أخبار المركز
  • يشارك مركز "المستقبل" في الدورة الـ33 لمعرض أبوظبي الدولي للكتاب في الفترة (29 إبريل - 5 مايو 2024)، وجناحه رقم C39 في القاعة 9
  • مركز "المستقبل" يصدر العدد 36 من دورية "اتجاهات الأحداث"
  • صدور العدد السادس من "التقرير الاستراتيجي" بعنوان "حالة الإقليم: التفاعلات الرئيسية في منطقة الشرق الأوسط 2024"
  • محمد خلفان الصوافي يكتب: (منتدى الخليج وأوروبا.. دبلوماسية جماعية للتهدئة الإقليمية)
  • معالي نبيل فهمي يكتب: (تأملات حول فشل جهود السلام الفلسطينية الإسرائيلية)

اختلال الطلب:

لماذا تتكرر ظاهرة "الأسعار السلبية" في أسواق الطاقة العالمية؟

31 يوليو، 2023


تفاجأ العالم حينما تدهورت أسعار النفط الخام بشدة في العام الأول لجائحة "كوفيد19"، وبلغت المنطقة السلبية لأول مرة في التاريخ، وكان ذلك في شهر إبريل 2020. ولم يكن ذاك الأمر مُعتاداً حينها، أما الآن فقد باتت الأسعار السلبية للطاقة ظاهرة أكثر شيوعاً أثناء تداولات النفط والغاز وكذلك الكهرباء في الأسواق الأمريكية والأوروبية وحتى الصينية. 

وتقع أسعار الطاقة في المنطقة السلبية تحت تأثير ظروف محددة، أبرزها وجود عرض وفير من الطاقة يتجاوز الطلب المحدود، ويتواكب ذلك مع نفاد مساحات التخزين أو عدم قدرة المنتجين على وقف إنتاج الوقود أو الكهرباء. وتلك الشروط يمكن أن تحدث بين حين وآخر، وهي تقلل من استقرار المركز المالي لشركات الطاقة. ويتطلب الحد من آثار هذه الظاهرة، إعادة النظر في تصميم البنية التحتية لنقل الطاقة وتوزيعها وتخزينها، إلى جانب تعديل التشريعات المنظمة لإدارة تداول الكهرباء والوقود. 

ظاهرة متكررة:

صارت ظاهرة الأسعار السلبية للطاقة ذائعة الانتشار في أسواق الطاقة الأوروبية والأمريكية والصينية، ويتضح ذلك على النحو التالي:

1- أسواق النفط: كان تحول عقود خام غرب تكساس الوسيط الأمريكي للمنطقة السلبية في عام 2020، حدثاً مفاجئاً للعالم آنذاك، حيث انخفضت العقود الآجلة للخام الأمريكي تسليم شهر مايو 2020 إلى سالب 73.63 دولار للبرميل، وكان ذلك في جلسة 21 إبريل من نفس العام، وهذا يعني أن حائزي العقود عليهم دفع أموال لبيع النفط. وتلك ظاهرة لا تتكرر كثيراً في أسواق تداول العقود الآجلة للنفط، وكان حدوثها استثنائياً في عام الجائحة، حيث تدهور الطلب على النفط بشكل حاد بسبب قيود الحجر الصحي، كما اقتربت مساحات التخزين بالولايات المتحدة الأمريكية من السعة القصوى.

2- أسواق الغاز: على غرار سوق النفط، سجلت أسعار الغاز قيماً سلبية على نحو متكرر بالأسواق الأمريكية في الفترة الماضية، فقد شهد مركز (Waha hub)، وهو نقطة رئيسية لتداول الغاز في ولاية تكساس الأمريكية، تحول أسعار الخام للمنطقة السلبية عدة مرات، وكان آخرها في شهر مايو الماضي عندما بلغ سعر الغاز سالب 0.35 للمليون وحدة حرارية. وجاء ذلك وسط انخفاض الطلب المحلي وظروف الطقس المُعتدل.

وفي أوروبا، تم تداول أسعار الغاز ضمن نطاق سلبي من قبل، ففي المملكة المتحدة انخفضت الأسعار إلى ما دون الصفر عام 2006 بعد أن بدأ تدفق الغاز من النرويج إلى بريطانيا للمرة الأولى، وكانت مواقع التخزين ممتلئة تقريباً.

