشاملة للملف السوري.
تباين ملحوظ:
أعلنت قوات سوريا الديمقراطية الأسبوع الجاري رسميًا عن بدء المرحلة الثانية من معركة الرقة من بين ثلاث مراحل عمليات مخطط لها لإنهاء وجود التنظيم في المدينة منذ نوفمبر الماضي. وفى حين لم تكشف عن نواياها من استكمال العمليات خارج حدود الرقة وفقًا لصالح مسلم رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي مطلع الشهر الماضي، الذي قال فى حديث مع صحيفة "ايزفستيا" الروسية أنه "لا توجد خطة لدى الكرد ما بعد الرقة أو استعدادات للتقدم فى دير الزور"، بما يعني أن الرقة ستكون، وفقًا لهذا التصور، آخر حدود العمليات التي تقوم بها "قسد".
لكن فى مقابل ذلك، ترجح تقارير عديدة لمواقع محسوبة على الاكراد أن تستكمل "قسد" الطريق إلى دير الزور، فى ظل مؤشرات تفيد أنها تلقت دعمًا عسكريًا جديدًا من التحالف الدولي، بالإضافة الى ظهور بوادر لتمهيد لوجيستى لعمليات دير الزور ظهرت مؤشراته فى تجهيز التحالف للانطلاق من ريف الحسكة ومن قاعدة الشدادى على وجه التحديد باتجاه دير الزور.
وفى ضوء معارضة "قسد" حلول ميليشيا "مغاوير الثورة" محلها في الشدادى كقوة بديلة بهدف تولي مهمة العمليات في دير الزور، فمن المرجح أن تستكمل "قسد" العمليات، ويدعم ذلك أيضًا أنه لم يتم الإعلان رسميًا عن نجاح المفاوضات بين "مغاوير الثورة" وقيادة التحالف على تشكيل مليشيا "الجيش الوطني" لدير الزور. لكن فى المقابل هناك تسريبات تشير إلى أن المفاوضات تتقدم مع قيادة "قسد" لتولي المهمة، وأنه سوف يشكل "مجلس دير الزور العسكري" كقوة عسكرية للمشاركة في تلك المهمة.
تعقيدات المعركة:
تباينت مواقف القوى الدولية المعنية بالحرب ضد "داعش" إزاء المعركة المحتملة في دير الزور. فقد أعلن وزير الدفاع الروسي سيرجي شويغو عن جهوزية قوات النظام لكسر الحصار، مشيرًا إلى أن هناك دعمًا روسيًا بغطاء جوى سيحسم المعركة، لكنه سيقتصر فقط على كسر حصار "داعش"، في حين أشارت التقارير الصادرة عن قيادة التحالف الدولي إلى استعدادات الأخير لإرسال مستشاريه إلى قاعدة الشدادي تحضيرًا للمعركة، بعد أن تم نقل آليات عسكرية من العراق بالفعل، بالتوازي مع ظهور تحذيرات من أن معركة دير الزور سوف تكون أكثر صعوبة من الرقة كونها تشكل المعقل الرئيسي الأخير للتنظيم.
وعلى ضوء ذلك، سوف يتعين أولاً فض الاشتباك بين من سيقوم بتولي تلك المهمة، سواء كانت الولايات المتحدة الأمريكية التي ستبحث، في هذه الحالة، عن شريك محلي مناسب للقيام بهذا الدور، أو روسيا، التي سوف تحاول، في الغالب، العمل على تأسيس منطقة آمنة بهدف توجيه الأطراف نحو قتال "داعش" فقط.
وعلى الساحة الداخلية، تتسم خريطة القوى التي يتوقع انخراطها في تلك المعركة بالتعقيد، بشكل سوف يؤثر على مساراتها المحتملة. إذ يسيطر تنظيم "داعش" على 60% من مساحة دير الزور في مقابل سيطرة النظام على 40%، وهو ما يعنى أن من سيتصدى لـ"داعش" فى تلك المنطقة سواء "قسد" أو "مغاوير الثورة" سيكون عرضة لمواجهة مع طرف ثالث وهو قوات النظام.
وإذا كان ينظر إلى معركة الرقة على أنها المعركة الأساسية في الحرب ضد "داعش" في سوريا، والتي تهدف إلى إنهاء مظاهر وجوده كتنظم، خاصة في ظل الأهمية الخاصة التي تحظى بها تلك المدينة بالنسبة للأخير، فإنه ينظر إلى دير الزور على أنها المعركة التي سوف تؤثر على اتجاهات الصراع في سوريا، قبل الوصول إلى تسوية شاملة، حيث ستكون خريطة انتشار كافة القوى قد اتضحت ملامحها بالنظر إلى وزنها الجيوسياسي، وهو ما عبر عنه وزير الدفاع الروسي سيرجي شويغو بقوله أن "دير الزور تحظى بأهمية استراتيجية استثنائية كإحدى النقاط الرئيسية عند نهر الفرات".
وعلى ضوء ذلك، يمكن القول في النهاية إن "قوات سوريا الديمقراطية" باتت تواجه مأزق "الخيارات الضيقة" في التعامل مع الاستعدادات الجارية لمعركة دير الزور. إذ أن حدود مشروعها الخاص بتأسيس منطقة حكم ذاتي في نطاق فيدرالي على غرار التجربة العراقية تفرض عليها إنهاء مهامها عند مدينة الرقة، في حين أن الدعم المستمر الذي يقدمه التحالف الدولي لها يفرض عليها ضغوطًا قوية من أجل الاستمرار في الحرب ضد "داعش" حتى النهاية، وتحديدًا حتى إنهاء وجوده في مدينة دير الزور.