3- أسواق الكهرباء: يتكرر كثيراً تداول أسعار الكهرباء في المنطقة السلبية بالبورصات الأوروبية والأمريكية وحتى نظيرتها الصينية أيضاً. واتجهت أسعار الكهرباء في بورصة الكهرباء الأوروبية (Epex Spot SE) لتسجيل قيم سلبية عدة مرات في شهر يوليو 2023. وهذا ليس مفاجئاً، ففي العام الماضي شهدت ألمانيا، أكبر مستهلكي الكهرباء في أوروبا، أسعاراً سلبية خلال 69 من إجمالي 8760 ساعة تداول للكهرباء، وفق البيانات المنشورة للبورصة.

إلى جانب أوروبا، شهد سوق الكهرباء الفورية في مقاطعة شاندونغ الصينية رقماً قياسياً عند 22 ساعة متتالية من أسعار الكهرباء السلبية في أوائل شهر مايو الماضي. وحدث هذا التراجع بسبب وفرة الطاقة المُتاحة عبر مصادر الطاقة المتجددة، إلى جانب انخفاض الطلب على الطاقة. 

ظروف محددة:

تحدث أسعار الطاقة السلبية تحت تأثير شروط محددة، ترتبط في جوهرها بالعرض والطلب على الوقود والكهرباء، ويمكن توضيحها على النحو التالي:

1- أسواق منظمة: عادةً ما تحدث ظاهرة الأسعار السلبية للطاقة في أسواق يتم فيها تداول منتجات النفط أو الغاز أو الكهرباء بموجب عقود آجلة أو قصيرة الأمد. ويدير عمليات التداول والمقاصة بين البائعين والمشترين، منظمون أو مشغلون رئيسيون. ومثالاً على ذلك، في بورصة الكهرباء الأوروبية (EPEX Spot SE)، يعرض منتجو الكهرباء كميات معينة من الطاقة مقابل سعر معين، بينما يضع المشترون (تجارة الجملة للكهرباء) مقدار احتياجهم من الكهرباء وفق سعر معين، وعند تاريخ محدد تُحدد نقطة الالتقاء بين الطرفين.

2- انخفاض الطلب: هناك ظرفان جوهريان لانتقال أسعار الطاقة من القيم الإيجابية للسلبية، وهما وجود عرض وفير من الطاقة، مع طلب سوقي ضئيل، على غرار ما حدث أثناء جائحة "كورونا"، في الوقت الذي لا يستطيع فيه المنتجون إغلاق حقول النفط أو الغاز نهائياً أو أن وقفها ستترتب عليه مشكلات فنية كبيرة. ونفس الأمر بالنسبة لمحطات الطاقة الشمسية أو الرياح، لا يمكن وقفها عن العمل كلياً لأسباب فنية. 

3- محدودية التخزين: إلى جانب وفرة المعروض، لا يكون هناك مساحات كافية لتخزين النفط والغاز من أجل البيع اللاحق، أو عدم وجود بنية مناسبة لنقل التدفقات إلى المواقع الأكثر استهلاكاً. وكانت منشآت تخزين النفط الأمريكي شبه ممتلئة أثناء جائحة "كورونا"، بحيث يصعب العثور على مساحات إضافية للتخزين. ووفق إدارة معلومات الطاقة الأمريكية، كانت منشآت التخزين في كوشينغ بولاية أوكلاهوما ممتلئة بنسبة 72% في 10 إبريل 2020. وبالنسبة لشبكات الكهرباء، فإن الكثير من محطات الطاقة الشمسية والرياح حول العالم غير مرتبطة حالياً بأنظمة لتخزين الكهرباء. ومن ثم للحفاظ على استقرار الشبكة الكهربائية، ينبغي إجراء موازنة دقيقة بين الكميات المُنتجة من الكهرباء والطلب عليها.

قضية المستهلكين:

تفرض أسعار الطاقة السلبية قضية جانبية أخرى؛ وهي كيفية تسعير الوقود أو الكهرباء للمستخدمين النهائيين. كما ذكرنا آنفاً، عندما تتحول أسعار النفط للقيم السلبية، فهذا يعني أن حائزي العقود عليهم دفع أموال للمشترين الآخرين لبيع العقود. ومع ذلك، ففي السوق الحقيقي، لن يقوم تجار أو شركات التجزئة بتوريد الوقود أو النفط الخام للمستخدمين النهائيين (أفراد أو منشآت) من دون ثمن؛ لأن السوق الآجلة لا تُمثل إلا جزءاً فقط من الكميات المُباعة من النفط في الأسواق الحقيقية. بخلاف ذلك، تتحمل شركات أو تجار التجزئة تكاليف تسويقية ورسوم أخرى عند بيع الوقود للمستهلكين. ويتكرر نفس الأمر بالنسبة لأسواق الكهرباء، ففي بعض البلدان لا يستفيد المستخدمون النهائيون من تدني أسعار الجملة للكهرباء لنطاق سلبي، حيث يتم تسعير الكهرباء بموجب تعريفات ثابتة مقابل الاستهلاك، وقد تشترط التشريعات المنظمة حصول المنتجين على تعريفة محددة للإنتاج بغض النظر عن مستوى التكاليف.

وفي حالات أخرى، قد تضطر الشركات لدفع أموال للمستهلكين عند تحول أسعار الكهرباء لمنطقة سلبية. ففي يوم عطلة الأحد 9 يوليو 2023، دفعت الشركة البريطانية (Octopus Energy) لعملائها ما بين 2 إلى 5 بنسات لكل كيلووات/ ساعة مقابل الكهرباء التي يستهلكونها في فترات ركود الطلب. وحسب إفصاح الشركة، حصل العملاء على حوافز مالية إضافية تتراوح بين 5 إلى 22 جنيهاً إسترلينياً لاستهلاك مزيد من الكهرباء في اليوم المذكور (يعادل ذلك ما بين 3 إلى 13% من متوسط فواتير الكهرباء الشهرية في بريطانيا). ويُمثل هذا حلاً ناجحاً حتى الآن لتصريف فائض الطاقة والكهرباء في أوروبا، لكنه ليس حلاً مثالياً على الإطلاق، إذ تعكس شبكات الطاقة - الكهرباء خصوصاً - في أوروبا أوجه قصور في استيعاب الطاقة الزائدة؛ بسبب إشكاليات نقص شبكات النقل والتوزيع وتخزين الكهرباء.

إجراءات إضافية:

تؤدي ظاهرة الأسعار السلبية للطاقة إلى اهتمام صانعي القرار وأطراف الصناعة بثلاث قضايا رئيسية؛ هي: نقل وتوزيع الطاقة، والبنية التحتية للتخزين، وتصميم شبكات الكهرباء والطاقة، كالتالي: 

1- في حال وجود فائض دائم للطاقة والكهرباء، ستكون هناك حاجة ماسة لتقوية بنية توزيع ونقل الطاقة أو الكهرباء من المواقع الأقل استهلاكاً إلى أكثرها طلباً. وفي بعض الحالات، قد يكون من الضروري ربط شبكات البنية التحتية للكهرباء بين الدول المتجاورة، وسد الفجوات المُحتملة في إنتاج الكهرباء بمواقع بعيدة. 

2- يُعد توسيع الطاقة الاستيعابية لمنشآت تخزين الوقود من المسائل الحيوية للاستجابة للظروف المُتغيرة في سوق الطاقة، حيث توفر للشركات فرصاً جديدة من خلال تكييف الطلب. ويتطلب التوسع في مصادر الطاقة المتجددة تعزيز قدرات تخزين الكهرباء، من أجل دعم استقرار شبكات الكهرباء وتعزيز مرونتها. ويُعول العالم الآن على إحراز تقدم في تقنيات بطاريات التخزين باعتبار أنها المحرك الرئيسي لإتاحة طاقة متجددة وفيرة ورخيصة.

3- ثمة ضرورة ملحة لتنظيم العلاقات بين أطراف السوق مع تكرار ظاهرة الأسعار السلبية، وذلك عبر تبني بنية تشريعية وتنظيمية تُراعي مصالح أطراف الصناعة كافة من المنتجين والمستهلكين والموزعين. ويتضمن ذلك تحديد أعباء والتزامات كل من المستهلكين النهائيين والمنتجين؛ في ضوء ظاهرة الأسعار السلبية للطاقة، إلى جانب توفير ما يلزم من قواعد لحماية المستثمرين أثناء فترات الأسعار السلبية. 

ختاماً، يمكن القول إن الأسعار السلبية للطاقة صارت ظاهرة متكررة في تداولات أسواق النفط أو الكهرباء في كثير من أنحاء العالم، وبقدر تأثيرها المحدود في استقرار صناعة الطاقة حالياً، بيد أنها تكشف عن ضرورة اتخاذ مزيد من السياسات الحاسمة لدعم البنى التحتية لنقل وتوزيع الطاقة (الكهرباء)، وتعزيز ترابط شبكات الطاقة بين الأسواق المحلية والدولية.